الجمعة، 17 أكتوبر 2025

معصومـــــة وجلنارـ قصةٌ قصـــــــيرةٌ: لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة

                         ـــ 1 ـــ

الآلاتُ الكاتبة تدقُ. تأكلُ الورقَ وعينيها. تصطكُ في سمعها. عباءتُها معلقةٌ على كرسيها. منحنيةٌ على الآلة وأصابعُها الطويلة الرقيقة تتوغلُ في الحروفِ الحديدية.

 تدقُ ، تدقُ، تدقُ..

الحديدُ المنصهرُ يصلُ إلى عظمِها.

 تدقُ.

لا ينتهي الكلامُ المكتوب، الأرقامُ وخسائرُ وأرباحُ الشركاتِ تتحولُ إلى نملٍ وبقٍ على يديها، تنفضُها فلا تزول.

 تدقُ. تتعلقُ بمسمار.

تشتعل العباءة. تتعلق بالسقف.

تحاولُ أن تصرخَ أو تبكي، فتبلعُ ماءً متوهجاً. ترى خطوطَ العرقِ على زجاج نظارتها.

تستندُ على المقعد وترى وجه المدير المتألق وراء مكتبه البارد. قال لها:

      - لماذا تريدين هذا التعب كله؟! تستطيعين أن تجلسي في البيت، بل في فيلا كبيرة، فيها بركة سباحة ودغل من الأشجار الظليلة، ومكتبة تقرأين فيها، وتصيرين الملكة هناك!

تبتسمُ في وجهه، أحبتْ إعجابه بها. رغبت أن ترى نظرات الحب تتألق في عينيه. تقول بحدة:

      - لكنك متزوج وأب لأطفال! أتريد أن أكون ضرة؟!

      - هذا في الشرع!

النمل يواصل الزحف على جلدها.

تدق.

يندفعُ شاكياً:

      - وهل تلك امرأة؟! إنها ليست مثلك، زهرةٌ فاتنة، وعقلٌ مفتوح، هي كيسٌ من الأرز واسع، بطنٌ لإنتاج الأطفال. وأنا الآن أريد امرأةً حقيقية، أنت وردة متضوعة، ملونة. لماذا لا تقبلين دعوتي لعشاء؟ ثمة مطعم جديد، لي نصيب فيه، افتتحته مؤخراً، يطلُ على البحر، حيث السفن الشراعية تمخرُ الخليج، والبحارة السمر ينشرون شباكهم المسائية المحملة بالسمك الضاج بالحياة. سترين السمك وهو يُشوى أمام عينيك، والنبيذُ الأبيض يتلألأ في زجاجاته الشفافة.

يأخذون النساء للمتع، رجال شهوانيون، المادة خطرة، السمو، أحب أبي كثيراً وهو شهواني فظيع!

تتطلع فيه بإغراء ودهشة:

      - وهل تشرب الخمر أيضاً؟

      - نعم ، وأنت ألا تشربين؟!

الورقةُ الطويلة مثقلة بالأسماء.

 تدق. تدق. تدق.

أهلُ مادةٍ، ترابيون، دنسون، وأنتِ للخلقِ، للرفعةِ، لاكتمالِ الوجود. كيف يكتملُ الوجودُ بدون حبيب؟ أين الحبيب؟

صديقتاها أمل ووداد تذهبان لدورة المياه، تبتسمان لها. ستذهبان للتدخين، هاتان المغويتان!

أمل الجميلة الوردية تنفث الدخان وتكاد تحتضنها، فيما وداد النحيلة هائجة، تقول ملتهبةً:

       - لا ينظرُ إليّ، ذلك المنحوس!

يرتفع صوتُ معصومة:

      - لماذا تذلين نفسك من أجل هذا المنفوخ الممتليء .. القرد!

      - لا تشتمين حبي أرجوك!

 المروحة الثقيلة تدور قرب رأسها، وتصنع دوائرَ من الهواء والظلال والصور، وهي طفلةٌ تمشي في الزقاق المظلم، تحملُ الخبز، وتشاهدُ الأشباحَ الطويلة.

 تدقُ على وجوهِهِا!

تبكي.

وجهها يملأ الآلة، متضخم.

وتسمع أصواتاً تأتي من آخر الزقاق.

كان أبوها يحضنُ امرأةً غريبةً في غرفةِ النوم. عارٍ. جسدُهُ الضخم ، المفتول ، الأبيض المتورد ، الظهرُ يرتعشُ وينتعش ويروح ويجيءُ في صلاة حارة مخيفة، تهزُ السريرَ الكبيرَ الذي قلما تسمعه يصدرُ أصواتاً، الآن يرتجف ويتأوه. زجاجةٌ كانت قربه. لم يبق فيها سوى بقايا، وهو يتجرعها قليلاً مواصلاً الجثوم فوق صهوة جواده المخيف، كلما رفعها إلى فمه تسربت قطرات من زوايا فمه وتتراقص على شاربه، وتتساقطْ على ذلك الجسد المختف في الفراش الناعم الغزير، والذي يصدر آهات وشكوى من القطرات النارية.

كان أبوها ينطلقُ، وعرَقُهُ يتصببُ ويتبخر في طنين المروحة الحاد، ويتفجرُ بالآهات ويسابق ريحاً عاتية، حتى خذلتهُ وعصرته وألقته على الفراش.

كانت خائفةً أن يكون قد أُصيب. أن يكون شجاره مع المرأة قد آذاه. مشتْ بهدوء ونعومة حتى وقفت قرب رأسه عند شعره الكث الجميل.

      - بابا! هل آلمتك المرأة. سأضربها!

انتفض الجسدان العاريان، وامتدت يدُ المرأة إلى ثيابها، وبدا جسدها الأسمر نحيفاً وذا صدر كبير.

جلس وهو يستر عريه بلحاف السرير، في حين كانت المرأة تجمع أشياءها:

      - منذ متى وأنتِ هنا؟

      - كنتُ قد جئتُ لأخبرك إن أمي سوف تبقى في بيت خالتي، وإنك تستطيع أن تأكل من غداء أمس.

المرأةُ سحبته إليها وراحا يتهامسان وراء الباب:

      - هيا أعطني!

وتنفض وهي تسمك الورق:

      - ما هذا؟

      - هذا  هو الذي لدي!

      - أخرج ما في محفظتك كلها قبل أن أرفع صوتي. 

ترنحّ على المقعد وقال:

      - لا تتحدثي مع أمك عما رأيتهِ هنا، كنتُ أعالج هذه المرأة. أخافُ أن يفسد العلاج، أتفهمين ؟

      قالت بلطف:

      - يا أبي أنت سماك وطبيب أيضاً؟!

      - هي التي تعالجني، أبوك مريض جداً، تعالي إلى صدري يا روحي.

تقفز إلى أعماقه، بحر عميق واسع مليء بالحكايات والسفن والأشرعة والضباب والطيور، يتدفق حلوى وقبلاً، تطيرُ كفراشةٍ وورقةٍ ملونة فوق البيوت، تضيعُ بين الريح والضوء، حتى يأتي أبوها من بين زرقة البحر، النوارس تتطاير وتصيح من حوله، كأنها تأخذُ السمكات الصغيرة الأخيرة من يده.

ملامح الرجل الوسيم إختفت. إمتلأ، صار قصيراً، ذا وجه مجدور بفعل فؤوس البحر والريح والصيف، تداخل، صغرت عيناه، أسمر كثيراً، أختفى لون البرتقال منه. و ما زال شفافاً ويعشق السهر والليل والقمار.

صراخ أمها يملأ المطبخ والليل: لا توجد نقود، أبوكِ يضيعُ المالَ على النساء، ماذا أفعل؟ هل أروح عند أختي؟ يا رب ماذا أفعل؟

أمها ضعفت، صارت كتلة عظام وجلد، كان دورها أن تنجب، في بيتٍ لا تملكه، تربي سلسلة من الأولاد والبنات الذين يدورون حول ذواتهم، حين تراها فجأة في السوق بعباءتها السوداء ولا يبرز سوى وجهها النحيف بأنفها البارز الكبير، تصرخ في روحها: كم تعذبتِ يا أمي!

الآن يمكن أن تعرف إنه ضنى الجسد، إنه الرغبة المحمومة في الشريك.

تدقُ وأوجاعها الغريبة تظهر مع الكلمات. كلماتٌ أخرى تنبثق، تشتبكُ مع كلماتِ الآلة، ثمة توترٌ عنيفٌ يسري في عروقها. تقف لحظة عن الدق، تحدق في دخان السجائر المتطاير من أمام وجوه الموظفين، تستنشقُ الدخان بلذة. تحسُ بأعصابهِا وهي تكاد تقفز نحو هذا السراب الذائب في المكتب.

الأب ملأ البيت بروائح التبغ الممضوغ، كأن يأكله، يضع أشياء أخرى في حلقة وتبقى هناك، وتحيل اللعاب بلون آخر، وتكره بصاقته كشيء إستثنائي مقيت في هذه الشخصية الحبيبة. وتتساءل عن المتع المكرسة للرجال: التدخين والشرب والجنس فيما حمّلوا النساء آلام الوضع وحبس البيت وجلب العشيقات!

الحياة تهرب منهم بعد عبوا منها، فيما هي تنزف وتقدم المال.

كأن ثمة طـَرقٌ في رأسها. وشوشةٌ هي مزيج من أصوات أمها ودوران أجنحة المروحة وعصف الآلة.

ترى أمها تتقدم نحوها، تتوارى وراء الخشب، تقلقلُ أمُها المواعين، تندفع إلى أبيها كقطةٍ متوحشة، تدخل أظافرها في جلده:

      - لماذا، لماذا أيها الملعون، تلوث سريري وبيتي؟ أما يكفيك لعبك الدائم في الدور وجريك وراء المغنيات والطبالات السود القذرات. أتحضر امرأة إلى بيتي؟!

يدفعها بعيداً:

      - أخرسي! من قال لكِ ذلك؟ من كذب عليك! أتصدقين طفلة؟ أنا هنا وحدي. أجيء من العمل منهكاً لأستريح حتى تأتين وتنقضين عليّ؟ أين الأكل؟ أين الراحة ؟

      - وتكذب أيضاً . . رأتك جارتنا أم محمد، ورأت الداعرة موزة وهي تخرج ونصف ملابسها في يدها!

      - موزة هذه العمشاء؟! دائماً تحاول أثارتي لكنني لا ألتفت إليها، كيف ألتفت إليها وعندي البدر المصور!

      تتطلع الأم في شتى الجهات ، تصرخ :

      - معصومة!

تخرج من تحت الطاولة بحذر، تتحسسُ طريقَها الصعب نحو كتلة النار والكبريت المتطاير، ترتعشُ وترتعد وتصيح، تقتربُ منها العباءة الكبيرة المتوهجة، تظللها سحاباتٌ قاتمة، تنحني، تواجه مجموعة من الصفعات، تتقلبُ على الأرض، تصرخ الأمُ:

      - يا كلبة ستكونين مثل هؤلاء الداعرات اللواتي يجلبهن أبوك، أترين كل شيء ولا تخبرينني؟!

تندفع إليها بقدمها، يأتي الأبُ ويدفعُ الأمَ جانباً ويأخذها في حضنه، تضربه الأم بقبضتها، وهو يجري بها .

تنتظرُ الباصَ في جهنمِ الظهيرة، عباءتُها السوداءُ الملتفةُ على تكوينِها الداخلي تشعلُ جسمَها، مقعدُهَا مبللٌ بالعَرقِ وآثار الأقدام وخربشات الأظافر، وهيكل السيارة ناوشَ الأرصفةَ كثيراً، وأحتكَّ بالبراميل طويلاً، كلماتٌ بذيئةٌ محفورةٌ تتحسسُّ نظارتَها، صورٌ تهاجمها خطوطُ الأرضِ وغابات النخيل المقطوعة والبحر المتوهج الذي يزفر حرائق، وأبخرةُ الأسلفت التي تكوِّن ريحَ السموم، تودُ لو تصرخ، لو تنزل من هذا الباص، جسدُ الرجلِ الضخمِ يزاحمها، دخانُهُ ونظراتُهُ ولعابُه كتلٌ تلاصق جلدها، أنفهُ المليءُ بالشعر والحبوب السوداء يقترب من عطرها، الحريق يقـترب من قلبها، تصرخُ:

      - أبتعدْ!

الرجل ينفلتُ بعيداً والوجوه تحدق بها، ويصبح المقعدُ كله لها، فتفتح النافذة. الهواءُ الحارُ يضربُ رأسها، وكلماتها لم تزل تدوي:

     - كلب! سخيف!

     العباءةُ تتحول إلى بالون من الزيت المقلي، تتأوه، تصرخ ثانية:

     - يا رب!

تنزع عباءتها، تدوسها بحذائها، الوجوه تحدق ثانية بها، تخرجُ من الباص مغسولة بالعرق وبمشاعر الحرية، ليس ثمة سوى فستانها، ترتعب.

في لهبِ الشارع، في زقاقٍ متعرجٍ كأنه أمعاء غليظة لحوتٍ ميت، وفي ظلالِ بكاءِ ميكروفون تمشي ونظرات الرجال والصبية تحدق فيها، يتساءلون:

      - معصومة تركت العباءة!

      - أين الدفة؟

      - ماذا فعلت يا بنت الحي؟

      - أخرسوا!

 ترفع رأسها، تضع غراءً على أفواههم، وتنظر لهم بغضب وتتأوه بصوت مسموع، وتفتح باب البيت وتدخل.

تصدمها الضجة العنيفة، أمها تركض وراء أخيها الصغير وتلسعه بعصا. شعرها الكث متهدل، وخيوطٌ بيضاء بدت تلمعُ بحدةٍ في دغله المعتم. أبوها جاثم على مسند ويعبث براديو صغير في يده، يتتبعُ نشرة أخبارية تائهة بالفارسية. تنحني نحوه وتقبله، وهو ينتبه لعطرها الذي تحدى الشمس والغبار، ثم يرمق جسدها بدهشة:

      - أين عباءتك؟

      - لم تعد لي عباءة. نسيتها في الباص!

      الأبُ يعتدلُ في جلسته، يرفع جذعه:

      - تشتغلين مع الرجال ثم تتركين عباءتك وستعودين إلى العمل هكذا؟! هل هجم عليك أحد؟

      تقف بشراسة فوق جلسته، تصيح:

      - لم يفعل بي أحدٌ شيئاً، أطمئن لم يغتصنبي أحد، لكن الدنيا فظيعة الحرارة، وهذه العباءة حارة أحس إنني أحمل تنوراً معي، لن ألبسها ثانية!

      تندفعُ إليها أمها:

      - لا نريدك أن تذهبي إلى العمل، لا نريد هذه الدنانير التافهة التي تحضرينها!

      الأب يتوجس من الكلمات الأخيرة ، يعدل غترته ويدخل أظافره في شعر رأسه، صوت معصومة يتدفق بقوة:

      - إذا كنتم لا تريدون عملي سوف أستريح في البيت ولن ألبي طلباتكم التي لا تنتهي!

       نهض الأبُ بقلق:

      - لا يا ابنتي نريدك أن تعملي، ولكن الستر واجب.

      - هل ستقوم العباءة بالدفاع عن شرفي؟ إذا أردت أن أزني هل ستمنعني؟

      - ما هذه الكلمات التي تقولينها؟

      تصرخُ الأم:

      - أسمعوا ماذا تقول التي تعّدُ نفسها لتكون زانية!

وتقـترب منها لتنشب أظافرها فيها، ولكن الأب يقف في طريقها، وهي تمضي إلى غرفتها، فيما كانت انفجارات الألفاظ والأطباق والأبواب تدوي وراءها.

تضعُ ظهرَها على الجدار المتمزق، تحاول أن تغوص بصدرها الممتلئ بالحمم والحمى في بركة باردة. تتطلع إلى أغطية وأفرشة أخوتها غير المرتبة، والمفتوحة ورائحة كريهة لاصقة بالهواء والقماش والحجر. تكومها بحدة، تجلس ثانية، تسحبُ كتاباً وتدع المصباح الأصفر قرب السقف يهطل برذاذه السحري.

عيناها تتحركان فوق السطور وهي تسمع دوي الشجارات يلتهمُ الصغارَ هذه المرة، وبكاء الجوع وصرخات أمها تحاول أن تقيدَ قدمي أبيها المتجهتين إلى الشارع والسهر.

وفجأة ينفتح باب غرفتها، أمها وشعرها المنفوش وعيناها الرهيبتان، وصوتها المدوي:

      - هيا قومي امنعي أباك من الذهاب إلى الداعرات والقمار، قومي امنعيه من صرف نقودنا وبعثرة تعبك. لماذا لا تتحركين وتمسكين بهذا الكتاب وكأنك تريدين أن تصبحي فيلسوفة؟!

      - إنه ذاهب لبعض التسلية، يختنق هنا من كثرة الصياح والشجار، أعطوه فرصة لكي ينفس عن روحه قليلاً!

      -  لماذا تدافعين عنه دوماً؟!

في خضم قضبان الليل الساقطة على جسدها، وانهيار أعضاء الغضب والحزن، وفي مطر الضوء الشحيح المتدفق من السقف، من الغيم، من الغيب ، تجمع أرجل الأخوة تحت الألحفة ، تتابع الأسطر الأخيرة من الكتاب ، تخربش بالقلم الرصاص ،   تنصتُ إلى دوي المكيف وهو يعيد تلاوة صرخات الأم ، يأخذها النوم إلى ذلك الزقاق المتهاوي من الحارة قرب البحر ، تحمل الخبز الساخن والرجل الشبح يتقدم نحوها ، ويضع يده على فمها ، وترى المياه تتدفق فوقها ، ويأخذانها إلى السمك والهياكل العظمية المتناثرة تحت الماء .

                      ـــ 2 ـــ

تتلوى فوق السرير، تختنق تأوهاتها، تكره الظلام المهيمن، كأن أشباحاً تمشي في الغرفة، أصوات نوم أختها، خرير غريب لأخيها.

تتقلب، عرق حار يغسلها، ترى وجوهاً كأنها خرز في الطريق الطفولي، وهي تبكي ممكسة بالخبز خائفة من الدخول في فم الزقاق الذي يلتهمها.

      تصدر أصواتاً:

      - آه، آه!

      أختها ترفع رأسها وتهمس:

      - ماذا بك يا معصومة ؟ هل أنت مريضة؟

      - ثمة شيء. . غريب!

      - ألم تزوري الطبيب أمس؟

      تصرخ:

      - أجل! لكن هؤلاء الأطباء لا يفهمون!

تحس بالألم يتحول، يترك ضلعها ليقفز في صدرها، ثمة ضغطٌ هائلٌ على صدرها، سائلٌ لزجٌ يملأُ فمَها، تبصق، تنهض الأخت الصغيرة فزعة، وتبكي خارجة من الغرفة، ترى ضوءاً على جسد الأخت، ضوءٌ سقط من مكان ما، من النافذة المفتوحة، إشارة لها ربما من السماء.

لكن الألم لم يتوقف، إنه يضغط بقوة على صدرها، تفكر بالتدخين مثل أمل، رغم إمتلأ جسد أمل ورشاقتها والحمرة المضيئة التي تملأ وجهها فهي تدخن، الحبوب التي كتبها الطبيبُ في يدِها وبقيتْ في الدرج تتهوجُ في ذاكرتها حارة رطبة، كلما إقتربت منها خافت.

يتحركُ موضعُ الإبر الغريبة، كأن ثمة جسماً غريباً تغلغلَ في كيانِها، ثمة كتلةٌ معاديةٌ شريرةٌ ضاغطة حارة، مؤلمة على ضلع فيها، تُلقي باللحاف وتنفجر:

      - آه!

      - ماذا بك يا أختي، قلتُ..

      - أخرسي!

تهدرُ في ممرات البيت الضيقة، تغسل وجهها، وتتطلع لصورتها في المرآة، وجه بديع، خدان متألقان، أنف شامخ، حاجبان رفيعان، شفتان صغيرتان:

(فأين يقع الشيطان؟ لماذا يتجول في هيكلي الجميل هذا الوحش؟).

تتوضأُ وتمسكُ القرآنَ، تقرأُ، والدعواتُ الإلهيةُ تتغلغلُ في الناس في الصحراء، الكفرةُ، عبدةُ الأوثان، جامعو الكنوزِ الأشرار، تنزلُ عليهم الآياتُ كالسياطِ كالنارِ، صورُ النارِ رهيبة، مخيفة.

(كأن جلدي يحترق!).

 لكنهم لا يزالون يظهرون. لماذا لم يسحقوا تماماً؟

ثمة إحساس بالهدوء، لكن الألم لم يزل.

شاربو الخمرة يتجولون في الشوارع ويجثمون في البيوت. 

(آه أبي! أيكون هو سبب لعنتي؟ سبب هذا المس الذي يتجول في بدني؟)

تغلقُ الكتابَ وتتعوذُ من أبليس، تسمع الباب الخارجي يمس، يتأوه في الفجر، تمضي فتجد أباها يندفعُ إليها بحب غريب:

      - معصومة، حبيبتي، ألا تزالين صاحية؟

يضمها، تشمُ رائحةَ التبغِ الممضوغ، ومستنقع الخمرة عميق، تشعر بسعادة كبيرة وجسمه يهزها بحنان، كأنها طفلة تعود، وهذا الصدر يحضنها دائماً، يخرج من بين المساند المندفعة إليها، من بين الأظافر التي تمزق جلدها، والأشياء التي تصطدم بها دائماً، يأخذها بحب، يربت على رأسها، يعطيها الحلاوة، تطير من الفرح.

      - أبي لماذا تشرب دائماً ألا تعرف أن الخمرة حرام؟

      - سوف أغتسل وأتوضأ وأصلي الفجر.

      - أهكذا ببساطة تريد أن تخادع؟ لماذا لا تترك كل هذه الموبقات؟!

      - ماذا . . موبقات، بماذا تتكلمين؟ سوف أذهب أنا تعب ياحبيبتي.

وحدها، حان موعد العمل، الأطباق تتفجر في المطبخ، أمها عائشة تنهض عبر شتائم للأب، جاء إليها بكل روائحه الحادة وهربت منه!

لماذا لم يغتسل ويتوضأ؟

لم يصلها كوب شاي، صنعت لنفسها شطيرة بتأن، عائشة لا تكاد تلامسها، بلعت جملها المعتادة: أمي خففي من نقد أبي، إنه يوم إجازته، سوف يذهب للصيد، سيواجه البحر والموج وربما الغرق!

                      ـــ 3 ـــ

سطحُ منزلِ الخالة يطل على برية واسعة، ثمة أدغالٌ باقيةٌ متناثرةٌ من زمنٍ أسطوري قديم. تبدو بعضُ النخلات المتقدمة تحملُ أعلاماً خضراء ومزقاً من الملابس وأجنحة طيور وأشباح.

البريةُ البعيدة تومضُ بأضواء السيارات المارة التائهة . والنجومُ جلستْ فوق بساطِ السماء الأسود أميراتٌ للضوء والرشاد.

تتطلع معصومة إلى زوج خالتها بانبهار، جلسَ بأبهةِ ملكٍ، احتضنَّ عصا النارجيلة الفارسية، وراح يسحبُ ماءها فتدوي غرغرتُها الضاحكةُ في القعر. يحيلُ الماءَ إلى دخان وحكايات، ويرسم بالعصا في السحاب رواية غريبة:

      - كانت امرأة عظيمة اسمها جلنار. قامة طويلة ووجه فاتن ساحر. جمعتْ جمالَ الحَمام وإرادة الصقور. ضربت المجاعةُ القريةَ، والرجالُ يدخنون ويسكرون ويزرعون أغصاناً ميتة. تناثرت جثثهم وهم يتقاتلون. كانت الطيور الوحشية تنتزعُ آخرَ اللحم من الجثث وتتطلع إلى الأحياء. نهضتْ جلنار من بين الدماء وصرخات الأطفال وأشارت إلى الجبال الشامخة، فحدث فزعٌ هائل واضطراب، رفضتْ الجبالُ وسخرَ الشيوخ. تقدمتْ فوق الصخور، وبدا جسمُها المجرحُ رايةً تائهةً وسط الصخور والهياكل العظمية ومآدب النسور. دبتْ الحياةُ في خطواتِ النساء والصبية، وبكى الأطفال وتدحرجت جثث لنساء، لكن جلنار لا تتوقف، جلنار تزيح الصخور والطيور . ظهر رجالٌ يصرخون إلى الينابيع السفلى ، تجسد أشباحٌ وشياطين فوق وجوه الأحجار ، لكن جلنار لا تتوقف ، تتكلم الكهوف، تثرثر الصخور وتتدفق بالدم، لكن جلنار لا تتوقف، ثم فجأة الهواء يتغير، السماء تنتعش، وندف الثلج يتساقط فوق الرؤوس والأكتاف، وتبتلع حفرٌ مباغتة بشراً فرحين ، ولكن جلنار لا تتوقف ، المدى ينفتح ، وتظهر أرضٌ سوداء وأعشاب وطيورٌ ملونة وأغصان . . توقفت جلنار في أرض سوداء وأعشاب . غاصت قدماها في طمي وزهر وسماد . صارت شجرة . .

لم يصفق الحاضرون لزوج خالتها البارع . لكنها نهضت وقفزت الصبية الجاثمين في قلب الدائرة وقبلته بين دهشة الجميع وصرخاتهم . الخال ارتعش شارباه الكثيفان وسأل :

      - أعجبتك القصة؟!

      كانت تهتز من الفرح:

      - نعم . . نعم . . تلك البراري العذراء المدهشة الموحشة الجائعة لفعل النساء ، المرأة عمود من نار . . مثل الأنبياء . . تأخذ الشعلة إلى . . الحياة والمدن! أكانت حقاً موجودة جلنار ؟

- نعم وبيتها لا يزال هناك وراء البحر ، في الجبال . . منزل جلنار لا يدخله إلا إنسان أحب المرأة ولم يعذبها.

كأنها طارت وراء البحار، صارت فراشة تدور حول المنزل ، من أصابعها تطلع الأزهار وتصير سيلاً ، من صدرها يتدفق الورق الأخضر ويصير أدوية وبيوتاً . .

      أحست فجأة بذراع خشنة تلامسها ، بُغتت بمحمد وذراعه تلتصق بكتفها، كأنه يتشمم عطرها :

      - ما أجمل هذه البشرة ، كأنك غزال عربي!

      قالت بحدة ، وبضيق لانتهاء النشوة والسقوط على الرمل :

      - فقط البشرة . . أليس ثمة شيء بي أعمق؟ ألم تستفد شيئاً من حكاية أبيك؟

      - إنها خرافة! هل تصدقين إن ثمة امرأة تقود طوفاناً من العراة والجياع وتعبر الجبال الشامخة !

      - أي جمال رائع فيها وعقلك الصغير لا يفهمه !

      - تعال إلى غرفتي دون أن يلاحظك أحد . .

كانت الليلة التي اختلى بها غريبة . راح يغسل جسدها بفمه ، ثم آلمها تحت خصرها ، وانتشى ، وهي لم تشعر بشيء .

الآن وهي تتسلل إلى الغرفة تريد أن تغسل بشرتها من دبيب النمل . يحتضنها ويريد أن يقبلها .

      - اتركني ، ماذا تريد مني ؟

      - دعني أقبلك ، ألسنا مخطوبين؟

      - أنس حكايات الأهل هذه . أريد أن أقتنع بك ، من تكون ؟ ما هي قيمتك في الكون ؟ ماذا لديك غير أن تشتغل في شركة ثم تغدو عاطلاً. أنت شبه أمي !

      - وما دخل القراءة في الحب والزواج ؟!

      - كيف ؟ ألا يجعل غيابها شخصيتك محدودة وسطحية وتافهة ، وأنا أريد رجلاً مثقفاً وذا شأن .

احتضنها بقوة . أبعدت رأسها . راح يلتهم صدرها بقبلاته الضارية ، الشفتان راحتا تدغدغان جلداً نائماً . كان رأس محمد الغارق في ضيائها وعبيرها ، يكهربها ، وتود لو تتعرى وتكون بين يديه كاملة ، كتفاحة . لو تستطيع أن تعطيه ثديها ليأكله ! ما هذه النار التي تسري في عروقها ؟ قال :

      - لماذا أنت جامدة الآن؟ !

      تصرخ :

      - أبتعد ، أنت لست سوى متعطش لجسد ، جائع عند وجبة ممتلئة . .

      وتخرج من الحجرة ضاربة الباب بحدة فأهتز المكان والرؤوس .                                                       

                      ـــ 4 ـــ

عشراتُ الآلات الطابعة والوجوه والمكاتب والدخان والعرق والكلمات المتناثرة كنثار الأكل ، وحلمٌ بعيد لا يومض ، حشرجةٌ داخلية ملتهبة لا تصعد ولا تنفجر ، نارٌ سرية أوقدتها نسوة في الكهوف ، مخاضٌ لامرأة حامل لا تلد أبداً ، مولودها مشوه يتشكل بالنار في بطنها وصدرها.

تدق . تدقُ.

تضربُ الأصابعُ الحساسة وجوهَ الحديد.

تضرب الأصابع الطويلة الرقيقة لتنزف أرقاماً وأحلاماً ومشاريع مروعة فوق الجماجم والمقابر والنخيل ، تدق لتهدم المنازل العتيقة وينفجر الزيت دماً وعظاماً ، تدق بلا أصابع ، تكتب في فضاء يتناسل أقنعة وأشباحاً ، دخان الموظفين يلتف حول عنقها ، تريد هواءً نقياً، كانت تركض دوماً في النفق تحمل الخبز والألعاب المحطمة ، تريد حقلاً وشرفة مطلة على البحر وحبيباً ودفتراً تملؤه بالكلمات.

لكن لا شيء سوى الآلة ، كل يوم ، منذ الثامنة وحتى الثانية ظهراً ، ويتبعثر دم اليوم في الرصيف والمحطة والباص والذكريات ، من يستطيع أن ينتزع هذه الصور من روحها ، إنها تلوبُ كمجموعة من السكاكين الحارة في أحشائها ، تدق على ظلالها، وأصواتها ، وصراخها ، فلا تذوب.

شيءٌ يتلوى في جسمها، يتحرك سريعاً من غار إلى دهليز. تطلع أشباحٌ، تسمع صرخات.

ترى في النفق نفسها.

سحبتهم الأم من أيديهم إلى الشارع . كانت صرراً قليلة من الثياب والأشياء يحملونها. كان بكاء أمهم وصراخها لا ينقطعان :

      - أترون . . أترون زوجي يضاجع امرأة في فراشي؟ ! يحضر امرأة وسخة من الدور، من الطبالات الوسخات ، ويجعلنا نغادر المنزل ثم يتسلل بها إلى المكان . . حتى غرفة لا يستعيرها من أصحابه . . هل هذا أب ؟

المارة تتطلع إليها بدهشة ورثاء وألم . تجرُ العظام الصغيرة والخرق في الدروب . تلتفتُ فجأة إلى معصومة وتصفعها بقوة لتترنح على الأرض . جاءتها الضربة وهي لا تدري ، مذعورة من الرجال ، خائفة على أمها وهي تقفز أمام السيارات ، تسمعها تقول :

      - أنت السبب يا ابنة النحس. لا أعرف كيف أنجبتك . . أخرجتِ من بطني أيتها الملعونة أم من غار في الأرض ؟ تعالوا عن الشارع يا أولاد ، يا أشقياء . . لو لم أنجبكم لكنتُ حرةً الآن ، أنطلقُ إلى أي مكان ، أختفي عن أنظاره وأعمل في السوق ، أو أتزوج رجلاً غريباً وأهربُ من هذه الأرض . . النحس . .

      تمشي في الزقاق وتصرخ :

      - يا رب لماذا أتعذب هكذا ؟ ماذا فعلتُ لأجرجر أطفالي في الدروب ؟ !

      في بيت الخالة القديم، ذي الغرفتين الضيقتين، ثمة جيش من الأطفال، والخالة تجلس مع أمهما.

     - لماذا خرجت من بيتك يا فاطمة؟ تتركين بيتك لغريبة؟ أصرخي هناك فيشرد . . الملعون!

     - كيف أفعل ذلك! أتعتقدين الأمر سهلاً!

     - هدأي اعصابك.

     - كيف أهدأي أعصابي يا أختي؟ كيف؟

     - أكان يجب أن تأخذي الأطفال إلى الشارع وتمشين بهم والسيارات تملأ الطرق؟!

     - ماذا أفعل هذا الزوج جننني! يكاد أن يشردني!

     - أهدأي وكلي شيئاً، منذ الصباح لم تأكلي شيئاً؟!

     - لا أريد، أريد أن أموت، أموت!

تضع الخالة الأرغفة وطاسة الباقلاء الكبيرة وصحن البيض لتخطفها الأيدي الصغيرة والطويلة ، لتنتزع لقمة أو حبة أو اثنتين في حراك كثيف.

ترقب فيتحة الممر الناري.

فاطمة تتجمد عند النافذة المطلة على الشارع . هل سيأتي؟ هل سيخطو هنا كدب كبير ملعون ويركع تحت قدميها؟ لا يبدو في الطريق وها هو المغيب المعتم ينتشر ، ويلقي برذاذ فحمه على الدروب والأشياء، ويزرع سكاكينه وجمره في القلوب . .

      تصرخ الأم:

      - معصومة! تعالي هنا! أذهبي إلى أبيك في المقهى . . هو يحبك . . اصرخي تحت قدميه . . اذرفي الدموع الغزيرة . . هيا أخرجي !

      - لا ! يا أمي أنا أخاف من الظلام!

لم تقل زوجة الخال شيئاً وتركتها في العتمة . أين تمضي ؟ الدروب خالية إلا من مارة مسرعين يبدون كمردة بظلالهم وعيونهم النزقة . أين المقهى الذي قالت عنه أمها ، لماذا تركتها في هذه العتمة، ضائعة في الدروب؟ هل كانت تريد أن تتخلص منها؟

      - أبي . . أين أنت ؟

تركض وثمة ذئب يجري وراءها . تدق الأبواب ولا أحد يفتح ، وفجأة سقطت في زقاق اسود طويل ، لا ذرة ضوء فيه ، صامتٌ كقبر ، وفي رأسه البعيدة ثمة عمالقة كبار مضاؤون في جماجمهم ، يحدقون فيها ، على أكتافهم ألحفة تتدلى منها حشرات . جسدها تشنج كله . ثمة أجزاء داخلية تتمرد وتفرز حوامض متفجرة . قلبها طبل تمزق بيد زنجي موتور . .

وصلت إلى المقهى. كان ثمة رجال كثيرون يلعبون، ويشربون، ويدخنون، وأصوات الراديو. كان ثمة بهجة. أين أبوها؟

أبوها لم يكن موجوداً. لا تعرف اين ذهب. تقترب من الرجال والألعاب. وجوه كثيرة مذهولة تحدق فيها.

      - ماذا تفعلين هنا؟

      - ابنة من هذه؟

      لسانها مأكول من ذلك الشيء الغريب.

      تنطق بصعوبة:

      - أبي سلمان . . ألم يكن هنا؟ أمي قالت ذلك..

      - خذها يا كريم إلى بيت ..

الولد يمشي بها، يتطلع إليها، في الظلام حضنها، تصرخ.

وجدت نفسها في بيت خالها فجأة . فتحت عينيها ورأت حشداً من الرؤوس ، أين كانت ؟ غابت في ظلمة وأحست بأشياء لزجة تتغلغل في جلدها . ترتعد ثانية ، كأن الزنجي يلاصقها بشفتيه الضخمتين . هذا نهار ، وذاك ليل ، أي مضى الرماد ؟ هل ستعاقبها أمها لأنها لم تحضر أباها ؟ ! يتحدثون عن الظلام وعن أمها وأبيها ، لكنها تنام ثانية ، وتصحو على أنفاس بخور ينتشر ، وثمة لحية تنغرز في جسمها، تصرخ ، وتسمع أمها تقول بحنان: 

      - هذا شيخٌ يقرأ عليك . . وانفجر صوت أبيها :

      - ماذا عملتم في ابنتي . . تركتها يومين ؟ !

من تحت الغطاء ، في سحابة البخور والكلام ، تزحف نحو صدره، تدخل في أعماقه كأن السفن تأخذها نحو النور ، وهو يسحبها إلى العين ويجلسها فوق ظهره ويسبح بها ، متغلغلاً تحت سعف الجداول ، ملتقطاً الرمان واللوز لها ، فترى في مياه العين السمك الصغير في سحابات مضيئة.

تدق!

الآلة أمامها . كومةُ الملفات والأوراق تصير رجلاً يخنقها وهي على الكرسي . دوائر الدخان والكلام والهواء الساخن وصرير المروحة ودبيب المكيف وصور الأشباح الوالعة في عقلها ، والعواء الذي اقترب من لحمها ، وأمها والموقد الذي قربته من ساعدها ، والبيت المليء بالأذرع والأيدي والأطباق التي لم تُغسل، والصفعات والركلات والتلفزيون الصارخ طوال الليل والراديو والفواتير التي عليها أن تدفعها وسهرات الأب التي لا تتوقف وروائح النساء في قمصانه ، وبقع أحمر الشفاه في أصابعها، وصرخات الأخوة: أعطينا نقوداً!، والحب الذي فشل والعذرية التي فُقدت، والحب الذي لم يأت ، ونظرات المدير وعقابه ، والدخان الذي صارت تحبه.

الملفاتُ تتساقط والأوراق تطير. وهي تترنحُ ، وتنهار من فوق الكرسي.

كانت تتأمل الشاطئ معه ، النهار يترنح وينسحب من الفضاء . ترتعش من ذكرى الظلمة . تتأمل حسنَ وهو يتكلم بهدوء ، مدركاً  انتصاره :

      - ها قد صرتُ تعبة ، كل أعباء الأسرة على كاهلك ، وتريدين أن تقرأي طويلاً وتصبحين شاعرة ، وكل هذا قد انهار . . اعترفي بأن عش الزوجية الذي أهيئه لك أروع وأكثر هدوءً وراحة.

حسن لم تلمس يداه ورقة، سوى السجائر، يدخن بشراهة.

يغافل الأهل ليحتضنها.

      - لا أريدك أن تلبسي هذه النظارة، تصيرين بشعة!

      - كيف أرى وأقرأ وأطبع؟!

      - لماذا تقرأين ما فائدة هذه الكتب التي تشترينها، ماذا سوف تصبحين؟!

      - سأغدو شيئاً، سترى!

      - لا، لا إبتعدي عن هذا كله!

      - لن أبتعد!

تدقُ لحماً، تضربُ هيكلاً عظمياً بليداً.

في بحر العواصف الذي ابتلعها ، وسحبها نحو غرف المستشفيات وروائحها  النفاذة وأنابيبها المرعبة ، والعودة إلى كرسي الشركة والجلوس وراء الآلة ، والجثوم  بالباص المشتعل ، ورؤية الهياكل المحترقة ، والزحف في نفق بيت الأم بمواعينه وأشباحه المتحدثة ليلاً ، تريد أي صدر ترمي عليه رأسها وتغفو بسعادة ، ويبدو حسن قارب نجاة فجأة!

      - لا تستطيعين إلا أن تكوني مثل بقية النساء، ربة بيت وأم..

      تصيح بغتة :

     - لا تقل ذلك ، لا تقل ذلك ! إنني لا أرغب بالأطفال، أخاف الموت !

      - ماذا؟ وما دخل الأطفال؟

      - أخاف من الحمل والموت. حلمتُ إنني سوف أموت وأنا ألد. كنتُ في نفق معتم طويل، وفوق رأسي ساحرات، وجوههن مصبوغة بألوان فاقعة ، وكانت بطني منتفخة، حاولن إخراج الجنين فلم يستطعن ، كان هناك خالتي تركض من عنبر إلى آخر، وأبي فوق سرير آخر سكران ومعه امرأة. شقـقن بطني وأخرجن الجنين الميت أيضاً. كان الوجود سقف خباز مليء بالدخان السام .

      - هذا مجرد حلم، كابوس!

      - لا إن أحلامي كلها صادقة!

      - ماذا بك أنت ، لم كل هذه العقد؟!

      - ذهبتُ إلى قارئة كفٍ ورأيتْ ذلك في يدي.

      سمعت ضحكاته وهو يغادر المكان .

                      ـــ 5 ـــ

وقف أبوها على رأسها عملاقاً خرج من قوقعة صمت مشتعلة . يكادُ أن يطبق عليها بحربتي يديه. لم يرفع يده يوماً على جسدها المثخن، والآن...؟! أعرف بانتهاء عذريتها على يد حسن؟ أجثم مع أحلامها المخيفة؟

      - ماذا بك يا أبي؟

      - أنت تفضحيننا يا ابنتي.  أتساوي الدراهم التي تعطينها لنا كل هذا؟

أرأى أبوها الماكينة التي تدخلها يومياً مثل الوردة لتخرج مبعثرة من فرامة الورق؟ ألم يدعوها للشهادة من أجل أخوتها حتى امتلأ صليبها بالمسامير؟ ألا يكف هو عن سهراته في الأزقة المعتمة والنوادي الضاجة بلعب القمار؟

وتركته يرفع هذا الصوت الذي لم تحب سواه:

      - هل من المعقول أن تفسخي خطبتك لحسن بعد كل هذه الخلوات بينكما، من يقبلك بعد الآن؟!

     صمت لحظة. ثم صرخ:

     - ألم تعودي عذراء؟!

      كأنه أَدخل شفرةً في رقبتها، فصاحت بغتة:

     - ماذا تريدون مني؟ ألا يكفي أن جرجرتموني إلى الشركة وأخرجتموني وأنا طفلة من المدارس. وقلتم ضحي من أجل أخوتك. وانغرزتُ بين أولئك الرجال ولم تخافوا على كنزي، وتركتموني أجيء في الحر والباص المليء بالرجال. وخطبتموني إلى قريب يريد أن يحبسني؟!

     - وقد تركتِ العباءة ثم الآن أيضاً أنتِ تتعلمين السياقة وغداً لا أعرف ماذا ستفعلين؟ سوف أحبسك في البيت! لن تخرجي أبداً إلا إلى بيت زوجك وليكن من يكون!

      اندفعت صارخة:

     - لا تستطيع أن تحبسني، أنا امرأة حرة!

      لكن باب الغرفة انغلق في وجهها. حاولت أن تفتحه دون جدوى.

      كانت تصرخ في نفسها:

     - وأنت.. لماذا لا تقيد شهواتك وتسكن في البيت، لماذا توزع نقودك ونقودنا على نساء رخيصات، وعلى طاولات القمار والتدخين والشراب؟! أي عذرية بقيت عندي وانتم شردتموني في دروب الحارة ليلاً؟ لماذا يا أبي.. لا تكون أباً؟

      جلستْ في العتمة طويلاً، سمعتْ أحاديث الصالة تصير مختلفة، همس أخوتها وأخواتها يجيء غريباً:

     - حبستم معصومة؟!

     - أين سننام والغرفة مغلقة؟

     - هل ستموت؟

دهشت من هؤلاء الأخوة والأخوات، كانت تغطيهم دائماً وتشتري دفاترهم وأقلامهم وملابسهم، وتحضر القدور المليئة من المطاعم لهم، والآن..يفكرون في الغرفة فقط! في شمس الظهيرة تأخذهم من مدارسهم، تجري بهم إلى المستوصفات وتأخذ جراثيمهم وبردهم..

تتطلع إلى أصابعها، إنها تدق فحسب في الحديد، ولا تنتجُ ملحاً، تلتهمُ الصدأ ولا تزهر وردة.

تبكي.

لا أحد قريب منها مثل هذا الورق، هذا البياض الناصع الذي تملؤه بالماء والحبر والأمل، ليدعوها في هذا العلبة المغلقة والوحدة التي طالما اشتهتها وخافت منها، والآن أصابعها لا تدق بل ينبتُ منها الشعرُ والورد، والعصافيرُ تطير من غيومها الكثيفة الملأى بالمطر والحب، والكراسة غدت مثل التربة الطينية المشبعة بالأرواح.

تفتحُ أختها البابَ محضرةً صينيةَ الأكل فترفسها وتطيح بالأرز والسمك، وتغلق الباب.

لتبقى هنا وحيدة منبوذة، ولتمت شهيدة. سترى جنازتها الآن، وتسمع الأصوات: ها هي البنت التي حولت أصابعها إلى شموع لعائلة دفنتها حية.

يتهامس أخوتها، تسمع الأم تقول:

     - خلاص ينبغي أن تفتح عليها!

تسمع صوتاً غريباً يدخل الزقاق ويجيء في البيت ويلامس حذاؤه السجادة الرثة في صالتهم، إنه مديرها، يقول:

     - إنها مثال .. الاستقامة والرجولة!

وتسمع صوت سيارته الفخمة تنأى عن زقاقهم. وهاهم الأقرباء حزانى ويثرثرون : أين بهجة معصومة وثرثرتها وصراخها وضحكها، البيت ميتٌ بدونها!؟

إنهم جميعاً الآن يريدونها، وها هو الأب يقـترب، والباب يُفتح، ويدخل منكس الرأس، حزيناً، لكنه يرفع رأسه بقوة وكبرياء ويقول:

     - أخذت يا ابنتي حريتك بيدك!

تكتبُ:

(هذا الليل الجميل من خلقه؟ هذه النجمات الساحرات في الأعالي من رصعها يواقيت في الكون اللامتناهي؟ هذا السحر الضوئي الطالع من الأصابع، والعيون والقلب من بثه وأزهره؟ هناك الأب العظيم الرحيم فيما وراء المادة الفانية يغذي العالم بحنوه المتدفق.).

مصباحها الصغير تعبَّ من التحديق في الورق، وأغوارها البعيدة تنتفضُ في كل سطر، هي على شجرة الكون تنبض بالمحبة وتفتح صدرها لكل عابر سبيل ضائع. ها هو شيءٌ يتحركُ في التربة، بذرةٌ صغيرة ترتجفُ حياةً بين الرمل والعناكب، نبضةٌ في جسد هائج ثائر، نبضة نورانية كأنها قادمة من الغيب، تتغلغلُ في جلدِها فتتحول إلى شجرة ميلاد مضاءة.

لن ينطفئ المصباح ما دام هذا القلم ينبض، سنديانة من سماد الحقول إلى أرصفة الشوارع.

أخوتها يغمغمون من المصباح. الليلُ أوغل بعيداً والصمتُ غابةٌ عذراء في كل الطرق، وهاهي اللغة تتدفق، والروح تطلع من أحراشها القصية، ترفرفُ حول الإله مرة، وترتجف من الشيطان مرةً، وتشرب ماء النجوم مرات، وتنزل إلى الخيام الكثيفة الألم، المقذوفة في البراري المشتعلة، تدنو من ينابيع الصيادين الفوارة في البحر، وتذوب في سواعد النسوة الغارقات دماً في الحقول، الروح خضراء كطائر، سمراء كالبراءة والحنطة.

نهضت من فوق مكتبها، غسلت الخشب والحديد، الغرفة المليئة بالأسرة والألحفة والمساند تخنقها، إن لحظة التوهج تذبل، صحت فإذا الشمس ساخنة فوق جبينها، وضجة البيت والأخوة تتصاعد وتمتزج وتصير نافورات من الصراخ في سمعها.

                      ـــ 6 ـــ

يفلتُ منها هذا الجسد العفريتي، يتمرد، ليس لها، دمٌ لا يخرجُ منها، أختها الصغيرة تتضرجُ كلَ شهر، وهي يابسة، ماذا بها؟ أليست مثل كل النساء؟

لماذا تتمرد العين وتهتز الأسنان؟ ماذا سيبقى بها؟ الطبيبُ يصفعها بإجوبته المبتورة، لستِ مثل بقية النساء، أجل تعرف نفسها متفردة، لكن ليس في العلل!

جمال الوجه، فخامة الجسد، ثم لعنات داخلية تتفجر هنا كآبةً، وهناك سناً مهتزة.

من الآلة للعيادة، من الصلب على الطاولة، وسمع الثرثرة السخيفة لأمل ووداد وخطبتهما وزواجهما وإستمتاعهما وهي تحرق أصابعها من أجل عائلة غارقة في همومها وأهوائها.

      - لو أنك تتزوجين يا معصومة!

      - لو أنك تملئين هذا البطن بطفل يلعب فيه!

      تصيح:

      - خلقت للنور..!

      - ما بك تصيحين يا حبيبتي؟

      أمل تأخذها بحنو، لكن مشاعرها تتفجر، ثمة حشرات تسير في جميع أجزاء جسدها.

      تجلس معها في مقهى:

      - لا أعرف كيف تفلت أعصابي؟ منذ كنت طفلة وانا أتحمل عناء هذه العائلة. أب مهمل أناني، أم مشتعلة دائماً، أخوة يريدون دائماً. . وهذا كله على رأسي!

      - وما أخبار حسن؟

      - تعكزت عليه لكن خيب ظني. يريدني أن أجلس في البيت، وهو نفسه يجلس في البيت فمن سوف يشتغل؟

      - سوف تلقين لك ابن الحلال، والرجل الذي يقدرك.

لديها سيارة صغيرة جميلة لم تحلم بها، لديها كتبها وأقلامها، وضؤها الداخلي المتصاعد فلماذ لا تهدأ؟ المكيف يريد تصليحاً، أينك يا معصومة؟ الثلاجة خلت من الأشياء أشتري يا معصومة، الأولاد والبنات يحتاجون لملابس..آه!

تتدحرج في الليل والرماد من فوق تل، الشبح يلاحقها، تسمع صرخات وراء الجدار. الكائن الغريب يتحرك داخلها، ينط على صدرها، ويأكل ثديها، ألم فظيع متفجر، تنهض رأسها بقوة.

ظهرت أمل منعمة ببساطة، تذهب للدراسة في الخارج، تعيش في منزل كبير، به حديقة، وتعمل مرفهة أيضاً، وغداً ستتزوج، وتنجب، وأنا علي أن أقاتل في كل لحظة، من أجل أي شيء، لماذا؟.

                         ـــ 7 ـــ

كان الرجل الأبيض ذو العمامة السوداء واللحية الصغيرة يتطلع إليها، وهي مبهورة بالأرفف وأطنان الورق الناعم المجلد الذي يحيط به كأنه قوس قزح. الكهل لم يخفِ إعجابه بها، وحين مدت إليه أوراقها لكي ينشرها لم يفتحها، وسأل عن أبيها وبيتها، وراح يخطو معها في الأزقة متذكراً الدروب والدكاكين، وعلى عينيه ترف أجنحة الحكايات والفضائح، فيتطلع فيها بأسى. قال:

     - حاولي أن تزورينا دائماً لكي تكتشفي الثقافة الحقة، ولعلك تغيرين من هيئتك هذه..

      قالت بكبرياء:

     - لا ينقصني شيء يا سيد، لكن هل سمحت بإلقاء نظرة على أوراقي التي أرجو نشرها، في حين إن هيئتي أنا كفيلة بها..

      حدق فيها بدهشة، وراح يقرأ بين التمتمة والذهول، قال:

     - ما هذا يا أبنتي.. هذه كلمات حب فاضحة؟! الجسد المفتوح، والثدي المتفجر ورداً وحمى، والإله الذي يزرع في السماء والأرض محبة وأطفالاً. أتريدين نشر هذه الحرائق بين عباد الله حقاً؟!

نهضت وانتزعت الأوراق من بين يديه وهو لا يزال في ذهوله المستمر.

في الصالة التي كانت تصطدم فيها بشخوص مبعثرين رأت الشاب الذي رأته في ندوة الثلة.

هو يمسك أوراقاً غير مقبول أيضاً!

لثامر شحنة خاصة، شيء غريب يؤثر فيها.

كل شيء بات أمامها مفتوحاً، السطح يتحول شيئاً فشيئاً إلى مملكتها المستقلة عن البيت وصراخه ومعاركه، يصيرُ غرفةً كبيرة منزوية، ومدخراتها المتوارية تصير أسطوانات وكتباً ومزهريات. السماء تصير أقرب وتغدو مظلة زرقاء شفافة، وهي تخترقُ الظهيرة بسيارة حمراء جميلة باردة من الداخل وتصدح بموسيقى، تجري بسرعة نحو الكشك وتنتزع المجلة وتلهث نحو الصفحة، وهاهي كلماتها متفجرة، ضخمة، سوداء كبيرة، تنزف دماً ورسوماً، وها هو أسمها متلألئ.

المجلة مفتوحة في حضنها، تسوق بين خط السيارات البطيء، الدخان ينبعث ويتسرب إلى علبتها الحصينة، تنزلُ عن خط السيارات الطويل، تندفعُ فوق الأرض الترابية وتئزُ الحصى تحت عجلاتها تندفع بين المنخفضات والمرتفعات وهي تهتز وتتأوه، تتذكر رئيس التحرير الذي حدق فيها مبهوراً، وقذف الورق إلى المطبعة ودعاها إلى عشاء.

في الليل تفتح الكتب، تطالع كتاباً. تستغرقُ، وبغتةً تحذفه لتطالع كتاباً آخر. تتأمله وتدخل في أعشابه النفاذة بالعطر، تنساب وتدهش لأن كل هذه الأفكار سبق  أن لاقتها في طرقاتها المعتمة، وفي أزقة الخبز والظلام، وصرخات المدرسة؛ كونٌ هائل يتفتح داخلها، لا تعرف أين تبدأ نجومه وتنتهي مجراته، سحبٌ وغموض ومخاوف من الجلد وانفجارت الصدر وزيارات الأشباح وهذه الآلام التي تأتيها في كل لحظة. تدع الكتاب، وتطفئُ المصباح، وتتجمد على السرير.

محـمد يقف أمامها مذعوراً غاضباً، ويمسك المجلة ويصرخ:

     - هل بدأت تكتبين أيضاً..؟ وما هذا  الهذيان الذي تنشرينه.. امرأة ذات أثداء مفتوحة للحب... وجسد مجنون ينضح بالغربة في الارتواء وأنت المتخشبة!هل تتصورين إنني أتزوج امرأة تعرض وجهها وقلبها على حبل غسيل عام؟!

خلعت الخاتم وقذفته في وجهه.

تذكرت الشاطئ الذي كانت تركض فوقه ويلحق بها، يجريان، ويقفزان على الموج، أو يختفيان تحت قارب مقلوب، ويشمان بقايا السمك وأساطير البحارة، يتظاهران بالموت والطفو فوق الموج، تخيلته سيبقى معها إلى الأبد، وفجأة اختفى، وزالت روائحه وكلماته، يجثم هناك في البيت، البيت الموحش الوحيد في أرض إجُتثت أشجارها وبقيت نخلات وصخوراً  وأتربة.

ترى حسن وهو ينأى، يتوحد بشكل غريب، جسمه الضعيف الرهيف يعادي السمك والأرز.

كان مبتهجاً وراح يتقلص مع الشجر، وتتصاعد عظامه كعروق الأرض. يأتيها في بضع ليال بشكل رجل أو صرخة أو بالونة محترقة في السماء! 

 حياة متجسدةً تتحرك على الأرض، وهي في غرفتها، بين أوراقها، تصير ورقاً من الأوراق، تدق كل يوم على الآلة وجسدها، تخمشُ بأظافرها روحَها.

تلبس عباءة وتمشي في زقاق وتدخل بيتاً غريباً وتعرض يدها على المرأة العجوز، بين بخارها وشعرها الأبيض الكث. تقول:

     - دربك وعر يا أبنتي، ستعرفين رجالاً كثيرين، لكن لا أحد سيبقى معك..

ودت لو تقلب مجمرة البخور على رأس العجوز، لكنها مشت في الزقاق كئيبة. وجرت إلى غرفتها وسط اشتباك بين الأم وأخيها.

ألقت بنفسها على السرير. تشعر بأن كليتها تكاد تنفجر، وإن أشباحاً يركضون في صدرها ويصرخون في مغارات مفتوحة على عينيها، تتقلبُ، وتدهش كيف تحن إلى موسى وطيبته البسيطة، وتود لو كانت في بيته..

ازدادت الصرخات والشتائم في أسفل البيت. لم تستطع غرفتها أن تحميها من السيل. وهاهي أقدام أمها المتوترة ترتقي السلم. الآن ستفتح، وفعلاً تظهر لها منفوشة الشعر، عظامية الوجه، عيناها تشتعلان غضباً على كل شيء، تصرخ:

      ــ أين أبوك؟ أتعرفين أين أبوك..؟ إنه مع امرأة الآن .. جاءت امرأةٌ صديقة وقالت إنها رأته يدخل دار طرب وقد أنزل من سيارة أجرة امرأةً ..ومغطاة ..الفاجرة! لماذا تختبئين هنا؟ لماذا لا تحضرينه إليّ..؟ وأين النقود... بحثتُ عن النقود فلم أجد شيئاً.. سرقها وسيصرفها الآن على الخمور والنساء..!

      ــ يا أمي لم لا تكفين عن الشجار؟

      ــ آه، أسمعوا هذه البنت الجاحدة.. أقول لها أبوك ينام مع امرأة ويضرب رأسَ أمك في الجدار وهي تقول لم لا تكفين .. عن الشجار؟! إذا لم تفعلي شيئاً سأحرق هذا البيت كله..!

      ــ أحرقي العالم كله، أحرقي نفسك في الشارع ولن أطفئك!

حاولت الأمُ أن توقفها فاشتبكت أيديهما بقسوة، نحتها معصومة بقوة، اندفعت على السلم، تساقطت ككرة  نار، صار حجمها هائلاً، اندفعت سيارتها كرصاصة في المدينة.

تدورُ، تحدقُ في التضاريس، كشبح، كنفثة تائهة من السماء، مثلما كانت طفلة تمشي في الحارة، مثلما كانت نفثة من الإله، سقطت على تنكة ساخنة هي الحارة، كم كرهت تلك الحارة ولم ترها بعد. لم تذهب إليها وتخاف من المرور بها.تدور بسيارتها، تجد مسبحة من المصابيح التي لا تقود إلى سكينة، الشوارع فارغة، والساحل الطويل معتم، تنحدر إليه، تسمع وشوشة البحر، تسكن قربها. تود لو تنام وهي تلتفت. تسمع همساً. فجأة تطل وجوهٌ مرعبة على الزجاج، فتطلق المحرك وتندفع وهي تسمع صرخات وضحكات!

꧁꧂

كانت الثلة في غرفة واسعة. أجسادُ رجال مسترخية ومستفزة، دخانٌ كثيف من الأفواه، وعيون تحدق في ورقة صغيرة في يد رجل، أعقاب السجائر تنهالُ حرقاً في الأجساد المعدنية السوداء، ووجوه ترتفع فجأة، وأصواتٌ تتعالى وتتداخل، وأذرع وأصابع تمتد منها كأنها أغصان محروقة من الشمس، وانفجارات لغة وارتعاشات مياه رقراقة.. 

وهي تتطلع إلى ذلك الوجه الأسمر، ذلك الصفاء الذكوري الغريب، ذلك الكلام الصامت، والصمت المنفجر شعراً، وتجد الصورة تنغرزُ بين نهديها كوردة حارقة، وتتساءل إذا كان الإله سيعطيها فرصةً لتلثم ذلك الفم الصغير الذي يشبه جمرة ورماداً.

كانت كل سهامهم موجهة إليه، وأخرج عدة منها مضرجة بدمه، وكانت تود أن تصرخ، وأن يلتفت إليها كل هذا الجمع اللامبالي بها، كأنها حشرة اندست في مزهرية، وحين تبعثرت روافدُ الجمع فوجئت به ينساب معها وزميلتها هند، ويأخذهما إلى مشرب في فندق: غرفة صغيرة مطلة على الشارع، وغارقة في العتمة وفي النزع الأخير لشمعة..

رأت رجلاً مخيفاً، رائعاً، وُوضعت علبٌ راح يشربها بسرعة وهند تحتسي على مهل، وهي لا تقرّب هذا المنكر..تتطلع فيه وهو يتكلم وتقترب كما تمنت من فمه، ولكن الآن يطلق كثيراً من الدخان، وعروقها بدأت تؤلمها، وراحت تتدفق بالكلام  ودهست شمعة جديدة، وقلبت علبة..

ولا تعرف لماذا اشتبكت معه، لكن صوتها راح يتعالى بغتة، واندفعت بكلماتها في دروب جديدة، ودهشت من قدرتها على توليد الكلام، وازداد التوتر وهي مخدرة بالروائح، فأخذت علبة ودفقت سائلها الغريب في جوفها، وكأنها تعرف هذا السائل منذ زمن بعيد، وازداد اشتباكها مع زيد، وخرجت مخدرة ومدخنة نصف علبة وشاربة لنصف دستة من القناني الباردة التي حلقت بها، وانتشت روحها واندفعت بسيارتها، وحين وضعت رأسها على الوسادة شعرت براحة غريبة وهي تنام ونور الفجر يشعشع..

في الصباح تتذكره، في دق الآلة المخيفة وهي تدهسُ الأكواخَ وتبيعها في السوق أراض للكبار، تتوهج شعلة صورته في الجريدة وكلماته الشعرية المبعثرة المنتشية الصارخة، تطير إليه في المساء، ويحضنهما شاطئ يطل على جزيرة خضراء، وتبدو الأغنيات والحجرة التي تحبس ذاتها فيها والعائلة والعالم، كلها أشياء مختلفة، والرجل يتدفق معها بكلماته الشعرية الأخاذة:

      ــ أنت فراشة حطت بغتة على سطح قلبي البارد الثلجي..يا لنورك المتوهج، من أين أتيتِ بهذه الأصابع الزهرية المشتعلة، وهذه الحنطة في وجهك وجلدك..

وتتراخى على المقعد، والموسيقى الحالمة تدور غازلة من الظلام والبحر والشجر بدلة ساخنة للشتاء:

      ــ الآن العالم تبدل فجأة عليّ، حينما ظهرت في عالمي المقفر، وكانت الأشباح تملؤه والقبور مفتوحة فيه، أعلنت قيامتي وظهر نبأ فرحي، وجئت إليّ بالأبيض النوراني المطرز بالورد، أيتها الجنية الساحرة !

تسكر بلا خمرة وحين جربتها معه ودخان السجائر والشعر يلفهما، راحت ترفرف بجناحين كبيرين، ولم تعد صرخات أمها تعنيها في شيء، وراحت تعطي الأب علب سجائر ونقوداً صغيرة للنادي، وتسهر إلى وجه الفجر، ولا تكاد تستطيع أن تنهض للعمل، وحين تسوق سيارتها تندفع في الدروب وتصعد الأرصفة، وتخمش مصابيح السيارات وخلفياتها، وتلوذ بالفرار.

حين تجلس على مقعدها في مواجهة الآلة تغتسل بمطر من الصدأ والغبار، وترى زهيرات الشعر ذابلة تحت صندليها، وليالي الغيم وفجر الفضة تستحيل إلى حراشف ثعابين انسلت من روحها، فتتفجر كلماتها مع النزيف الداخلي، وفي الهياج وعذابات الظهائر المشتعلة وأخطاء الحسابات وغيابات التدخين في الحمامات النسائية المليئة بالدخان وهمسات الفضائح. كانت تحمله معها، كان صوته في معطفها وكلماته حمامات تطلقها في وجوه السحرة وموظفي خزائن الدم والعظام، وعلى ساعده ترتاح من أيام مروعة بالكوابيس، يقول لها على صفحات الورق بين الناس وفي السرير، وفي الأركان المنعزلة في المطاعم الصينية الملأى بالنبيذ والظلال والأنوار الشاحبة:

      ــ أنت الحمامة النقية التي تعلنين ميلاد الطهر، سيدة الفرح الأولى، حاملة أختام الحب، من أصابعك ستتدفق كلمات جديدة..

يطيران إلى عش يجمعهما، يغسلها بشفتيه طوال الليل والنهار، يفتح زجاجات النبيذ القانية ولا يأكل إلا شفتيها، وتراه يهذي بعشقها، وينثر صفاتها ومدائحها في كل مكان، تسكر كثيراً، وتدخن معه إلى الفجر، وتمضي إلى العمل كطائر مذبوح.

مشروعاتها كلها ورق نائم في مكاتب البيت، خربشاتٌ تبحث عن وقت، وزمنها مخصص كله للآلة، التي تدخلُ في تروسها فتتقطع وتتناثر مع الكلام الكثيف والدخان.

تصرخ في سامي الذي صار زوجها:

      ــ أريد وقتاً.. داخلي مشحون كبركان تكون مع بداية الأرض والمرأة.. فيه حممٌ ستغطي المكان..

وهو مع زجاجاته يمضي إلى المطبخ والصحون ويعد لها الوجبة، وبالكاد يضع في فمه شيئاً.يتأخر عن الجريدة ولا ينام ويسمع الموسيقى ويشرب، وهي تتأمله خائفة: الآن صار لها طفل جديد، وبدلاً من ضجيج البيت الهائل حدث صمت مروع!

تثرثر معه طوال الليل، وتخمش جلدها، وتطالع الخارج المحترق، أشجارٌ كأنها اشتعلت من القيظ، وتختلي بنفسها، ولا شيء يخرج، وتتكلم أمام سامي طويلاً عن ما ستفعله، وتشرب وتدخن وتندفع، وتجد إن الفجر يقـترب، وهي بحاجة الآن إلى النوم..وبعد ساعات قليلة سينفجر موعدها مع الآلة، وفجأة تجد نفسها في الشارع، تندفع بسيارتها وتبعثر أحجار الرصيف وتذعر المارة، وتنطلق كرصاصة..

꧁꧂

تتقلب على الكرسي الطويل، ثمة سكين حامية في خصرها، تنتزع سامي من مقعده وهو يكتب ويشرب، تصرخ:

      ــ ماذا بك ؟ لماذا تزوجتك ؟ لكي تبتعد عن العمل وتحتسي هذه المشروبات التي لا تتوقف؟ كنت أعاني مع أهلي والآن أنت.. والآلة التي تطحن رأسي كل لحظة..سحبت غطاء التلفزيون، اندفعت مزهرية وتحطمت، دخلت شظاياها في جلدها، صرخت بعنف وحرقة.

السيارة تندفع بهما في الظلام والحر والغبار، وجهها كأنه صار طويلاً، جسدها مبعثر، والدم لا يتوقف، ستموت الآن، ثمة صرخات تندلع في الزقاق المعتم، وأمها تجري وراءها، صراخٌ رهيب يتعالى، وسامي يقود بسرعة، يضع يده على جرحها، وهي تبعده بعنف..

وحين وضع الطبيب بعض الأربطة، وفحصها طويلاً في مواضع الانفجارات التي تقول أنها لا تتوقف تحت جلدها، لم يجد شيئاً.وكان الطريق الخالي، والفجر الوشيك، والنوم إلى الظهيرة..

تحلم حين تتخلص من الآلة ستملأ الدنيا بالكلمات، لكن كيف وأهلها لا يزالون يطاردونها بطلباتهم، وزوجها الذي تتباعد أيام عمله، ويكثر جلوسه في البيت، وقرب زجاجاته..؟ لا خلاص لها أبداً..إنها لعنة تطاردها منذ أن كانت طفلة، منذ الزقاق والشبح الغريب المعتم، الذي لعب بجسدها، وهي مطاردة.لعل سامي امتدادٌ لذلك الشبح جاء على هيئة رجل تشرشر أصابعه بالشعر، ويمضي وقتاً طويلاً صامتاً كئيباً، ليطلع بورقة أو ورقتين، وعليها أن تعاني كل هذا الكم الكثيف من الدخان والحرقة والصمت، ثم يغرق في زجاجته ويندفع صارخاً، يحضر الجن وقوافل العرب وقصص الندماء، ويصيبها شيءٌ غريب من المس المماثل، فتندمجُ معه وتختلط ضحكاتهما وصرخاتهما وشعرهما وقبلهما وأعضائهما، لكنه في الصباح مثل سجادة مبلولة أو طير غريق.ينامُ طويلاً على الظهيرة، ويتركها تزحف نحو سيارتها، مقطعة الأوصال، نازفة، لتجري وتجلس تحت صليبها   الفضي الكبير وهي معلقة بأسياخه ونوابضه التي تتحول إلى كلمات عن البورصة والأسهم والأقفال والإغلاق، ويسحب فكها نمرٌ من هنا، وحيةٌ من هناك، لتندفع في الظهيرة إلى بيت أمها، الشمس الكبرى تجثم على سطح نظارتها، والمكيف تعطل، والأرصفة تشهد الغبار، ورجال المرور يحدقون في ساقها، وهي حين تصل إلى مجلس بيت أبيها تسمع ذات الصرخات وترى الاشتباكات نفسها وتقاذف المواعين واللعنات، حتى تنتزع طبق الأرز وتضعه على طاولة شقتها لترى زوجها لا يزال نائماً..

ترى ملابسه وأوراقه المبعثرة والزجاجات الكثيرة الفارغات، وحين يلملم أعضاءه لغروب الظهيرة، ويغتسل ويتطلع فيها، متذكراً بأنه زوج وموظف، يزحف نحو طاولة الغداء، مستمتعاً بملمس السجادة، والزجاجة، ومتطلعاً بقرف إلى العيش..

      تصرخ:

      ــ أجيء بالأكل في عذاب هذا الوقت.. وأنت مخدر في الفراش، هل عليّ أن أتحمل طفولتك الدائمة؟

تضرب الصحن بيدها فيتناثر الأرز وتقع السمكة على رأسه.يتجرع الشراب، في حين تقذف هي بنفسها على الفراش..

      تهذي:

      ــ أتخلص منه، أهرب من هذا المكان، من الآلة والعائلة، بعيداً يا رب، أجد وقتاً لأكتب، لأصنع أشياء مبهرة، لدي الطاقة، كل هؤلاء عوائق يضعها الشيطان في طريقي، لم أتخيل سامي بهذا الشكل، ثرثار، وكسول، وأناني، رأيتُ مظهره الخارجي، الوسامة والصورة اللامعة في الجرائد، واندفعتُ إلى ذراعيه..

تسمع الهاتف ويجيء صوت هند فتنهض، وتلبس وتتعطر، وتحقد فيه وهو ينظر إليها بدهشة، وتندفع بسيارتها إلى شقة هند، حيث الهدوء والسكينة واللوحات والموسيقى.

تروي مرة أخرى حكايتها، والمرأة الكهلة تتطلع إليها بإنصات غريب، كأنها كلها آذان.

تغيرت ليالي الصمت والحزن، إلى ليل بهيج، ووجوه رجالية شابة كثيرة تحيط بها، وتسمع كلامها المثير، وتقترب منها، وتغازلها، وهي تسدد الضربات للكسالى والتافهين.

تتطلع إلى نفسها بدهشة كيف راحت تضع كرات الثلج في كأس الويسكي، وتشفط الدخان وتلقيه سحائب في وجوه الرجال وكأنها تريد أن تثقبها، وتتدفق بكلمات وصرخات ساحبةً كل البقع المعتمة في النفوس، وأحدهم يصرخ، وآخر يتأوه، وثالث يهرب، وتتطلع إليها هند بدهشة وتقول:

      ــ كيف استطعت أن تهزمي كل هؤلاء الرجال؟!

      وتضيف:

      ــ إنهم حشرات.. آه، لو كنا نقدر أن نكون مثل ملكات النحل نلسعهم لسعة مميتة ونسيطر على خلية العسل..!

تتطلع إليها معصومة  بدهشة، وتجد ثمار الرجال منتشرة من أكياس ملأى بالأكل والعلب والأشياء.تترنح على خطوط الضوء الأخيرة، والدخان، وهمسات هند الساخرة، وتشعر بجسدها الممزق، ونداءات الهاتف وأرقام زوجها وأهلها تومضُ في الفراغ والظلام، وتشعر بهم يقـتربون منها ليجروها إلى الآلة ويحشروا جسدها في تروسها، ونهدها ينشطر والدم يتدفق..

لأول مرة منذ سنين لم تذهب إلى العمل، لم تركض إلى سيارتها، وتندفع بين عجلاتها ودخانها وتقذفها وسط الحشود لتعثر على موقع بعيد وسط غابة من كتل الحديد.

ترى الشمس وراء الستارة كتلة من الفضة.والشاي والموسيقى والبيض المشتعل والخبز الطازج وكلمات الشعر مبهجة.ليس ثمة وجوه الموظفين المحنطة، ولا الآلة التي تدق، وأصابعها تذهب إلى القلم.. وتتكلم.

ويشنق المساء بمجيء الرجال وأكياسهم وزجاجاتهم وعلبهم وثرثراتهم   ودخانهم، وهي تهتف: ما قيمة الحياة دون متعة، ومن يدري ما سيحل به غداً !وتندفع معبةً من العلب بعد أن سخر منها أحدهم بأنها عاجزة عن الشرب، تضع هرماً كبيراً منها، ولا يزال رأسها يتدفق بالحكم والشعر والسخرية والسباب، وكأنها ترى جواً سحرياً، جلنار تتقدم وسط عتمة الذئاب وأبخرة الرماد والكهوف، تتجاوز حشود الرجال النائمة والمثرثرة وتصعد إلى ذروة الجبل، ترى الدرب وسط الدغل والأكاذيب..

تندفع معصومة بالصراخ، تضع أصابعها في وجه خنزير آدمي يتاجر باللحم البشري، تعري آخر صامت متستر مستفيد، وتحس بأن جسدها يُنشر بآلة أخرى، ثم ترى الشمس واهنة خافتة الأنوار، فتقول لها هند إن المساء قد حل مرة أخرى!

لا تكاد أصابعها أن تصل إلى كأس الشاي، والزجاجات والعلب قدُمت، وبدأت الثرثرة تنشر جسد الليل الميت بالضوء، ولكن الهواتف تتسارع وتصرخ، وتسمع في إحداها أمها تصرخ وتقول إن أبوها مريض ونُقل إلى المستشفى.

꧁꧂

تدقُ. أصابعها تكاد تتغلغل في الحديد، وعمرها يذوي لأجل قمل يمتلئ بدمها كل يوم. تدقُ على رأسها، الذي يكاد ينشطر.أهلها، طلباتهم التي لا تنتهي، الزوج السكير ، الأحجار التي تريد ضحية دائمة، الآلة، الكلمات التي لا تأتي، والسهرات الرائعة التي غابت، والشقة التي تنحشر في دولايبها، آه لو تستطيع أن تحيل هذيان السهرات إلى شعر، تطفو بتلك الجثث على نهر الطمي، تصور الوجوه الضائعة في الدخان والفقاقيع..

تتوقف عن الدق. تتناول سيجارة، تندفع بكلمات أخرى خالية من الجداول والسهام المصوبة على القلوب والبيوت.تحدث حولها سحابة من الضوء، تمتلئ الأوراق بدمها النقي الذي يعلب في زجاجات مضيئة، تندفع بسيارتها إلى شقتها، تضع الأوراق تحت أعين زوجها المذهولة، الذي يقرأ ويحاور، ويُعجب ويشارك، وهو الذي ظنت إنه سيغير من كلماتها، وها هو صنع الأرز والسمك والصمت والعطر.

      تصرخ دائماً في أذنه:

      ــ أريد أن أخرج من مقعد الإعدام تحت الآلة..أريد أن أهز العالم بشعري..!

البيت هادئ لها، لا تليفونات من الأب والأم ومعاركهما في هدنة من أجل الكلمة النازفة، ولكنها تحك جلدها بسأم، ضاقت من الصمت، ومن زجاجة سامي الليلية، تقترح عليه أن يذهبا على بيت هند، لكنه يفضل الوحدة.تندفع هي في طريقها الليلي، تعبر تلالاً وجسوراً، تنزل في منخفضات ويتبدل الهواء الرطب المشتعل، وتعبر أزقة راقدة، وتقتحم البيت الضاج بالصراخ، الكل يصمت ويتأملها، تعشق هذه النظرات المستهامة بها، ومستعدة أن تحلب نجوم الليل لكي تظل هذه العيون محدقة بها. لماذا زوجها بخيل بكلمات الغزل والثناء؟

يحيط بها الجمعُ، يصغي للكلمات، ودوائر اللهب والشعر والجمر والدخان تدور، والعيون تتسع دهشة وخوفاً وفجأة تنهمر الشكاوى والصرخات واللعنات، وهي تضحك تحس بلذة من توغل أظافرها في جلودهم السميكة، ولكنهم يشربون ولا يعيرون ضرباتها اهتماماً دائماً.

تواصل قذف شظايا زجاجاتها المحطمة على وجوههم، تقول لسالم: أنت دكان قمامة تجمع فلوسك الصغيرة من الأطفال والغرباء المشردين وتبعثرها في المراقص وعلى الغواني! أنت يا كمال مجرد انتفاخة كلام وأسطر قليلة محفوظة ثم فراغ أجوف.أنتِ يا مريم مجرد تابع لزوج غبي. وحتى أنتِ يا هند فدوامة تبلعين النقود والهدايا والثرثرة!

استمر الصراخ إلى الفجر، وانقلبت طاولات وتحطمت كؤوس وزجاجات وأفئدة، ولم تنفد المياه المشتعلة في الصدور، وبدا إن الجميع استفاق للحظة، ودهشت لأنها أحبت هذه اللحظة كثيراً، وصاحت: هذه لحظة الصدق المطلقة! وشعرت بشلال نظيف غسل روحها.

ثم صحت في الظهيرة على صداع فظيع، وروائح كريهة، ورأت البقايا تملأ الصالة، وهند محمرة العينين تحدق فيها، وتقول:

      ــ عليك أن تنظفي البيت كله من هذه القذارة!

لم تتذكر هند أي شيء، ومضت تأكل بشراهة، وكانت الليلة لا تزال مبهرة في مكان ما من نفسها، وحاولت أن تنبش ذاكرة هند، وجاء الليل كرة أخرى، وظهرت الزجاجات والوجوه والأدخنة والضحكات والصرخات والأشعار وبالكاد كان أحد يتذكر ما جرى في ليلة أمس، وبدت جلنار مذهولة، فكلما صعدت التلال والجبال وقادت الرجال في الدروب الضيقة تبخروا في الضباب وتجد في قبضتها تراباً من أشباح وأرواح..

      تقول للجمع:

      ــ لماذا تسمونني معصومة هذا الاسم البلدي المبتذل، أنا جلنار! انظروا إلى أوراقي الكثيرة التي أحرقت فيها روحي لكم، انظروا إلى الجبال التي أوصلتكم إليها.. ما بالكم تتطلعون إليّ بهذه النظرات الغبية؟ أنتم تسكرون وتنسون فتوحاتي الكبرى..

      يقول كمال:

      ــ دعوها فهي لا تزال سكرى من البارحة!

      ضحكوا. لكنها قالت:

      ــ بل أنت الذي لا تفيق من سكرك يا تافه !

꧁꧂

ليس هذا هو اسمي. خشبةٌ محفوظةٌ من الطوفان. برسيمٌ لم يأكله الماعز البري التراثي. هذه امرأةٌ تغسلُ جلدها كل يوم بالخناجر والشمس وتُصلب في زقاق بلدي ضيق. هذه التي باعها أبوها في سوق الغواني وصارت نبية. انظروا إلى أصابعها الممتدة من الآلة إلى الإله.ليس هذا هو أسمي، قناعٌ من المكر، ودميةٌ تغمغمُ بنعم الفراش، وتنسجُ الوردَ الصناعي في مخدات الرجال، وتُوضع على عرش العرس مصبوغةً بالحناء والدم.بل امرأة مصلوبة على السهام المعقوفة ومطرٌ معدنيٌ ينهمرُ على رأسها منذ أن كانت طفلةً تهربُ من الزقاقِ الذكوري وسواطيره.امرأةٌ وجدت شظاياها في كل بقعة من الأرض تأكلها النسور.

أيها الأطفالُ الطالعون من دمي، أحلامي النازفة المشتهاة البعيدة، كلُ حذاءٍ صغير يتحول في روحي إلى قنبلة، وأنا شجرة بلا أوراق، محروقة، في أرض صفراء، أحبس الضباب في يدي وأحيله إلى قطرة وطفلة..


                                                                                                               11 ابريل  2012 

________________________

ضوء المعتزلة «قصص»، 2017.

«القصص: ضوء المعتزلةجزرُ الأقمار السوداءسيرة شهابمعصومة وجلنارسارق الأطفالشظاياالترابيون».

المقالات العامة

العناوين المميّزة

الدرب ـ قصةٌ قصـــــــيرةٌ: لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة

إلى أين يسيرُ هذا الطابورُ الدامي الأقدام ؟  لا أثر للقرية أو القصر أو البحر أو الحدائق أو النسمات الشمالية ، تلالٌ من الرملِ وحقلٌ من النخي...