الاثنين، 1 سبتمبر 2025

الأصنــــــــــــــــــــــــــام ـ قصةٌ قصـــــــيرةٌ: لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة

اصطدمت جبهة الحاج مهدي وهو يصلي بشيء صلب .

كان حقلهُ الصغير قد توارى بزحف الظلام ، ولم تظهر في السماء حتى شرايين أخيرة للشمس ، ولجأت الطيور إلى البيات ، ولم يرتعش في الحقل سوى قنديل في عريش مفتوح لكل الجهات .

تغلغلت يده في التراب . ثمة شيء ثقيل يرفض دغدغة الأصابع .

تسلط ضؤ القنديل على الحفرة ، فتدفقت أحجارٌ غريبةٌ ؛ أطباقٌ وجرات وبشر مشوهون حولهم حيات وأغصان.

فكر: إنها أشياءٌ واضحة ومخيفة، إنها أصنامٌ!

روعته الأحجار والثيران التي تبول على يده . تجمد على حائط شجرة، والقمر المكتمل المشتعل بدماء القرابين يصعد من الشرق ، متعالياً فوق الحقول وهوائيات البيوت .

نظر إلى الحقل الميت في العتمة .

لماذا لم يعطه بكل روحه ، لماذا عجز عن إنقاذ ولديه وألقاه كوخاً هزيلاً في أقصى القرية ، صديقاً لمقبرة ؟ لماذا تكسر فأسه وعمره فوق برسيمه المنتشر الرخيص وطماطمه المتكاثرة البائرة فجأة ؟

قرأ الآيات وعلق الاحجبة وبكي للحسين ووزع بقايا الأرغفة على العصافير غير أنه بقى ذلك السطر الموحش بين البرسيم والتراب . الآن انكشف السر، وفاحت أعماق الأرض بمكنوناتها الخبيثة .

طالما حذره أبوه من جوف التربة وطوابقها الداخلية قائلاً : لا تضرب الفأس بحدة. باسم الله الرحمن الرحيم . علق الأشرطة الخضراء على الأشجار . لا تعمل في الليل والوفيات وأعط السادة حقوقهم !

بعد كل هذا ، بعد ثلاثين سنة من دوران الثور حول الساقية ، تظهرُ الشياطينُ من الأعماق ساخرة ، مقدمة أغصانها وملابسها ، مطلقة القهقهات في العتمة !

أطفأ النارجيلة بيده شعاع القمر ليسير به في جنبات الحقول والبساتين النائمة، حيث لا توجد سوى الجنادب تصرصر في كل مكان ، مؤنسة وحشته الضارية.

تقلب على فراشه ، وتخشب وسط ضجة البيت وبين روائح بيضه وشايه وحقائب الأولاد ، وتعكز على ما بقي من قلب ليقلب التربة ، ويطارد الأبالسة في عقر دارهم .

لكن السطر الأخضر الترابي لم يعدله . كان مدججاً بالسلاح والوجوه والملابس الغريبة . أناسٌ يحيطون بالأرض وآخرون تغلغلوا فيها ، وآخرون يسيجون الحقل بأسلاك شائكة.

لم يفهم أحدٌ لغته، وتركوه خارج البرسيم والحمام ملقىً قرب نخلة عجفاء .

نقلوا الجرات والأصنام والكؤوس والسهام . تشوهت التربة وانهار عريشه المفتوح على الجهات ، ورُميت النارجيلة ، واختفت الفأس ، وصمت البئر والعصافير، وتساقطت اللافتات الخضراء ، وكادت أسنان الأسلاك الشائكة أن تأكل لحمه وهو يحضنها ليطالع فعل الشياطين في روحه .

مرميٌ وراء الحقل، يرى خضرواته تصّفر ، ووجه جديدٌ ينقبُ بهدوء في أحشاء التراب .

لمسةُ سكينه هادئة ، كأنه يوشوش الأرض ، يناغيها بود ، ويحفر تحت الشمس الساخنة، وفي هوجة الريح والغبار ، وفي اقتراب المساء البارد .

أيامٌ وذنيك الجسدان يتواجهان بين ضفتي السور.

كان الأثريُ يرى مهدياً كإحدى المأثورات التي قذفتها التربةُ .

والفلاحُ يشاهد الرجل كحشرة دائبة التنقيب في جلده .

يتصور مهدي إن كل ذلك المهرجان قد تم لإنقاذ أرضه ، واستخراج الأرواح الشريرة من باطنها ، وجعل النخلات مزهرة ، وإطلاق سراح الينابيع الصافية ، وإلقاء الأصنام في محرقة .

وأخذ ينتظر .

كان الأثريُ يتطلع إلى الرجل الجالس تحت النخلة ، فيراه كجذع لها ، ويراها كقمة له.

اعتاد أن تشق المعاولُ أجساد الحقول ، وأن تنثر أمعاءها وأيديها عبر الفراغ الشاحب للزمن ، وأن تحمل صناديق خاصة تلك الكنوز إلى ما وراء المدن والبحر ، صانعة جنات ورافة لمن يحملونها ويبيعونها بعيداً وسراً .

اعتاد على ركض الرجال القرويين وتفتت أقدامهم قرب تلاله الدموية ، وكم من مرة نزف وكتب ورقة ليستبدل أحدهم أرضه بقطعة ترابية ضائعة وسط البرية ، أو ليحصل على ثمن لكفنه وجنازته .

ويبدو الشبحُ الجاثم أمامه كشكل مروِّع للصدمة والغياب .

جلس معه . أعطاه بقايا الأرض التي لم تدهسها أنصال المعاول ، وأسند عريشه معه ، وجثما تحت الظل وقرب النارجيلة الفائرة بالحرارة والألم ، يتحدثان .

كان مهدي لا يكاد يفهمُ ما يقوله الرجل . إنه يزعم إن هذه البقايا الآثمة المروعة تــُُـنظفُ وتبجلُ وتــُوضع في علب زجاجية مضاءة ، وإن قوماً غرباء يأتون وينحنون لها، يدفعون أموالاً ويقعدون قربها مأخوذين خائفين !

أرتعد ، والأثري يصور أدغالها تحت الأرض ، حيث تمتد إلى ما وراء سوره، وسوف تقلع بئره ، وتمضي شرقاً ناثرة شظايا الحقول والأكواخ والصدور .

ضرب على رأسه وصاح [ يا ويلي ! ]

لم تبق أية مدخرات في صرة زوجته ، والأكل سينفد كله بعد أيام ، والرسالة التي حملها دائراً بها على الوزارات والأقسام، تذوبُ من العرق والأختام ، وهو حائر ، متخثر الأعصاب ، زائغ النظرات ، في شوارع المدينة ، يحضنه مصران قهوة ويلفظه باصٌ مع الغازات والدخان .

تتآكل قدماه قرب حقله المهدم السور الآن ، الذي تعالت فوقه تلالٌ وتغلغلت فيه وديان ، وتكومت نخيله وأشجاره وعصافيره وأخيلة مآتاته فوق بعضها منتظرة شاحنة .

يعزمهُ الأثري على غداء . يقوده في سيارته بعيداً عن الكآبة. يعطيه معولاً وأجراً لنشر كومات التراب والأحجار والرموز.

يزيح الرمل ويرى بقايا جذور نخله ، وأبنية تتفتح عن معبد وجماجم وخواتم .

يتجول بين شواهد حريق ، وأيد مرفوعة للقمر ، وألسنة نارية مهولة تأتي من الفضاء وتنصب فوق الرؤوس ، وتتعالى الصرخات وتتصادم الأجساد ، وكرات الحمم تنقضُ فوق اللحم ويتصاعد البخور البشر .

الثيران تسير نحو بقعة ضؤ ضائعة في السماء ، والأبدانُ تنحلُ محروقة الجلد والروح ، تصرخُ عبر الزمان، وصياحها يتخثر في الفخار .

مهدي يحملق في الأثري وهو ينزل به إلى جوف المحرقة ، وكأن الصياح يتعالى والجمهور يرفع أيديه ، ثم يزول ولا تبقى سوى كومة العظام المتفحمة تضع إشارات أخيرة على الجدار .

من قلب القمر ، ومن الضوء الساطع على قرن ثور يكدح في الأرض ، ويصير شعاعاً معلقاً وآهة ؛ يرى قريته بسنابلها وأيديها المرفوعة إلى السماء ، علّ رحمة تنقض، ولا شيء سوى الرماد والخطوط السهام المتوغلة في الجلود، والبشر سمادٌ مغذيٌ للحياة.

في حلمهما المشترك، مد الأثريُ جرةً ثقيلة عليها نقوش وعلامات تجارية حديثة . طل فيها وكانت كالبئر الواسعة ، رأى قطعاً ذهبية على شكل حيات.

لم يعد ثمة موطئ قدم لبرسيمه، وعريشه المفتوح صار جريداً ملقىً . وأبناؤه سحبهم من المدارس وغلغلهم في الأسواق والمحاجر والطقوس .

وبدأ يهوم على أسنة الشمس المسنونة في المدينة .

  ------------------------------  - 5– دهشة الساحر «قصص»، 1997 

القصص: «طريق النبع – الأصنام – الليل والنهار – الأميرة والصعلوك – الترانيم – دهشة الساحر – الصحراء –الجبل البعيد– الأحفاد – نجمة الصباح».

المقالات العامة

العناوين المميّزة

رابط : You Tube

https://www.youtube.com/@AbdullaKhalifaAlbuflasa