السبت، 15 نوفمبر 2025

نزهة ـ قصةٌ قصـــــــيرةٌ: عبـــــــدالله خلــــــــيفة

همسَ البحرُ بخفوتٍ شديد، وتناثرت موجاتهُ تحت الرصيف الهرم، وأخذ يسمعُ أغنيته الجديدة التي راح يسربها إلى الحجر المتآكل.يبدو إنه فرحٌ بالربيع، ولا شك أن مزراعهُ الخضراءُ الدفينة قد ازهرت.

دلى قدميه قرب الزبد المتطاير، ورأى ثلة من النوارس مندفعة فوق الماء، جاءت بسرعةٍ واستقرت فوق عمودٍ شائخ. جلستْ كلُ واحدةٍ منها فوق قضيبٍ من قضبانه، ومضتْ تحدقُ في الشاطئ.

طالع الرصيفَ الفارغَ فعجب لعدم مجيء أحد. من الغريب أن لا يظهر أي سائح في هذا الصباح الجميل. سمع ضجة السيارات في الشارع القريب، وخمن إن السيارة الزرقاء ستترك الطريقَ العامَ وتنحرف نحو الرصيف. اقتربت فعلاً، ولكن بدلاً من أن تتجه نحو البحر ألقت نفسها في طريقٍ فرعي وغابتْ في الأزقة.

صعبة هي الأيام في كوخٍ من السعف،  والوحدة تنفردُ بك، وتنزعُ أوراقك.. ورقة ورقة، وهي تلتفُ معك كقالبٍ من الثلج وتأكل قلبك قطعة قطعة، منذ أن غابت المرأة هبط الليل فجأة، وصار الكوخُ وحشاً تنامُ بين أنيابه واحتضانه  كم كان الشتاءُ بارداً هذا العام! وغدت رائحة الفراشِ عطنة، وماتت السدرة في الحوش، وغادرتها العصافير، وبدأ كأن المنزل قد ابتلعه البحر. وتذكر إن كل أولاده قد تركوه ونسوه. ولم يأت أحدٌ نهم كي يراه. وجلس تحت الشجرة العارية شبه المحطمة تعباً، ورمقَ أغصانـَها الجافة الميتة، وتناهت إليه أصواتُ الأطفال وهم يتصايحون ويقذفون حجراً نحو عصفور شارد. كانت السنون قد امتصتْ ماءَها، وتركتها عجوزاً محنية الظهر، شبهَ عمياء. كمْ من الضرباتِ مزقتْ جسدَها! كمْ من الآلام تجرعتها في الصباح والمساء!

والتفتَ إلى بداية الرصيف فرأى طفلين واقفين على الحافة وهما يؤشران نحو الماء. لقد أحضر أطفالاً عديدين إلى البحر، غطسهم فيه وعلمهم السباحة واصطياد السمك، والتجديف، وهم الآن قد كبروا ومضوا.

ورآهما يتركان موقفهما ويسيران نحوه. إنهما ليسا طفلين، إن الفتاة شبه عارية، وذراعاها يتألقان تحت الشمس، وشعرها قصير كفتى صغير وسيم. والشابُ يضعُ ذراعَهُ على كتفيها كأنه يخافُ أن تطير. ووقفا على الحافة، غير بعيدين عنه، واشارا بفرحٍ إلى سربِ الأسماك الصغيرة المنطلق بسرعة، ثم نظرا إلى قاربه بانتباه كبير.

كانت الفتاة ذات بشرة وردية، وشعرها فاحم السواد وقد وضعتْ فيه زهرة بيضاء. وطالعتهُ بعينيها الواسعتين فدهشَ لأن الفتى بدا صغيراً، رثاً ، عادياً، وهي بهذا الجمال الباهر! إن هؤلاء الصغار يقومون بكل الأفعال القبيحة بعد أن اندفعت الحياة كمجموعةٍ من الخيولِ الوحشية في مضمار واسع. إنها تبتسمُ وهي تحدقُ في القاربِ والبحر والجزر المتناثرة، ثم أسْرَت شيئاً في أذن الفتى. سمعَ ضجة محركٍ خافتة. قال الشاب:

- إننا نودُ أن نمضي في نزهةٍ قصيرة، هل يمكن ذلك؟

وفوجئ بالسؤال، ورمقَ الشابَ لحظة، فرآهُ جاداً واثقاً من القبول، وفكرَ بأن يصبرَ وينتظرَ حتى يأتي سائحٌ غني وزوجته، أو يقدم سائح سكران مليء الجيب، أو مراهق أجنبي يبعثر النقود، فماذا يمكن أن يعطي هذا الطفل الذي ربما قد حلق لحيته لأولِ مرةٍ في حياته!

- لا يجب أن تقف فوق رأس الرجل هكذا. أنزلْ إلى القارب فلا شك أن هذا الأب الطيب قد وافق!

ابتسمت في وجههِ فأحس بعمقِ ابتسامتها، ودخلتْ صورتـَها قلبه، فرأى ضوءً يرتعشُ في ظلمة كوخه، فودَ لو ينام الليلة فوراً حين يضع رأسه على وسادته، ويمضي في حلم بلا أشباح أو موتى.

واقتربت ضجة المحرك، وظهرَ قاربٌ بخاريٌ مليءٌ بنسوةٍ حاسرات الرؤوس، متعبات. ووقف الفتى والفتاة يتطلعان إلى القارب الذي توقف عند الرصيف. وصاح رجلٌ على النساء أن ينزلن، فرحن يشتمنه بوقاحةٍ، ويسألن عن السيارة التي لم تأت، ورفضن النزول.

صدتْ الفتاة عن المنظر، وبدا وجهها محتقناً بألم وغضب غريبين، فكأن أحداً أهانها، وسمع النساء يضحكن بافتعال، ويتحدثن عن سهرة ورجال ومال، وراحت احداهن تغني بدلال، فودَ لو يحتازها ويهربُ بها إلى كوخه. ستتألم وهي تنصهرُ تحت عظامه الناتئة ووجد الفتاة تبصقُ في الماء، والفتى يلتفتُ إليها وهو يعضُ شفته السفلى، ووضع يدَهُ حول رقبتها، وصارا يتطلعان إليه، فابعد نظراته عنهما ومسح ببصرهِ الرصيفَ والشارع، فلم يرْ أحداً. نهضَ ثم نزلَ إلى القارب. ابتسم الأثنان. جاء الشابُ ثم دعا الفتاة للنزول. انحنتْ فحضنها وأنزلها. كانت تكتمُ ضحكة في صدرها. تهامستْ النساءُ وحدقن فيها باستغراب.

جلسا على صدر القارب، تشابكت أيديهما والتصقا بشدة، فبديا كما لو كانا جسداً واحداً.

غرز العصا في الماء وابعدَ القاربَ عن الرصيف، ثم أمسكَ كفي المجدافين وصار يخدشُ البحرَ ويتلمسُ طريقـَهُ في الامتدادِ الأزرق الأخضر الشاسع..

صمتتْ النسوة وهن يتطلعنَ إليهما فكأن ماءً بارداً صُب عليهن فجأة. وأخذ يجدفُ مبتعداً وسمعَ صوتَ تقيؤ امرأةٍ فبصقَ مشمئزاً والتفتتْ اليه لكنه تطلع إلى النوارس التي راحت تطير واحدة بعد أخرى، مشكلات خطاً أسودَ منطلقاً نحو الشمال. وبقيتْ واحدة، تبدو كطائرٍ عجوزٍ تقاعد عند الشاطئ..

رمق الشابين، وانتابته مشاعرٌ غريبة،  فأحسَّ بلسعِ الألم وهو يراه يحتضنها ويهمسُ في أذنها كوشوشة الموج، وهديل الحمام، كيف تقبل مثل هذه الطفلة أن ترتمي في حضن الفتى المحترق بألسنة الشمس؟ بل كيف سمحا لنفسيهما أن يخرجا بهذه الصورةِ الشنيعة؟ أنظرْ إليه وقد راح يلتهمُ خدها وفمها ويديها..!! يبدو كضارٍ جائعٍ ، يحملُ سنيناً من الشوق والهم، بودهِ لو يغوص فيها، ولكنها باردة، تصدهُ بلطفٍ وتوجه نظرَهُ إلى الماء. نعم، ثمة سمكة كبيرة متلألئة قفزت من اليم وشكلتْ قوساً لامعاً، هتفت:

 - أنظرْ إلى السمكة الجميلة!

ولكن الشاب لم يهتم بالسمكة وغاص في عينيها. ماذا يرى هناك؟! إنه لم يرْ زوجتَهُ إلا في ليلة العرسِ، جاءه أبوه قبل أسبوع وطلب منه أن يخرجَ، توقف قليلاً وكأنه تذكرَ شيئاً وقال «ستتزوج ليلة الجمعة القادمة!». لم يعرفْ من هي، وخجل أن يسألَ أمَهُ، وظلَّ حائراً متشوقاً، حتى مرَ ذاك الأسبوعُ الطويل، واحتضنَ فتاة صغيرة خائفة مذعورة!

لاحتْ لهُ الجزيرةُ الصغيرة، وأخذ يبحثُ عن القصر المتواري خلف الأشجار. كان الهدوءُ يخيمُ هناك. في الليل يعزُ الصمتُ وراء سور القصر. الفتاة تحدقُ إلى الجزيرة وتنصتُ إلى أغاني الطيور المغردة، وتقولُ له:

- هل يمكن أن ننزلَ على هذه الأرض؟

- لا ، هذه جزيرة خاصة.

وأخذت تبحثُ عن ملامح القصر والشاب ينظرُ إليها ببرود، ووضع يده تحت ذقنها ولف وجهها نحو عينيه برفق. يا للشاب الوقح! إنه لا يعي ما حولَهُ، ذاب في عينيها. غرقَ في البحيرةِ وطابَ له الغرق.

 واحتضن الفتاة المذعورة ليلة العرس، ورأى الأطفال الصغارَ الذين تدلهم واحداً واحداً، وسمعها تعاتبهُ وتشتمه، وأبصر ضربات يديه في جسدها وعينيها الباكيتين، والعريشَ الذي احترقَ وتركاه، والخرابة التي أويا إليها والأطفالَ الذين كانوا يبكون جوعاً.. وأخترقَ شيءٌ ظلمة أيامَهُ وأنارَ كالشهاب، فأحسَّ إنه إنسان غريب في بلدةٍ معادية. تلك المرأة كانت دائماً معه، في صدرهِ، وعروقهِ، في ليالي الشتاء الباردة، كانت أيديهما تتدفأ معاً قرب (المنقلة). كرهت حبه للسجائر، لكنها وضعت رأسها على صدره، بعيداً عن عيون الصغار، في ليالي القيظ الحارة ، تحت الطل والبعوض، نامت بقربه، وراح يشعل سيجارة وهمست عن مصير الأولاد، فتطلع إلى السماء باطمئنان، وسمع حشرجة الصغار وتكلم أحدهم بصوتٍ مسموع، فابتسم بفرحٍ وحضنها بودٍ كبير..

إنهما يلتصقان وراح يلتهم شفتيها. هل تنهض وتحطم رأسه بالمجداف؟ ألا يخجلان قليلاً؟ وأراد أن يبصق باشمئزاز لكنه نكس رأسه ثم تطلع إلى الموج، ورأى الجزيرة تبتعد، ثم سمعَ صوت محركٍ وأبصر القارب البخاري يعودُ إلى الجزيرة .

قال الشاب:

- ماذا بك ؟ لماذا أنت سارحة؟

- لا شيء، لا شيء.

- كيف لا شيء. يبدو أنك مترددة في حبي، حائرة بيني وبين أهلك!

- لا تقل ذلك!

- وهذا الصمت.. إني أقرأك بسهولة. أنت تخافين النزول إلى عالمنا. فماذا يمكن أن أعطيك غير الهمَ والفقر والتعب؟

وتطلعتْ إليه بهدوءٍ، بل ابتسمتْ. ياله من أحمق! أهذا وقتُ الشجار؟ وأضاف:

- لا تترددي يا عزيزتي، ودعي بيتك وأهلك وعالمك وتعالي إليّ. أتركي نفاقهم وأنانتيهم وتعالي معي. سنبني بيتنا، ونحيا بين الناس. ستكون حياة صعبة، مؤلمة، ولكنها حياة جميلة.

وبانت ملامحُ الجزيرة البعيدة  وظهرَ جبلٌ صغيرٌ وتحولت المياه إلى لون أزرق عميق. ورفرفت بعضُ النوارس وسارت بمحاذاة الموج ومضت نحو الجزيرة.

- لم تقل ذلك؟ لقد أتيتُ إليك..

- ولكنك لم تهجريهم بعد. إنهي حياتك معهم، أنهيها! إنهم يريدون تكبيل يديك، ومعي فحسب ستجدين حريتك.

- إنني معك دائماً.

- معي دائماً؟! إنني قلما أراك. أنت هناك بينهم. تنظرين باشمئزاز إلى عالمنا. لم تحترقي بعد بنارنا. حائرة بين النزول والبقاء..

وكبر الصغارُ وغرقوا في الحياة. وذات يومٍ وجدا نفسيهما وحيدين، وأبصر تجاعيدَ الزمن تخططُ حياتَــهُ وتحيلهُ إلى جذعٍ خاوٍ تتقاذفهُ ريحٌ عاتية. ورآها محنية الظهر، شبه عمياء  سقطت تحت السدرة، وأخذت تتأوه، وكان هو جالساً يعدُ خيوطَ الصيد. أسرعَ إليها ورفعها. كانت باردة كقطعة ثلج. أخذت تهذي وتتمتم. أحتضنها فأحسَّ بها عوداً يابساً، ولو أنه ضغط قليلاً لأنكسر. «لقد انتهينا، انتهينا!».

اقتربتْ الجزيرة، وأتضحت معالمُ الجبل فبدا كسفينة جاثمة على الرمال، أحسَّ بالتعب في ذراعيه، كأن أحداً مزقَ كتفيه فجأة، أنصتْ إلى الهمس الخافت الذي أشتعل بني الشابين، وراودتهُ فكرة سرقتهما، وخيل إليه إن هذه آخر مرةٍ يخرجُ فيها من منزله. من سيعطيه نقوداً؟! رأى تجمعاً كبيراً من النوارس، التي نام بعضها على الشاطئ، فيما مضى البعض الآخر يصطاد السمك. انفجرت طلقاتٌ في الهواء، كان ثمة عمودٌ من الدخان في عمق الجزيرة. بحث عن مينائه المعتاد وأخذ يقترب.

تطلع الشابان إلى الطيور وتلفتا إلى الجزيرة الواسعة الفارغة. تلمسَ المياهَ، ابتعد عن الأحجار البحرية المزروعة. أخذت بعضُ الطيورِ تغادرُ المكان. أوقفَ التجديفَ واستخدم عصاهُ في الدنو من الشاطئ، حتى غدا الماءُ ضحلاً. نزعَ الشابُ حذاءهُ وجوربه، ورفع بنطلونه ونزل. ضحكت الفتاة، فتحت ضحكاتها نوافذَ غرفتهِ المظلمة، ولم يجدْ شيئاً يدعو إلى الضحك لكن المسرة دغدغتْ نفسَهُ، فود لو أنه أحضر زوجتَهُ إلى هذه الجزيرة وقاما يبحثان عن الفطريات ويشويانها ويدعان الصغارَ يلعبون في الأرض الفسيحة.

نزلتْ إليه فاحتضنها وأخذت تضحكُ وهو يتساءلُ عن أسباب الضحك الخبيث ، و لم يتذكر لزوجته ضحكة ما. وفجأة ترنح الشابُ وسقط في الماء! انتفخ فستانها وتناثر شعرها وغاصت الزهرةُ في الموج وأخذت الفتاة تترنح وأمسكها وهو يضحك. قادها إلى الشاطئ، وكانا ملتحمين.

أوقف القارب ونزل. خاضَ في الماء وتسربت برودته وفكر بالمال والمرض والموت وتخيل نفسَهُ يسرق الشابين. كانا نائميين، وضعت رأسها على صدرهِ، ولحفها بيديه، ووضعَ يدَهُ في جيبهِ فلم يجدْ شيئاً، فأراد أن ينتزعَ قلادتها، وضعَ يدَهُ على صدرِهِا فالتهبتْ أصابعُهُ، أحسَّ بالخوف والأسى، تذكر السدرة، ورأى عينيها غارقتين في النوم والأحلام، وشفتيها تفتران عن أبتسامةٍ طفولية، وعلى حين غرة صحا الشابُ، وطالعهُ في غضبٍ مجنونٍ، فضربهُ بحجر صلدٍ على رأسِهِ.. وضعَ قدميه على الشاطئ.

كانا قد توقفا عن الضحك. رغب لو ساعدهما في شيءٍ جميل ، لعلهما يتذكرانه غداً حين يظلهما سقفٌ واحدٌ ويجابهان الليالي السود. دهشَ لأنه تخيلَ نفسَهُ لصاً وقاتلاً. راح يدفعُ الشبحَ الذي جاءَ من مغارتهِ. تناول حجراً وقذفهُ فمتلأت السماء بالطيور المذعورة، صاح به الشابُ، فانتبه إلى الصوتِ والجبلِ البعيد ورفرفة الأجنحة والأعشاب المتناثرة والزهور البرية. كانت الفتاةُ ترتعدُ برداً. اندفعَ يجمعُ الأعشابَ وقطعَ الخشب، وشكلَ كومة كبيرة منها، وامتلأ بالسرور وهو يرى الأثنين يساعدانه بمرح. أخرج علبة كبريته وأشعل الكومة. أخذت الفتاة والفتى يصطليان بالنار، سمع الأعشابَ تبكي والأخشابَ تتأوه بألم، اندفعت ألسنة النار تتكلمُ بحرارة. جلسوا حولها، أخرج علبة تبغهِ وأستل واحدة ثم تناول عوداً وأشعلها. كانت الطيورُ قد غادرت المكانَ، وتقاطرتْ نحو تلٍ بعيد، فيما بدت بقعٌ خضراء صغيرة وقصر كبير عند الأفق الغربي.

لمحهما وراء النار ومتعانقين. ألا يكفان لحظة عن هذا الهوى؟ كأن النارَ تصهرهما. انتهى زمننا، وحل هذا الزمنُ الغريبُ الناري. يدعوها للفقر، يدعوها لرحلةِ عذاب طويلة، ولكن لم ؟ إلى أين يريدان المضي؟ وسمعهما يتهامسان، وبدأت النارُ تشاركهما الحديث.

- حين أغيبُ عنكِ، فأحيا في الأقبية.. فأعملي بصبرٍ وانتظريني.

- إنني مستعدة لكي أمضي معك.

تزايد الألمُ في صدرهِ فغدا كاللهب، تذكرَ كيف تجمدت زوجتُهُ بين يديه، فأخذ يدفئ صدرها وكان بارداً كالأيام المريرة، ورنتْ إليه بحزن وهمست «انتهيت»، قالتها بهدوءٍ واختلجَ وجهها بظلِ ابتسامة، وسكن رأسُها بين يديه، وأندفع الألمُ ضارياً في صدره،  نهضَ عن النار، سمع عدة طلقات نارية، شعرَ بحاجة شديدة للهواء، ابتعد عنهما ودقت مطارقُ الصداع في رأسهِ. جلس على الأرض وسكن، هدأ قليلاً قليلاً، وكانت النارُ تخبو، ونهض الشابان، أنصتْ إلى صهيل فالتفتْ ورأى سحابة تندفعُ من طريق القصر..

انطلق الآخران نحو التل، وتصاعدتْ في نفسهِ المخاوفُ، وتخيل ثلة البدو المشاكسين وهم يفترسون الفتاة ويضربون الفتى وقد حمل عباءة الأحلام الممزقة، وأوراق السدرة الصفراء، أرهفَ السمعَ إلى زوجتهِ المتسائلة عن الصغار، ودبت حوافر الخيل فوق صدره، نهضَ بتثاقل وألم، أبصرَ النارَ خافتة وقد أكلت الخشب وبدأت تموت، بحث عن الشابين فوجدهما عند التل. هربتْ الطيورُ إلى مسافة أبعد، وأخذ الغبارُ الصحراوي يقتربُ. صرخ عليهما بقوة. التفتا، فأطلق صرخة أخرى، واتجه نحو القارب.

هرولا نحوه، ووصلا بسرعة. كانت الفتاة منهوكة القوى، الشاب يتطلعُ إليه باستغرابٍ، فأشار نحو الخيول وقال:

- اسرعا إلى القارب!

خاضوا في الماء حتى ركبوا. أمسك مجدافيه واقتربت الخيولُ وسمعوا صرخات القادمين ووقع السنابك، لكنه جدف بقوة وسرعة ودفعَ القاربَ بعيداً.

رأى القادمين يقفون على خط الأرض المتعرج ويحدقون فيهم. كانت الخيولُ ترمقُ الماء بتوجس. جلس العاشقان أمامه، فأبعد عينيه عن نظراتهما وأدرك إنه يأخذهما نحو شاطئ آمن.

1979.2.3 

معتقل جزيرة جدة

ـــــــــــــــــــــــــــ

2 – الرمل والياسمين «قصص»، 1982.

«القصص: الفتاة والأمير – علي بابا واللصوص – شجرة الياسمين – العوسج – الوجه – الأرض والسماء – المصباح – نزهة – الصورة – اللقاء –لعبة الرمل– الأحجار– العرائس – الماء والدخان».

المقالات العامة

العناوين المميّزة

رابط : You Tube

https://www.youtube.com/@AbdullaKhalifaAlbuflasa