الجمعة، 29 أغسطس 2025

الطائر ـ قصةٌ قصـــــــيرةٌ: عبـــــــدالله خلــــــــيفة







تمضي السنون وأنت تحدق في هذا الشارع الكئيب. أعوام وأعوام والقلب ينتظر، والغربة مطارق وزوابع. كيف جئت إلى هنا؟ كيف تنقلت مطارداً تحمل الأمطار والازهار؟

    جسمك ممدد على السرير، وجلدك يطفح بالجروح والسموم وآثار البناء. الضحكات أصوات شاحبة تتمدد في الشارع، والغرفة ضيقة وخانقة، والسقف ينظر إليك، ويقترب منك يوماً بعد يوم. دخان سجائرك يرسم أشباحاً هزيلة، تتعملق في السقف وتتحول إلى شياطين.

    صديقك يمسك حقيبته. منذ شهور وهو يحلم بالعودة الواقفة على بعد خطوتين. الثلج يغزو رأسه. صدره قارة حنين وأنين. أيه أيها الزميل لا تملك جواز سفر إلى بلادك! طردوك وقيدوك. هذي الطيور الجارحة تنهش جسدك.

    وهذي الشعلة متوجهة في يدك. لحمك يذوب وينطفئ. والشعلة تضيء وتضيء.

الصور الشاحبة تنمو في السقف. تزدان بألوان زاهية. ها هي البيوت الجبلية. القرية الفارسية تعيش الليل الرهيب، نجومه الدم والجماجم. وأنت تتسلل إلى ضفة الخليج الأخرى. أبوك كان بناء، علمك مهنة الأثقال.

    أيه أيها البناء الذي لم يعد يبني بيوتا. تحجرت يداك، وتعسر مسك الحجارة. كيف يسيل الدم من هذه الأصابع؟

    في السقف صورة بناء شاب. بناء جديد يزاول المهنة. البرد والشمس الصيفية والأحجار والأسمنت وتآكل اليد وهدم الجسم وبناء الأشياء. ها أنت تعمل بين جماعة غريبة. رجال قادمون من قرى نائية بعيدة في فارس وعمان. إنهم يعملون ويتعلمون!

    أيه أيها البناء الذي لا يستطيع البناء الآن، ما أروعها من مهنة! كم كان الرجال بسطاء وطيبين! الغناء في العمل خمرة أخرى تعودت عليها. الغناء في العمل أنشودة حب جماعية. العمال الأغراب، المهاجرون، الفقراء، الجياع، الأغبياء، جوقة واحدة. جوقة تقودها أنت، تنطلق الكلمات والألحان دافئة، عذبة، من أعماق الصدور، تلمع بالفرح والألم، تهز الجمع، تحشده، تذيبه، يتحول كائنا واحداً، يتحول أشجاراً وعصافير، يغني التعب، الإرهاق، الغربة، السفر، الحب، يحلم بالقرية الجبلية، بالمدينة المخنوقة، بآبار الدود، بالجبال الزرقاء، والنهر الطافح بالجثث.

    في الليل لا تتركهم، تجمعهم حولك. وتبدأ الأسئلة تتراكم. تغدو جبالاً بركانية. الطغاة، المستغلون، القمل، أين هم، يجب حرقهم، إزالتهم، الأرض والسماء لنا! نحن البناة!

    الأسئلة، الأجوبة، شموس الحقد، نجوم الحسد، تصهرها الخمرة، تذيبها، تحفر الصدور بسائل ناري لا يتجمد.

    يقول أحده ذات يوم:

    - أيها الرفاق، إلى اللقاء، سأذهب إلى بلادي. سوف أكتب على جدران بيوتها كلماتنا.

    وتنظر إليه، وينظرون إليه، لا يمنعه أحد، يعانقه الجميع. يحمل الكتب ويرحل. يأتي آخرون، ويرحل آخرون، والنبع يصب في الخليج، والحقد يصب في الخليج، والكره يصب في الخليج، فمتى تنضج عناقيدنا؟

    وفجأة، كالمطر، كأغنية العرس في بيت العانس، تنبعث فيروز من دكان الرجل الأعمى:

    - بلادي!

    سحابة عصافير وأطفال وأحلام وردية تتجول في صدرك.

    - بلادي أعدني إليها ولو زهرة يا ربيع!

    يد عابثة تبعد الأغنية. سكين تقطع أوردتك. انطفأت الشمعة. أيها الأعمى دعني أسمع الأغنية لحظة واحدة. بلادي! أنت بعيدة وأنا أذوب في الغربة، بودي لو أراك لحظة، لحظة ثم أموت!

    وتصاعدت في الشارع ضحكة كأفعى ذات أجراس.

إنهم يرجعون. القطار يعود إلى محطته حاملاً أشواق المسافرين. السفن تذوب حنينا إلى الشواطئ الملوحة بالمناديل. أسراب الطيور تعود إلى الربيع والآفاق الوردية. المهاجرون يعودون حاملين الشمس وأشواق السنين. الأزقة البائسة تنتظر خطاهم. أثواب النساء القزحية بشارات علام سيولد بين الأنقاض. النوافذ تصر صريرا للقادم الجديد.

    إنهم يعودون وأنت هنا تذبل وتذبل. لا شيء سوى الأحلام وكلمات متفجرة تطلقها في عقل بحار قادم من هناك. ها هو جسمك الشامخ يتهاوى، وأصابعك لا تستطيع مسك شيء سوى الكتب. وبعد قليل أو كثير سيأتي حفار القبور ويسأل: منذ كم سنة وهذا الرجل ميت؟

    رفيقك يمسك حقيبته لا يزال. أذابها العرق. يتركها. يدخن قليلاً. وفجأة تهتز الغرفة بصوته.

    - كيف لا نرجع إلى أمهاتنا وحبيباتنا، إلى رفاقنا، كيف لا يحق لنا العيش فوق أرضنا؟ لماذا يحق للقمل أن ينتشر في الرؤوس بحرية؟ وكيف تمتلك الفئران حرية العبث في منازل الفقراء؟

    يقترب منك، وتتلألأ الدموع كالنجوم:

    - علي، لدي ابنة صغيرة، تركتها منذ أربعة أعوام كما تعرف. كانت صغيرة، والآن هي لا تعرفني. لا شك أنها تسأل: أين أبي. وأبقى أنا صورة معلقة على الجدار. أمس جاءتني رسالة يقولون إنها مريضة مرضاً تافهاً. ولكن من يدري، لعلهم يكذبون لتهدئتي. تصور لو أنها..؟ تصور ذلك! ماذا سأفعل في هذه الحالة؟!

    تنظر إليه بحنو. تضمه إلى صدرك. يظل يبكي. يتشنج. ما نفع الكلمات في هذه اللحظات؟

    - علي، كيف سأعيش هكذا. هل أظل طول العمر أتجول في هذه الغرفة اللعينة. ماذا تختلف عن السجون؟ علي، أنت لا تعرف كم أتحرق شوقاً إلى أهلي ورفاقي. بين لحظة وأخرى أتوقع حدوث شيء جديد. أنا لا أحمل جواز سفر إلى أحبائي. لا أحمل مجرد ورقة إليهم.

    - هيا، اهدأ قليلاً. بعد ثوان سوف ترحل عن هذا السجن.

    - وإذا لم يحضروا؟

    - سوف يحضرون. اطمئن.

    عما قريب ستبقى وحيدا. شجرة عملاقة تصد الأعاصير. أماني مكافح تنمو وتزهر. طمي يرسله النهر للأرض العطشى. سيرحل آخر رجل وستبقى أنت صامداً، دامياً. أيها الخليج أنا ملاحك الذي لا يبخل بدمه!

    صورة على الجدار المتشقق. سفينة تمخر عباب الخليج. والخليج بركة وحل ودم. وأنت مقيد. إنهم يبعدونك عن أرضك الصغيرة إلى أرضك الكبيرة. ما أنت سوى هارب متسلل، وهم يعيدونك إلى وطنك. وعلى الشاطئ ضابط ينتظرك. البحارة ينظرون إليك وصاحب السفينة يراقب الجميع. وفي الليل تجد الحبال مقطعة. وأنت والحرية في جوف الوحش. ويحضنك الميناء الكبير، ويفرش مظلته الضبابية حولك. تغدو بحاراً عجوزاً، وهارباً يبتعد عن المشنقة المنصوبة على بعد أمتار!

    والآن غرفة ضيقة جدرانها تحبو نحوك يوماً بعد يوم. ويزداد الدخان والذباب.

    - علي، ماذا حدث لك اليوم؟ لم تسرح بعيداً، كأنك تخاطب شخصاً معلقاً في السقف؟

    - أتذكر حكاية عشتها، هذه الذاكرة أصبحت قطار سفري الوحيد.

    يزداد السقف تشققا. الرسوم تملؤه الآن. البناؤون يتجمعون في البناية الجديدة وصوتك يدوي:

    - تمعنوا في هذا البناء الرائع! لقد صنعناه لرجل مهنته التجارة بالمومسات، سيملأه بعد أيام بقطع الأثاث النفيسة. سيغطون دماءنا وعرقنا، وسيشربون الكؤوس مترعة بالدم والضجر. أما نحن سوف نذهب للبحث عن سراديب لاستئجارها.

    الشرطي، في لحظة أخرى، يتقدم إليك، ويعرض بناء عدة زنزانات. يتطلع إليه العمال ساخرين. هتف أحدهم ضاحكاً:

    - وهل رأيت أحداً يثقب عينه بيده!؟

    ضج الجميع بالضحك. مضى الشرطي مستغرباً. علق آخر:

    - ولكن ألا ترون أن بناءنا سيفيد الجماعة؟!

    - سيكون الهرب بالجملة!

    قال رفيقك فجأةً وبصوت مجلجل:

    - ها هم قد جاءوا!.

    أصابتك الكلمة في الصميم. غاص قلبك في الوحدة الرهيبة دفعة واحدة. تخيلت نفسك بلا رفيق، بلا أحد. مذهل! كان يجب أن ترتفع إلى ذرى الفرح، هيا، هيا، أضحك من أجل الرفيق، الذي سوف تطأ قدماه أرض وطنه بعد سنوات معدودات من الغربة، سنوات معدودات ولكنها مزقته من الداخل شر تمزيق! لكن أنت...!

    - سوف أذهب يا علي.

    وجده يبكي. تعانق الاثنان. ذاق الدمع ملحاً وحزناً وفرحاً.

    - لم لا تأتي؟ من يعرفك هناك؟

    - ....

    - أصبحت عجوزاً، والشرطة تجهلك الآن.

    - إنني لا أتصور حياتي وحيداً.. لم أجرب الوحدة... سأرى.

    - هيا يا عليّ.

    - أذهب أنت ودعني أفكر قليلاً. أنا أحمل جواز سفر حقيقي على الأقل.

    - إلى اللقاء.

    وذهب.

    ها أنت أخيراً وحدك. النوم هذا الحارس الجميل يأخذك إلى حديقته. أنت الآن في شوارع "المنامة". الأزقة الفقيرة تحتضنك. الخمرة نافورات ترتفع لتحيتك. الأغاني تصدح من جديد. "عاد عليّ، عاد عليّ". الحارس يأخذك إلى طرف المدينة. المقبرة أمامك. والصباح الجميل يأتي محملاً بالعمال والأطفال والورود الحمراء والأغاني الدافئة. إنهم يغنون "أسعدت صباحاً يا رفيق عليّ".

    نهض. كانت أشعة الفجر تدق نافذته. استيقظ على دقاتها الرفيقة.

    - هيا، لأرحل من هنا، بلادي تناديني... هل سأقضي العمر في هذه الغرفة المتعفنة، ذات الجدران المخيفة؟ لكن أليست هذه الرغبة نزوة من نزوات المراهقين؟! أيه، ليفعلوا ما يريدون، حتى لو أرسلوني إلى هناك، إلى الضفة الأخرى، للشنق!

    تناول بعض ثيابه، وضعها في حقيبة صغيرة. هبط السلم. في الشارع وجد الكآبة بيوتاً غارقة في القدم والحزن، والأمل طيوراً بيضاء راحلة نحو الشمال.

    غنى بصوت مرتفع:

    - بلادي! أعدني إليها ولو زهرة يا ربيع!

    ابتسم ثم سار.

ــــــــــــــــــــــــــــツ لحن الشتاء (قصص) 1975 .

(القصص: الغرباء  ـــ الملك ـــ هكذا تكلم عبدالمولى ـــ الكلاب ـــ اغتيال ـــ حامل البرق ـــ الملاذ ـــ السندباد ـــ لحن الشتاء ـــ الوحل ـــ نجمة الخليج ـــ الطائر ـــ القبر الكبير ـــ الصدى ـــ العين)     



ــــــــــــــــــــــــــــ لحن الشتاء (قصص) 1975 .

(القصص: الغرباء  ـــ الملك ـــ هكذا تكلم عبدالمولى ـــ الكلاب ـــ اغتيال ـــ حامل البرق ـــ الملاذ ـــ السندباد ـــ لحن الشتاء ـــ الوحل ـــ نجمة الخليج ـــ الطائر ـــ القبر الكبير ـــ الصدى ـــ العين)     














المقالات العامة

العناوين المميّزة

الدرب ـ قصةٌ قصـــــــيرةٌ: لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة

إلى أين يسيرُ هذا الطابورُ الدامي الأقدام ؟  لا أثر للقرية أو القصر أو البحر أو الحدائق أو النسمات الشمالية ، تلالٌ من الرملِ وحقلٌ من النخي...