السبت، 30 أغسطس 2025

الأحجار ـ قصةٌ قصـــــــيرةٌ: لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة

أغلقْ الكتابَ أيها الشيخ ، أغلقهُ ، لهذا الصباح مذاقُ اللهبِ ، تغطي يا حروف ، فلونـُك لونُ التعبِ ، وخمرك ماؤك يترجرجُ فيه الأنهيار .

أشعلَ سيجارة . 

(أيتها النارُ التي لا تحرقُ سوى القلب متى ستسكنين هذي السطور ؟).

أغلقَ الشيخُ الكتابَ ، ما عاد يتكلمُ إلا في ذاتهِ . حجرٌ ، حجرٌ من ورق .

تناهتْ إليهِ أصواتٌ حادة . توقف القلمُ عن الكتابة الليلة الماضية . ترنحَ في منتصف الطريق وارتمى في حفرةٍ واسعةٍ . جاءتْ النخيلُ، جاءت الينابيعُ ، جاءت الفصولُ ، جاءت الأحجار ، والثمارُ والأسماك والأزهار ، جاءت القبورُ ، جاءت الكتبُ والسهول .

سمعَ طرقاً عنيفاً على الباب . بعد لحظةٍ خرجَ ابنهُ من الغرفة واتجه لفتحه . وما كاد حتى اقتحمتْ المرأة الخرساء واندفعت نحوه . الوجهُ يعرفهُ جيداً ، وانتظرَهُ ، وحلم به ، وفكر فيه ، وجاءَ مع الينابيع والثمار ، ودار في دهاليزهِ ، دارَ كدوامةٍ ، واختفى في ظلال الأغصان ووقفَ في الخلاء ، تقتربُ المرأةُ بعينيها الوحشيتين ، وثيابها السوداء الممزقة ، دار مع الظلال والأنوار ، واشتبكَ مع الحجر ، وجهها المعروق المصفر ، كان يطفحُ في الجدول المتعفن . اقتربي أيتها المرأة ، يا غلقة الكتاب .

وكان ابنهُ يلاحقها بتوجسٍ وخوف . سقطتْ تحت قدميه . عيناها تنوران يشعلان غاباتٍ بأكملها . صوتها يطقطقُ ويتكسر :

- آ . . آ . . آ . . .

مدت يدَهَا إلى جهةٍ ما . أمسكتهُ بالأخرى . راحتْ تصيحُ ، خوفٌ مرعبٌ يسكنُ وجهَهَا . ليست مثل المرة الماضية . أشارتْ إلى المكان البعيد . بكتْ تحت قدميه . نادته بنظراتها ، دعتهُ للقيام ، الأمواتُ نهضوا فأنهضْ أنت ، تكسرتْ أحجارُ العالم وأنت لم تتكسرْ ، تزحزحْ عن مقعدك وتعالْ معي . دعتهُ للمسير ، دعتهُ وصاحتْ على المربعِ المصيدةِ المميتِ . لم تكن مثل المرة الماضية .

دخلتْ بصغيرها تلك الساعة ، وكان المساءُ قد زحفِ بتروسهِ الحديدية فوق ضلوع الوقت ، أدخلتْ أبنها فوقفَ بين يديهِ وهو يبتسم . اشارتْ بيدِها وأشعلتْ الضوءَ . أندلعتْ النارُ في وجهها وأحرقتْ سعفَ النخيل ، وترنحتْ على الأرض ، أمسكته بيديها ، وابنها يبتسمُ . غضبتْ عليه واشارت إلى رأسه المحروق ، إن ابنها مسلوخ ، مشوه ، ولكنه يضحك وهي تصفعه . أشارت له أن يعاقبه ، أن يعلمه ، كأنها تقول : 

( ليس لدي سوى هذا الصغير يا سيدي ، أشعلَ النارَ وأحرقَ نفسه وبيتنا ، لا أدري ما الذي يفعلهُ مع أعواد الكبريت والعصافير . علمه يا سيدي كلمة ! ) .

- تعال أيها الصغير . . قل لي لم فعلت ذلك ؟

- أردتُ أن أرى النار .

طالعهُ بابتسامةٍ شيطانية .

- لقد احترقتْ العصافيرُ ولم يحترق الحجر !

رفعتْ يديها ورأى حفرة يغوصُ فيها الطفلُ ، ثم كهفاً واسعاً يدخلُ فيه . انزلقَ في بئر ربما . ماذا حدثَ لهُ حقاً ؟ إنها تحركُ يديها ، وتلوي شفتيها ، وتشكلُ قضباناً وبشراً وظلاماً . المرأة تحاولُ أخراجَه من البيت .

( أين تريدين أن تقوديني أيتها المرأة الضائعة ؟ ) .

- ماذا حدث ؟ إنني لا أفهم شيئاً .

راحت تؤشر بيديها : شكلتْ جمعاً من الناس يحاصر ولدها . لا يدعه يفلتُ إلى البحر أو البرية . يحاصرهُ ، ويقتربُ منه ، يخنقه . قضبانٌ من السواعد تعصرهُ . 

(يا إلهي ، لم أعدْ أفهمها ! ) . 

عندما لمستهُ في صباحٍ سابقٍ رأى الماءَ يبتلعُ الصبي والبردُ يأكله . لبسَ عباءتـَهُ ووضعَ قدميهِ في نعالهِ وانطلق وراءها . دخلَ الكوخَ فالفاهُ شبه ميتٍ على الحصير . شم في البيتِ رائحة العفونة ، وكان الهواءُ يتحرك كأنفاسِ الجثث ، ركعَ فوقهُ ووجدَ قلبهُ لازال ينبضُ . أوقدَ النارَ فأفدأه . فتح الولدُ عينيه . . وأبتسم !

في هذه اللحظة جرّتْ المرأةُ الشيخَ من ثوبهِ وأشارت إلى الباب . نهضَ . أشعلَ سيجارة أخرى . لبس عمامته . ربما قد غاصَ في بركةٍ وحلِ الشيطان الحقيقي . وربما قد خرج من القرية وهرب ، فكيف سيجدهُ ويساعدها ؟ ولكنها ترسم قفصاً . هل أخذته الشرطة لأنه سرق ؟ !

جاءته زوجتهُ : 

- ألا تترك هذه المرأة ؟

- أتركها ؟ !

سار وراء الخرساء . أندفعت أمامه وقد ارتخت ملامحها اليابسة . 

  ( ليست زوجتي حتى أتركها . ليست أرضي حتى أبيعها . لا أعرف من أنتِ أيتها المجنونة . شكلٌ مألوفٌ ظلَّ يترددُ أمامي حتى سكنَ الطرقَ . وجهٌ طورد بالحجر واللعنات فما أختفى . فتاة ضائعة ، امرأة بين القبور ، مجنونة تشيرُ إلى النجوم والمآذن وتضحكُ . ثيابها الممزقة ، صيحاتها الوحشية ، سكونها الغريب ، بطنها المتكورة فجأة ، زانية وملعونة إلى الأبد ! ) . 

وتمضي في الطريق وتشيرُ إلى جهة الشمال . لا يرى سوى البيوت . . 

( إلى أين تريدين أن نمضي ؟ سيري وأجمعي العابرين ، سيري وأيقظي النائمين . لن تستطيعي أن تفهمي الحلمَ الذي رأيته . حتى لو تحولتُ إلى ممثلٍ بارع . لن تفهمي . أنت أيضاً حجر . يا حجراً غارقاً في الجنون . لا بيوت ، خلاءٌ واسعٌ ، بحثتُ عن ورقةٍ فما وجدتُ ، وأنت موثقة على خشبة ، عارية وشعرك يغطي وجهك . لا أعرفُ أين كنتُ أنا ؟ ولا أعرفُ من أين انطلقَ الحجر . حجرٌ رشيقٌ سريع الخطى . أنقذفَ على صدركِ . ارتجَ وانبثقتْ صرخة !

( تألمتُ . تألمتُ . تألمتُ ، وأردتُ أن أخرج فلم أستطع . حجرٌ آخر يندفعُ ويشقُ ثديك ، صرخة أخرى . هذه الصرخة علمتني أن فمي هو الذي أطلقها . لكن هل ارتجافُ الأرضِ كان ارتجافي ؟ حجرٌ ثالثٌ في الرأس . حجرٌ رابعٌ . ورحتُ أنتفضُ حتى طلعتُ من الكابوس . ) . 

تسيرُ في الأزقة ، يرفعُ الناسُ رؤوسَهم ، يهزونها استغراباً واستكاراً . يلتحقون بالركب . هذا الصبي سببَّ أزعاجاً وقلقاً ، كلماتهُ وضحكاتهُ تنبئ بشيءٍ غريب .

حضنهُ بين ذراعيه مرة ورأى الحريقَ قد شوهَ جلدَهُ . أعطاهُ أقلاماً ودفاتر وكتباً وتفاحاً .

- أريدُ أباً !

- إنني كأبيك . 

ابتسمَ بفرح :

- هل أمي زوجتك ؟

اقشعرَ واشمئزَ . تصورَ الحصيرَ الممزقَ والرائحة العفنة وبقايا الطعام والوجهَ الابله فنكسَّ رأسَهُ . .

- ألستَ أنت أبي ؟

- كلا . ولكني . . 

- من هو أبي ، أتعرفهُ ؟

ارتفعَ الضريحُ أمامهُ والراياتُ والوجهُ الغائبُ الحاضرُ في الأنفاس . 

- إن أي طفلٍ لا أبَ لهُ يكونُ شيخنا الأخضر أباً له . 

طالعك وعيناهُ على اتساعهما ، كأنهُ وجدَ حلاً لمسألةٍ تؤرقهُ . انهمرتْ أسئلة كالوابل .  .

أين تريد المرأة أن تمضي . ها هي الأزقة قد كُنست ، وبدأت البساتينُ تقتربُ . التفتَ فإذا الجمعُ صار حشداً . يغمغمون ويتطلعون إلى المرأة بسخريةٍ وكره . 

( إنها تقودني إلى شيءٍ غريبٍ . أحسُ في خطوات الحشد رهبة . ) 

ماذا حدث في هذا الصباح ؟ سألَ أحدُ الرجال فهز كتفيه . 

( ماذا أصابك أيها الصغير ؟ لعل اباك يسيرُ معنا الآن ، ويتمنى في قرارة نفسه أن تموت . أيها العار أطلعْ من الصمت . أيها الحجر المستكين في قرارة الوحل أنهض ! ) 

رأى الصبيُ الحجرَ يلمعُ في لجةِ البحر . سار على الشريط الحجري ثم تدلى . نزل إلى الماء شيئاً فشيئاً . كان بارداً ومتلألئاً . وضع قدمه وأحس بلسعةٍ كلسعة السوط . وضع القدمَ الأخرى وانهار في الماء !

- لم أغرقتَ نفسك أيها الأبله !

- رأيتُ ديناراً يلمعُ في الماء !

أخذه إلى البحر . طالعهُ الأولادُ بدهشةٍ . ابتسم بحارٌ كان متوجهاً إلى قاربه . أخرج الخيط والشصَ والقاهُ في المياه . ابتسم الصبي وهو يمسكُ الخيط بيديه الصغيرتين . وضحكا وهما يسحبان معاً سمكة بطول الأصبع . 

أمسكت المرأة يدَ الشيخ واشارتْ إلى نهايةِ الطريق المحصور بين البساتين . لم يرَ شيئاً يستحقُ هذه المسكة الخشنة . تأوهتْ وتحشرجت الألفاظ بين شفتيها وتكسرت فلم يخرج سوى الزبد .

انتهت البساتين وبدأتْ البرية . آه ، يعرفُ ماذا يوجد وراء التل ! أصطخبَ ماءُ قلبهِ . وتساءل برعب : هل يمكن أن يحدث هذا حقاً ؟ . جنونٌ ( كيف قدت الصبي إلى هذا السبيل ؟ ! ) . 

حين بدأ التلُ ينطوي تحتَ قدميه رأى جمعاً غفيراً يحيطُ بالضريح . طالعوه بتوجسٍ عندما نزل إليهم . شقَ طريقَـَهُ  بين الدمدمات والغمغمات حتى وصل إلى البناء . ارتعبت الأمُ عند الشق الصغير وقالت شيئاً بلغتها . رمق الشيخُ البناء وكأنه يراهُ لأولِ مرة . حجرة صغيرة مربعة متهاكلة . رُممتْ هنا وهناك وانتشرتْ فيها الملابسُ والنقوش . حجرٌ ، لستَ سوى حجر .

 ( أعينيني أيتها الكلمات على هذا الرمل المعجون بالهم والقهر ) . . 

أنفاسُ الجمعِ تحرقهُ . ترقبُ يديهِ ، شفتيه . عيونٌ ملتهبة متحفزة . 

- ابتعدوا قليلاً . . 

انصاعوا لرغبتهِ ولكنهم ظلوا ينتظرون . ظهرت دائرة خالية أمام المدخل . جلسَ على الأرض ثم انحنى . كادت عمامتهُ أن تسقط لكنهُ ثبتها على رأسه . ناداهُ باسمهِ فسمعَ صوتاً واهناً . 

- ألا تعرفُ صوتي ؟ !

وبالكاد سمعه . 

- تعالْ اقتربْ . ماذا بك ؟

- لا شيء .

- هل أنت جائع ؟ 

- لا . 

- هل أنت خائف ؟

- لا. 

- إنني أبوك ، الا تعرفني ؟ !

غمغمَّ الجمعُ واحدهم صرخ ، فرفع صوته مجدداً :

- إنني أبوك ، ألا تسمعني ؟

- إنني جالسٌ مع أبي هنا .

- تعالْ أخرج .

- . . . . . 

- هيا تعال ، سوف أريك لعبة جميلة . 

- لقد سرتُ طويلاً في الليل ، ضربتني أمي فهربتُ . سرتُ في الليل وبحثتُ عن أبي في الدكاكين . طرقتُ أبواب المنازل . حتى أتيت إلى هنا . كلمتهُ فلم يسمعني . بكيتُ فلم يسمعني . ناديتُ فلم يجيبني . بكيتُ وقلتُ يا أبي تعالْ أطلعْ فلم يسمعني . فدخلتُ إليه . 

- ألم يصبك شيءٌ ؟

- دخلتُ فجرحتني الأحجارُ ، ورجلي الآن نائمة ولا تقوم . 

- تعال أخرجْ من الظلام . لن تضربك أمك مرة ثانية . 

- . . . . 

نهض . أخذت الأمُ تفحصُ وجهه . راحت تضربُ الجدارَ بعنف . اقتربوا منها ، أمسكها وأبعدها .

جاء الشيوخ إليه . تكلم أحدهم :

- إننا لن نسمحَ بأن يُمسَ المكان بأي شكلٍ من الأشكال !

أضافَ آخرٌ :

- ابن الزنا ، يبدو إن هذا عقاب له . . 

- لا تفكر في إنقاذهِ أبداً . ستحدث كارثة لو . . 

قال الشيخ :

- ألا يمكن أن ننقذ الصبي  ونحافظ على المكان معاً ؟

- ستزال نقوشٌ قديمة . تذكرْ أنها آياتٌ . تذكر إنها رايات .

- وماذا يساوي هذا النغل ؟ !

- لكننا لن ندمر شيئاً . مجرد فتحة أكبر ، سأزحفُ أنا بنفسي وأخرجهُ . لن يُدنس الداخلَ أحدٌ . بذاتي سوف أزحفُ تحت الحجر .

- كائناً من تكون لن نسمح لك .  .

( أيتها الأحجار أدخلي في عيوننا وأشربي دماً . أيتها الأحجار كلي لحماً وروحاً وأسكري ! أيها التنينُ الأصفر ، أيها . . ماذا تريدين أيتها المرأة ؟ ماذا يمكنني أن أفعل ؟ لو كان غائصاً في وحل لغصتُ وأخرجته . لو كان ضائعاً في صحراء بحجم الأرض لمضيت أبحثُ عنه . ولكن هنا . . ! أتفهمين ؟ بيني وبينهُ جلودٌ وارواح ودم . بيني وبينه كهوفٌ وأجيال . خطوة واحدة وتمضي القرية إلى الحريق . لا تفهمين أبداً ! ) .

اندفعتْ إلى الجدار وصارت تحفرُ بإظافرها . تصرخُ وتحفر . يندفعون إليها وتقاذفها أيديهم . تندفع بين الأجساد المحاصرة . تترنحُ تحت أقدامهم . فمها مليءٌ بالدم ، لم تعد تصرخ .

( يا أحجار ! ) ، ويشقُ طريقه ( ياجنوناً بالتراب ) وتسقط عمامته ، ( يا . . ) وينتزع المرأة من بين الأقدام والأيدي . التفوا حوله . دائرة من اللهب . مسح الدم . أكلتْ بعضَ التراب . ليبق الابن مع الأب . هذه ليست أرضاً ، إنها وجرٌ للوحوش . رفع المرأة بين ذراعيه . زانية وأمٌ ومجنونة ، فماذا تنتظرون للحصول على البطولة ؟ داسوا عمامته وكلمته ورايته ، تعالوا أشربوا الآن دمه  ! 

يضعها على التلة . يصغي للنزيف وهو يتحدث . يسمع العينين وهما تتحدثان عن الابن ، ويخطو بين الجمع .

- اسمعوني ، اسمعوني . . 

ولا أحد يرضى أن يسمع . كيف هيجتْ أيها الصبي هذه القرية النائمة ؟

اصغوا ، ولا أحد ينتبه . يخطو بينهم ويزيح الأجساد . 

- سأقولُ لكم كلمة ، سأفتحُ قلبي لكم فتعالوا اقرأوه . سأشقُ أعصابي فسيروا وأعبروا . . احصدوا أيامي واشبعوا . . اسمعوا ! 

ولكنهم كلهم أحجار ، ويرى شاباً يمسكُ معولاً . يصرخ . لكنهم تحاوطوه .

- انصتوا !

ولكن هل تصغي القبور ؟ انتزعوا المعولَ وقــُذف الشاب بعيداً . انتزع نفسَهُ بصعوبةٍ من الحشد . جلس عند القبر وحدق في المستطيل المظلم .

- هل نمت يا ولدي ؟ لم دخلتَ هنا وتركتَ البحرَ والحدائقَ والنهر ؟ حركْ رجلك وأيقظها من النوم وأزحفْ ببطءٍ . تعالْ إلى حضني ، إنني لم أكمل لك بعد قصة الحمامة المأسورة . . أزحفْ . إنك لا تسمعني..! 

نهض ورأى العيونَ ترمقه . استهزاء وشكٌ واستغرابٌ ولكن لا أحد يريد أن يغادر أكفانـَهُ . أيها الحجرُ الضجرُ من يباسنا . أجمعْ وجعاً وانشرْ خراباً . ابعدوا عني ودعوني أتنفس ، تريدون أن يموت ، حسناً أنتم اخترتم اليباب . دعوني أسير وأجمعُ الهواءَ النقي ، سأموتُ من الأختناق ، أبعدوا قليلاً . . .

سار غلىالتل . أكلته نارٌ غريبة . لم تزل الألم مرضوضة في التراب . صعد ، حدق في الجمع ، رجالاً ، نساءً ، أطفالاً ، القرية كلها بين يديه ، الآن هذه اللحظة المقدسة ، تحتشدُ  فيها كلُ الخيوط ، ليسوا أحجاراً ، يطالعونهُ ويهمسون ، ماذا يريدون منه ، الشيوخُ انتصروا والطفل في عين الموت ، الآن ، العيون ، كل الكلمات ماذا تضيء ، قف في المقة وأصرخْ :

- اصمتوا !

تعجبَ كيف أطلق هذه الصرخة التي افزعتْ الجميع .

- ماذا أقولُ ؟ هل ستؤثر فيكم كلماتي ومنظر الطفل المعتقل في الظلام لم يحرك نفوسكم ؟ هل أتسطيع أنا الرجلُ المثقلُ بالأخطاء أن أقنعكم أكثر من هذا الصغير الذي لم يعرف الخطأ بعد ؟ إنني عاجزٌ أن أقولَ شيئاً وأمامي إنسان يحتضر . اسمعوا لهؤلاء الشيوخ فهم يملكون كلَ شيء ، الحياة والموت ، وإذا أرادوا أن يقتلونني فأنا مستعد . .

صمت وكان سكونٌ شاملٌ وانتظارٌ مرهفٌ . غمغم أحدُ الشيوخ لكن صوته غرق .

- هذا الطفل كلكم آباؤه ، إلا حين يتجرأ الأبُ الحقيقي ويعترف بأبوته . كلكم قاتلوه إلا حين تخرجونهُ من الظلام . ماذا يهم لو انكسر الحجر ؟ مذا يهم لو تغيرت كلُ الخطوط والنقوش العتيقة ؟ ما ييهم لو تزلزلت الأرضُ واستعاد الإنسانُ النورَ وحضنَ أهله ؟

نزل بينهم ببطءٍ ، عيونهم على شفتيه .

- ها انذا انتزع المعول لهدم الجدار ، وعلى من اتخذ الأحجار بديلاً عن الإنسان أن يرجمني بحجر !

12 / 7 / 1979

معتقل سافرة   

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ツ 2 – الرمل والياسمين «قصص»، 1982.

❖ «القصص: الفتاة والأمير – علي بابا واللصوص – شجرة الياسمين – العوسج – الوجه – الأرض والسماء – المصباح – نزهة – الصورة – اللقاء –لعبة الرمل– الأحجار– العرائس – الماء والدخان».














المقالات العامة

العناوين المميّزة

الدرب ـ قصةٌ قصـــــــيرةٌ: لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة

إلى أين يسيرُ هذا الطابورُ الدامي الأقدام ؟  لا أثر للقرية أو القصر أو البحر أو الحدائق أو النسمات الشمالية ، تلالٌ من الرملِ وحقلٌ من النخي...