الثلاثاء، 18 نوفمبر 2025

الدرب ـ قصةٌ قصـــــــيرةٌ: لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة

إلى أين يسيرُ هذا الطابورُ الدامي الأقدام ؟ 

لا أثر للقرية أو القصر أو البحر أو الحدائق أو النسمات الشمالية ، تلالٌ من الرملِ وحقلٌ من النخيل الشيطاني ومرتفعاتٌ صخرية ومنخفضات كأفواهٍ جائعة ، والشمسُ هذا البركان المتنقل المتفجر يرسلُ قذائفهُ في الوجوه وهذا الطابورُ يزحفُ بمعاوله ورفوشهِ وجرارتهِ وخيامه وعرقه وأرقه وصرخاته وسياطهِ مجتاحاً الرمال والأعشاب والصخورَ والتلال والنخيل ، خيوطاً من الدخان تعلو فوقه ، يشقُ طريقَهُ مخلفاً خطاً أسود ودماً وعظاماً وبقايا الطعام . . 

واجهنا حقلٌ من النخل ، جذوعٌ منتصبة بانحناءات مكسورة ، مجموعة من الشيوخ الشحاذين على أبواب الصحراء . . تمدُ أيديها للماءِ ولكن البلدوزر الأصفر يمدُ لها لها أسنانـَهُ . . تجتاحُ الأعشاب . . يجتاح الأعشابَ والفسائل الصغيرة يقطعها بحدة وقوة ، ننظر إلى الشمس الصاعدة نحو قلبِ السماء ونخفضُ رؤوسنا بسرعةٍ ، إنها تعصرُ القلبَ وتشربُ الدمَ .

يطعنُ البلدوزر النخلة الشامخة ، تلك التي تنتصبُ في عمق الطريق ، يجأر بالغضب وهي تقاوم بصلابة ، يتناثر ( الكرب ) فوق الأرض وتنتزعُ الأسنانُ تلك القشرة السوداءَ لتصلَ إلى البياض الجميل ، تنحني النخلة قليلاً ، تغوصُ الأسنانُ ، يرهفُ السمعَ إلى الأرض اللامبالية . .

 أقطعُ بذوراً ، أجمعُ حجارة ، أصطدم بعامل آخر . . 

جوزيف ينحني لي باتسامة جميلة ، كوجههِ الوسيم . . اكتسى سمرة الهند الجنوبية ، نتعاون على قطع نخلة صغيرة ، نضربها بحدةٍ وغضب ، لكنها لا تتأثر . . أرى البلدوزر يتراجعُ عن النخلة العملاقة ، ويفاجئها من الخلف بضربةٍ حادةٍ ، تهتزُ ، ضربة أخرى ، لكنها لا تسقط ، العامل الأنليزي الذي يقودُ البلدوزر يصرخُ بهياج ، نسمعهُ فنحفر لنخلتنا ونقطعها من الأسفل ، يتراجعُ الأنكليزي ويطلبُ من العمال الأنتباه . . يهجمُ بضراوةٍ ، تقطع السكينُ الضخمة النخلة فتتهاوى جثتتها بصخبٍ ، ننطلقُ إليها ، نرفعها بسرعةٍ وخفة ونلقيها حيث تجمعت الجذوعُ في مقبرة هائلة . . 

تحتشدُ السواعدُ ، تتقاربُ أجسادٌ كثيرة لمئات الرجال ، العرقُ ينضحُ ويغسلُ الخرقَ الكاكية اللون ، الجذوع تــُقذف بعيداً ، الحصى يــُنزع ، الجذور تــُقلعُ بعنفٍ أو تــُقطع أو تــُحرقُ ، بقايا البركة تــُهدمُ وتــُسوى بالأرضِ . أنصتُ إلى صيحات الأطفالِ الذين كانوا يغوصون ويتسابقون من أجلِ حبة لوز ، يتذكرُ جوزيف مدينتَــهُ الكبيرة التي قدم منها ، إنها باتساع هذا الرمل وذاك البحر ، والبشر أنهارٌ تصبُ في كل مجرى ، والغاباتُ الساكنة قرب الجبال ، الخضرة بامتداد النظر ، الورقة الخضراء صفحة من كتابٍ مقدس ، والمطرُ والأنهارُ والمعابدُ والقلاعُ القديمة ومصنعهُ الذي غادرهُ ، وأصدقاؤه وزوجته وطفلتاه ، يضربُ الأحجارَ بعنفٍ ويرملُـها ، يتوقفُ ، يدخن ، يميلُ قبعة القشِ نحو عينيه ، يقول :

- يا للشمس ؟ ! نحن لدينا شمسٌ مؤذية ولكن ليست مثل هذه ؟

ذهبتُ مراراً إلى غرفتهِ الوساعة ، حيث عسكرَ جيشٌ صغيرٌ من زملائهِ ، أصطفتْ الأسرة قرب بعض ، فــُتحت النافذة على مصراعيها ، وأنهالت موسيقى الرقص والغابات والجبال والثلوج . .  يحدقُ في السقف طويلاً أو يرمقُ صورة العائلة المشتركة . . ما أجمل وجه زوجته ! تنطقُ العينان والقسماتُ والفمُ الصغير والأنف الجميل : ( تعال ! ) ، يتأوهُ بحدة ، ويسحبُ علبة البيرة وينفثُ الدخان . . قطارٌ صغيرٌ يمضي في البحر أو الرمل وهو يلوحُ من بعيد عبر النافذة ، تضيع حقيبتهُ في المطار ، يقرأ نص العقد فيفاجئ بالغرفة الجماعية ، ينتظر دوره للحمام  وهو يئنُ من الألم . . يلوحُ لزوجتهِ وتضيعُ ملامحها في النهر البشري المتدفق ، يتذكرُ إنه نسي أن يقبل أبنته الكبرى لآخر مرة ، يرفعُ يدَهُ ، يصرخُ ، وينطلقُ القطارُ ، تضيعُ صيحاتهُ في الأجواء والزحام والمطارات والتأشيرات والتفتيش والحجر الصحي وعقد العمل الغريب واللغات والوجوه المكفهرة ، ينهارُ على فراشهِ مفرغاً العلب والنقود والشجائر . .

يقتربُ رئيسُ الملاحظين الأنكليزي (ديفيد) ، يخزنا بإحدى عينيه ويهزُ العصا في يدهِ ، أكتسي بالعرق :

- لا أريدُ أية أحاديث أثناء العمل !

طالما رددَ هذه الملاحظة ، أمس تشاجر مع عامل وضربه بالعصا ، توقفَ العمالُ لحظة وهم يسمعون شجاره مع الرجل ، تصاعدتْ صرخاتهُ ، هجمَ بحدة ، تحاوط الملاحظون العمال ، دفعوهم نحو العمل ، مهدنا الأرضَ بصمتٍ ، سمعنا عويلَ الرجلِ ثم رأيناهُ ينهضُ وينفضُ الترابَ ويندسُ في الجموع . . 

استوت الأرضُ تماماً ، اختفتْ البركة والأوراقُ والجذورُ ، فرغتْ الشاحناتُ حملتها من الأسفلت . . اقتربنا من فلسعتنا أنفاسهُ الحارة ، غرفنا برفوشنا ونثرناهُ . . أيدٍ كثيرة ، تلالٌ سوداءُ عديدة ، بخارٌ يتصاعدُ ، أحسُ بوجهي يشوى ببطءٍ وبلا توقف . . كم بحثتُ في المكاتبِ عن عمل !

زاحمتني الاكتافُ والرسائلُ ودخلتُ مكاتبَ باردة كالثلاجات ، رمقتني السكرتيرات بلا مبالاة ، سرتُ على الأرصفة ، قرأتُ إعلانات الصحف ، ثم فتحتْ الشمسُ ذراعيها الطويلتين وضمتني ، تمددَ الأسفلتُ على الطريقِ النامي .  . 

بدأت الصحراءُ تسقبلنا ، الرملُ الأصفر لا نهاية له ، ثمة تلالٌ وحفرٌ وأتربة ، الطابورُ يغادرُ مكانَهُ ويمضي ، ثمة حفرٌ واسعة علينا أن نردمها . . الآلاتُ والرجالُ تنطلقُ حيث تكومَ الرملُ .  . جوزيف أيضاً معي . يبدو أن تعباً عنيفاً قد تسلل إلى هيكلهِ الصغير . . يملأ الشاحنة بالرملِ ببطءٍ . . 

أغرفوا ، أغرفوا ، أملأوا هذه الحفر بالرمل ، الطريق لا يعرف أحدٌ إلى أين تقود ، بعضهم يقول إلى قصرٍ فضخم ، البعضُ الآخرُ يؤكد إنه إلى جسرٍ ، أغرفوا ، أضربوا هذه التلال ، يتطايرُ الغبارُ ، أسمعهُ يتألمُ من عينيه . . 

روى لي جوزيف إنه كان مدمناً على القراءة ، في المصنع الذي عملَ فيه اكتشف أشياءَ كثيرة ، الحروفَ وأسرارَ الكلمات ، الأصدقاءَ ، السواعدَ التي تقفُ معاً ، الابتسامات الطالعة من القلبِ ، جلساتِ الغناءِ والاكتشافاتِ والرحلاتِ ، كان المطرُ والشمسُ الهادئة ، كان الشتاءُ والمعاطفُ والجمرُ ، الطفلتانِ والأمُ والسمرُ ، هناك غرفتاه الصغيرتان ، أكتملَ كلُ شيء وراءه ! كيف وجدَ نفسه فجأة في صحراء يشتعلُ رملُها وتقذفُ سماؤها الحمم ؟

عيناهُ ، كأنهُ لا يرى ، يقذفُ الرمل بعيداًعن الشاحنة ، يملأ وجهَ أحدَ العمال ن يشتمهُ الآخر ، يقتربُ ديفيد منه ، يهزهُ بعنفٍ :

- ألا ترى جيداً أهيا الغبي ؟

- امتلأت عيناي بالغبار . . 

- أهذه خدعة للراحة ؟

من جديد يغرفُ ، الحفر عميقة كالآمال الخائبة ، الشمسُ استوت فوق السماء ، اندفعَ اللهب من الرمل والقار . . الأعماقُ الخائبة لا ترتوي بالرملِ ، لم تعد لديهِ كتبٌ هنا ، في النهار تحت الشمس ، في الليل يقدمُ المشروبات في البار ، الدخانُ والسهرُ والأهاناتُ والتعبُ والرغبة في النوم والرحيل ، ومرة أسقط كأسَ البيرة المليء في حضن رجلٍ فلكمهُ بقوةٍ ، سقط تحت الطالولاة ، كانت الأشياءُ كلها تدور حوله ، الكؤوس والوجوهُ والمصابيحُ الصفراءُ والكوفياتُ البيضُ والطاولاتُ ، أحس بنفسهِ يرتفع ويحلقُ في الأعالي ، كأنهُ يجثمُ على مقعده في الطائرة ، كأنهُ يمدُ يدَهُ من القطار ويتذكرُ إنه لم يقبل أبنيته الكبرى المريضة ، لم يودع أصدقاءه في المصنع ، أخذت الأضواءُ الخافتة تدورُ كالزنابير ، الوجوهُ تدورُ ، كانت اللكمة موجعة وحد الطاولة موجعاً ، الندل يغسلون ثوبَ الرجلِ الذي راح يدور ، أبصر نفسَهُ يغرق في بحرٍ عميق من البشر والأحجار والزجاجات الفارغة . . 

اقتربتْ سيارة فخمة منا . . أزيحت ستائرٌ داخلية وأطل وجهُ رجلٍ عجوز . . طالع ما أنجزناهُ بغضبٍ واضح . . ثم اندفعتْ العجلاتُ الأربع وأطلقت سحابة غبار عارمة . .

نصف ساعة الغداء ابتدأت . تجمعنا في الخيام الكبيرة المنصوبة . تزاحمنا في بقعةٍ ضيقةٍ وظهرت أكلاتٌ من الجنوبِ والشرق والغرب . تصاعدت الشكاوى والضحكات والآمال ، قال أحدهم : إن رجلين أصيبا بضربة شمسٍ  ونقلا للمستشفى . كم تمنى جوزيف أن يصاب بضربة شمس ويرتاح عدة أيام ! أمس حطم ديفيد وجهَ رجلٍ رفض أن يعمل ، سمعنا صيحاته ، نظرنا إليه ، كانت الأيدي تمسكُ الرفوش والمعاولَ وتقودُ العربات والآلات ، ثمة لحظة خاطفة توقف فيها كلُ صوتٍ ، تلك اللحظة الغريبة التي لم يمسعْ فيها سوى الضرب ، وقفت الأيدي لحظة حدادٍ على شيءٍ مبهم ، أنصتنا غلى الرجل وهو يبكي ، الرجلِ ذي اللحية الكثة واسمال الجبال ، بدا أن النشيج قد انبعثَ من الشمس والأرض والتلال والخيام ، ملأ الصوتُ الفضاءَ . . استحالت اللحظة الخاطفة إلى وقتٍ طويل لا يريدُ أن يفضي إلى نهايةٍ . نظرنا إلى بعضنا البعض ، رجالٌ سود وصفرٌ وبيضٌ ، أنبتتنا جبالٌ وأنهارٌ ومدنٌ وصحار ثم القانا التيارُ الصاخبُ في جدولٍ ضيق . النظراتُ تقتربُ ، تكونُ شيئاً غامضاً ، كأن الأيدي تمتدُ زتتجمعُ . لكن البكاءَ توقف ، واستعادتْ الضجة مكانَها المفقود . . 

انتهت نصفُ ساعةِ الغداء الخاطفة ، فترة لذية رغم التكديس في الخيام . غفوة صغيرة منعششة . لم تزل الشمسُ مرابطة فوق العيون ، لا نسماتٍ ، لا طيورَ ، لا نخيلَ . أسربة وأتربة وأفعوانٌ أسودٌ يزحفُ إلى جهةٍ مجهولة . قالوا إن الطريقَ يفضي إلى قصرٍ عالٍ في الصحراء ، وأنه ينتظر قدومَ مالكهِ من رحلة شهر عسل . قالوا إن زفافاً مذهلاً سيبدأ فيه . لم يعد يهمني شيءٌ في هذه الحياة ، سرتُ وسرتُ وركضتُ في الطرق ، بحثتُ عن عملٍ حتى أهترأت أصابعُ قدمي ، أنحنيتُ أمام تاجر سلعٍ مهربة ، انتظرتُ أياماً أمام بابِ مقاول ، حتى خفتَ صوتي . لا يبدو أي قصر في هذه الآفاق ، وعلنيا أن نهرولَ في هذا الرمل المجهول . حثتني زوجتي على أن أصمت دائماً ، أمسكتني بحدةٍ وهي تصرخُ ، خرجتُ من المنزل لاعناً كلَ شيء . . 

حفنا ، جاءتْ الشاحناتُ وألقتْ الأسفلت . الملاحظون انطلقوا يعنفوننا على الكسل والأحاديث ، ارتفعت عصيهم وأصواتهم ، أندفع الطابورُ الهائل إلى تلالِ القارِ المتكومةِ ، راحتْ الرفوشُ تأكلُ الوجبة السوداء بنهم ، تتصاعد الأبخرة وهو ينــُنثر على الأرض . . 

اقترب مني جوزيف وقال :

- لا أستطيع أن أحتمل أكثر . .

الكلمات التشجيعية تتبخرُ في هذا الجو . سقط عاملٌ على الأسفلت . أندفعنا إليه ، غاصَ في القار وشوى ظهره . يتكلمُ بلغةٍ رنانة كالعصافير . نزعنا قميصه ورأينا آثاراً حمراء وانتفاخات في كلِ جسده ، يرتعشُ . أخذناهُ إلى إحدى الخيام . الملاحظون يدعوننا إلى ترك الرجل فوراً .

يتقدمُ ديفيد بحنق :

- عندما يسقط رجلٌ لا أريدُ أن أرى أحداً يقتربُ منه . .

يفضُ الصفوفَ بعصاه ويديه وبصاقهِ وشتائمهِ . نعودُ . أنصتُ إلى طائرٍ متعبٍ يرفرفُ في السماء ، يطلقُ نداءاتٍ من أعماقهِ إلى كائناتٍ بعيدة ، إلى أين تريدُ أن تمضي في هذه البراري الموحشة ؟ يلتفتُ جوزيف ويصغي . يقتربُ طائرٌ آخر ، ظهرَ من لهيبِ النار الذائبِ في الهواء . يمضيان معاً ، ويتغلغلان في الضوء . .

أي هدير لهذا الطابور ؟ اهتزتْ الأرضُ ، ترنحتْ التلالُ من المعاول وآلات الحفر ، حاولتْ الصخورُ أن تصدَ التوغل ، أطنانٌ من الحصى تــُقذف بعيداً ، الطريق يبدأ خطوة ثم يستعُ ، العرقُ والكره لكلِ شيءٍ والحقد على الناس والحجارة والشمس والقصر والأكواخ . ذات ليلةٍ تـُضاءُ بقعة كبيرة في الصحراء ، تأتي قوافٌ من السيارات الفخمة ، عبر الطريق ، تنتشرُ المضاربُ حول البيت الفخم المتلألئ بالأنوار والنساء ، تشتعلُ النارُ تحت السفافيد والقدور الكبيرة السوداء ، رائحة السعف المحترق والشمبانيا والكافور تهفهفُ مع الريح ، دقاتُ الطبول والدفوفِ وضجة الجاز تسري في الصحراء الباردة . . هل سيرى المخمورون النائمون على مقاعد سياراتهم أية عظام على الطريق ؟

تتناثرُ الصخورُ بعيداً عن الطريق ، يريني جوزيف كائناً غريباً يزحفُ هارباً . كان ضباً كبيراً مذعوراً . قالت لي أصمتْ فصمتُ . اندفعتُ في الشوارع وأرصفة الميناء ، دخلتُ المكتبَ الأنيق فقال لي الرجلُ إننا نريدُ أن نوظفك ولكن . .سرتُ بين الحديد الخردة ، واسترحتُ في الظل ، قرأتُ في الجريدة ، أبصرتُ ألسنة مقطوعة وأنفاقاً مهدمة . .

سقطتْ قبعة القش التي يلبسها . يمسكها بصعوبة ، وجهه احتقن بالدماء في حمرة النفط المشتعل ، أضواءُ الآبار تسحبهُ من زحمة البشر المتكدسين . يلقي الكتابَ جانباً وينطلقُ ، القطارُ ضجة مدوية في الآفاق الخضراء ، قالتْ زوجتي : أصمتْ ! تضيعُ الحقيبة والحقيقة ويشعرُ بأنه طفلٌ ضاعَ في غابة ، قالت زوجته : تعالْ ! لم يرسلْ بطاقة العيد للأصدقاء ، ترنحَّ على الأرض ، ترنحَّ المعولُ والقبعة ، أمسك حجراً دخلَ في كتفه . . لم يتجمهر العمالُ حوله ، سرتُ نحوه ، الملاحظون تنبهوا ، سمعتُ نداءات خلفي ، خفتتْ الضجة قليلاً ، كان جوزيف بلا حراك ، كأن حربة سحرية ثقبت رأسه ، رفعتهُ ، نداءات وصرخات حولي ، توقفَ البلدوزر ، ورأيتُ النخلة تنحني ، قلتُ : سأحملهُ إلى الخيمة ثم أعود بسرعة ، دفعني أحدهم بقوةٍ ، رأيتُ ديفيد فوق رأسي ، خفتُ . . 

- قلتُ لا تفعلوا ذلك !

ضربني بحدة على كتفي بعصاه . جاشَ صدري بماءٍ حارقٍ ، أستكنتُ وأنا أمسكُ حجراً ، النخيل المحتضر ، الضبُ الهاربُ ، البار الطاولة التي سقط تحتها جوزيف ، تدورُ ، الشمسُ التنورُ ، طابورُ العمال الصامت يدورُ ، اللافتاتُ ، إعلاناتُ الجرائد . 

- لا يحقُ لك أن تضربني !

- أخرس !

حركَ رأسَ جوزيف بحذائهِ . أمسكهُ من ياقتهِ بعنف :

- انهض !

الرجلُ لا يقوى على الوقوف ، يضربهُ ، يصرخُ بهِ أن ينهضَ ، يضربهُ ، توقفت المحركات ، الرجلُ يسقطُ كخرقةٍ . تسكنُ الرفوشُ والمعاول . يتقدم عاملان نحو الخيام . صمتَ كلُ شيء . النظراتُ تلتقي . لغاتٌ عديدة تتكسرُ في النورِ الباهر . ثلاثة عمال يتقدمون أيضاً . الملاحظون ينتشرون . صرخاتٌ غاضبة تترددُ في البرية الشاسعة . لكن الصمتَ عادَ يلفُ كلَ شيءٍ .   

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ツ 3 – يوم قائظ «قصص»، 1984.

❖ «القصص: الدرب – أماه… أين أنت –الخروج – الجد – الجزيرة».
















المقالات العامة

العناوين المميّزة

الدرب ـ قصةٌ قصـــــــيرةٌ: لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة

إلى أين يسيرُ هذا الطابورُ الدامي الأقدام ؟  لا أثر للقرية أو القصر أو البحر أو الحدائق أو النسمات الشمالية ، تلالٌ من الرملِ وحقلٌ من النخي...