الثلاثاء، 9 سبتمبر 2025

إمرأة ـ قصةٌ قصـــــــيرةٌ: لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة




قال الرجل:
 ـــ لقد أضعنا القبر.
  ـــ أنا أعرف الطريق جيداً.
  ـــ أليس هو ذاك؟
  ـــ لا، انه بعيد.
التفتت المرأة إلى جهة الشمال. جاءت نسمات من وراء غابة الاعشاب وثلة الأشجار، بعثرت شعرها. ازدانت بشرتها الحنطية بضوء الاصيل. بدت عيناها صامتتين مفعمتين بالأسى والخوف.
قطفت زهرة صفراء صغيرة وألقت نظرة على المقبرة الشاسعة، كانت الأزهار في كل مكان، فتلونت التربة الكالحة بألوان قوس قزح. لم يكن ثمة حد بين الأسود والأخضر. نبعت فراشات من بين الاعشاب ومن شقوق القبور. تشاجرت أسراب من الطيور في السماء الموغلة في الزرقة.
في السنوات الاخيرة لم تكن المقبرة تثمر أزهاراً أو طيوراً، تتذكر الريح الساخنة التي كانت تتفجر من تحت الأرض فتشوي الوجوه. كان العشب محروقاً، والزواحف تظهر من تحت الأحجار وهي تمد ألسنتها.
يستحيل أن تنسى قبره. كان يسكن في كل خلاياها. تصورت أنها سوف تنساه بعد أن تزوجت ولكن صورته البعيدة أخذت تشع وتستحوذ على الأشياء والفراغ. تتذكر صرامته وطيبته، خشونته احياناً وهدوءه وحماسه الذي لا ينضب.
ويوم ان استشهد تجمع كل أهل الحي، وجاء كثيرون من المدن الاخرى. لم تكن تسمع بكاءً بل غناءً، صمتت وتحجرت الدموع في عينيها. دهشت من كثرة الأجساد التي حملت النعش الصغير. لم تجد مكاناً لقدميها، وبدا حبيبها حياً، يركض مع النهر البشري المتدفق، وكانت تسمع كلماته تتلون في الغناء. أدركت كم كان رائعاً، وعندئذ بكت بحرقة، واكتشفت انها افتقدته الى الابد.
كان الرجل يتعثر وراءها. يغمغم بضيق ويتأفف من جو المكان.
  ـــ لا اعرف لماذا تصرين على تكرار هذه الزيارة ؟!
  ـــ لماذا نسيته بهذه السرعة ؟
  ـــ انا لم انسه.
اقتربت منه، كان الهدوء يخيم على المقبرة، هدوء عميق يذكر المرء بالراحة الابدية. خلف جدران المقبرة كانت ثمة ضجة. نساء يثرثرن بأصوات عالية في بناية قريبة وهن ينشرن الغسيل. موسيقى تنبثق من نوافذ فندق عملاق. ضحكات زغاريد في بيت ما، صياح ديك.. راحت كل الأشياء تستريح من عناء النهار وتفتح أبوابها للمساء.
  ـــ نعم انك لم تنسه كالكثيرين..
تذكرت السنة الاولى والثانية حيث كانت الطرق تمتلئ  بالأصدقاء وباقات الورد، ثم اختفوا شيئاً فشيئاً حتى لم يبق إلاها زائرة وحيدة. احتفظت بقلبها وكلماته، وكانت تسمع ضجيج الماضي الصاخب في جوف هدوء القبور المطبق، فتنظر صديقاً وفياً حتى اذا لم يأت غادرت المكان.
  ـــ .. بل حاولت ان تطمس ذكراه.
ازدادت الرعشة في يده، ارتجفت شفتاه بقوة وسرعة، تطلع اليها بدهشة محضة:
  ـــ ماذا تقولين؟ هل أصابك مس ؟!
  ـــ لم يصبني أي مس ولكن اعرف انك كنت تكرهه في حياته وموته، اعرف كرهك لأطفاله وصوره وكتبه وسيرته. لقد غاص الكره عميقاً في صدرك حتى تحول الى نصل مزروع في قلبك.
اتسعت عينا الرجل، وتملكته رعشة كبيرة وبدأت حبات العرق تلمع في جبينه.
  ـــ اكرهه؟! انت تعرفين انني حين قابلته لأول مرة لم أكن شيئاً. كنت لصاً وسكيراً. هو الذي أعاد صلتي بهذه الحياة. هو الذي سهر معي طوال أشهر كثيرة. كان يفتح عيني في تلك الغرفة المظلمة الموصدة، وحين خرجت اشتغلت وصرت انساناً جديداً ورافقته حتى لحظته الاخيرة. لا اعرف ما الذي جرى لك ؟! لماذا أصبحت عصبية مستثارة بهذا الشكل ؟ لقد مات. انتهى. يجب أن تعرفي ذلك !
على الرغم من غضبها المتأجج، وحقدها الذي تنامى في الفترة الاخيرة، إلا ان طول مراقبتها وبحثها وصبرها، جعلها تستمع اليه بهدوء واستهزاء.
هي ايضاً لا تنسى أحاديثهما المقتضبة في الزقاق، وخصوصاً في مثل هذا الأصيل، ودعواته المتكررة لكي تأتي معه، ثم الخلوات في البساتين القصية، وتمزيقه لعباءتها وغضبها وصيحاتها ثم الراحة العميقة التي تكونت في نفسها كلما رأته.
حتى موته لم يكن قد توغل في عظامها. كانت تغضب لانشغاله عنها، لإدمانه الخلوات، وتغيبه المستمر عن البيت حتى الفجر احياناً، شعرت مرة انها اخطأت الارتباط برجل لا يظهر لها كل الود الكافي، وصارت تبكي وتنفجر بالصياح امامه.
وحين احبته بعمق وفهمته كان هو قد مات !
سمعت الرجل يواصل خلفها:
  ـــ لقد صرت ألاحظ عليك اشياء غريبة، صرت تشكيّن في كل شيء. طفلاك تبعدينهما عني. لا تأكلين معي. ماذا حدث؟ اذا كنت تبغين ان اترك الخمرة فسوف أتركها ولكن يجب ان تتغيري أولاً. اقذفي هذا الوسواس عنك بعيداً. أنا أحبك كثيراً.
تشبثت بالتراب. داعب الهواء فستانها الاخضر، بدت كطفلة حزينة في رحلة مدرسية.
  ـــ صف لي الحادثة مرة أخرى.
طفت على فمه إبتسامة، عادت إليه الثقة ثانية وقد أشبعت بالغرور.
  ـــ لقد سبق ان أسمعتك اياها اكثر من عشرين مرة..
  ـــ ولا أملّ سماعها ابداً.
  ـــ هذا يثبت لك انني لا اكرهه.
  ـــ ارجوا ذلك.
  ـــ اظن انني ثرثرت البارحة قليلا.. وربما بسبب هذه الثرثرة امتنعت عن النوم. وقد لاحظت كم ازدادت عصبيتك. تريدين سماع الحادثة.. حسناً أصغي. بعد أن سقط كل اصدقائه في الفخ هرب هو الى السرداب القوي العميق، وصار من هناك يوجه كل شيء. كنت صلته الوحيدة بالعالم. اشتري له الأشياء واحمل الصحف.. صار عصبياً قليلا ولكنه انسجم مع كل المزعجات الصغيرة واستعد لمعارك جديدة. كان يقرأ بكثافة ويخطط ويرسل الرسائل ويكتب، ينام أربع ساعات ويده على الزناد.. وكان يسأل عنك دائماً، وقد قال لي في وصيته «اعتن بها جيداً». كان يشعر انه مطارد بقسوة وأن الصيادين يضيقون عليه الخناق. وفي لحظة موته لم اسمع صيحة بل هتافاً غريباً، ظل هذا الهتاف ينفجر في نفسي كالذهول العميق. يا الهي، كم هي ذكرى بعيدة الآن.
  ـــ لقد قلت البارحة انك سلمته طردا..
  ـــ انا قلت هذا؟! لا أتذكر شيئاً من هذا القبيل.
كان ثمة درب صغير وضيق يقود الى القبر. اقتربت الشمس من سور المقبرة وتدلت كرمانة ناضجة. احترقت الاعشاب والغيوم والأشجار ونوافذ البيوت، وغدت الاشياء جمرة كبيرة بلا دخان أو رماد. اندفعت العصافير إلى الأشجار وراحت تتنازع حول الأغصان.
جاء الرجل الى الدرب الضيق واقترب منها، وضعت باقة القرنفل على القبر.
  ـــ البارحة قلت انك اعطيته طردا..
  ـــ أتحاولين أن تختلقي شيئاً ؟!
  ـــ هذه الكلمة قد اوضحت لي كل شيء. المخاوف التي تهتز بها في منامك، الصور التي تحاول أن تخفيها، ادمانك للخمرة ثانية وانكبابك على نفسك وصمتك المطبق احياناً وثرثرتك الطويلة الفارغة احياناً اخرى.. انت ترتعش وتهتز؟! ألا يمكن أن تسمع الحقيقة لمدة دقائق فقط؟!
  ـــ انت امرأة ممسوسة.
  ـــ سلمت الطرد وانت تعلم ما فيه. تراجعت الى الباب خائفاً وربما قلت انك ستذهب للحمام. الجرح الغائر في ساقك وشى بك.. كم دفعوا لك لقتله؟!
لم تكن تدري بشيء، وضعت رأسها على كتفه باطمئنان، وفيما بعد رأت ارصدة كبيرة لديه، سمعت مكالمات مريبة.
بقى في الكون نور ضئيل، ظلت السماء مغسولة بالدم، انتشرت الظلمة فوق الأحجار وتسربت الى الطرق والاعشاب. اندغمت أصوات الريح بتثاؤب العصافير على الأشجار بنهوض جيش من الحشرات المنادية.
  ـــ وبعدئذ بدأ فصل آخر.
تتذكر اقترابه منها، حنانه الذي لم يظهره أحد، صار اباً جديداً للطفلين، وفي غمرة حزنها انتبهت الى حب جديد ينمو، وبدأ حضوره يملأ كل شيء.
لماذا لم تنتبه؟ لماذا تركته يتسلل الى اصابعها وفمها وسريرها؟! لماذا تركته يأكل جسدها بشراهة وهي فرحة بعمر جديد ؟!
تتذكر لعابه وأسنانه المشوهة ونغزات ذقنه فتحس بالغثيان، وبدأ أطفاله ينسلون منها. كان يمكن أن تموت هادئة، راضية، غبية، لولا صورة الميت التي ظلت تطل عليها دائماً.
  ـــ وبدأت مرة اخرى تحاول قتله.
  ـــ اية افكار لديك الليلة، انت مجنونة !
  ـــ صورته تنزعها من الجدران، كلماته تلقيها في النار. تصرخ: هل تظل دائماً نعبده؟ ألم يحن الوقت بعد للتخلص من كل هذه الكلمات البطولية الفارغة ؟!
صار هذا هاجساً مريراً لك. كنت استغرب، فتقول لي: انني اشعر انك تحبينه هو فقط.
  ـــ نعم، هذا ما سيشعر به أي زوج.
  ـــ ثم رحت تغضب من اي ذكر لسيرته، حتى طفليه حاولت أن تنسيهما أباهما. ولكن الطفلين، بل اطفالنا كلهم، ظلوا متشبثين به.
  ـــ هذا بسببك انت ! بسبب جنونك ! كل الحكايات كانت تدور حوله، كل الاغنيات كانت تتغنى بمآثره. لم يكن لك من عمل سوى أن تنسجي ملامحه فوق القماش والارواح.
  ـــ نعم، لقد ازداد حبي له. الصغائر التي كنت اراها فيه ذابت في وهج السنين، وبقي هو متألقاً، حياً دائماً.
  ـــ انظري اليه الآن، مجرد كومة تراب!
وضحك بقوة وعمق، فرنت الضحكة المباغتة في المقبرة كصاعقة، أو كانفجار في غرفة صغيرة مغلقة. هربت بعض العصافير واصطدمت ببعضها البعض، صمتت بعض الحشرات.
خافت المرأة من توهج عينيه ونظراته الكريهة المشتعلة، وجدت أن الظلام يسيجها، والسكون يربطها بالتراب والاعشاب.
في الآونة الاخيرة صار يثرثر مع نفسه، سمعت ضحكاته الانفجارية مرارا وهو يستحم، حين أبعدت الأطفال عنه لم ينتبه.
  ـــ لقد حاولت دفعي نحو الجنون بسبب اوهامك التي لا تنتهي.
  ـــ انت الذي حشرت نفسك في الشرخ الضيق المؤلم، ومع الايام كان كل شيء يزداد صعوبة.
  ـــ كنت تخفين صوره تحت مخدتي، أو في جيوبي، ورحت تسجلين كلماته.. كنت تمارسين تعذيباً رهيباً تجاهي بلا مبرر.
  ـــ ألا تزال تخدع نفسك ؟!
  ـــ وذات مرة، رأيته يسير في الشارع، كان هو حقاً، اندفعت اليه، صافحته بود لكنه بدا مستغرباً مني، ذكرته بنفسه، أطلعته على تواريخه، فلم يصدقني وسار وهو يهز كتفيه.. صرت ألاحقه، عرفت بيته، واخبرتك اني وجدته، وأنه تزوج امرأة اخرى وتركك، ولكنك لم تصدقي ايضاً..
ضحك ورفس التراب.
التفتت. كانت أضواء المدينة تشعشع في الظلمات. جاءت ضجة سينما قريبة وصدحت موسيقى راقصة. انهمر بكاء طفل من نافذة بيت.
  ـــ انني استطيع ان اقتلكم لو كنت كما تقولين.
  ـــ انت لا تستطيع ان تقتل ذبابة الآن !
اقترب منها، حاول أن يمسكها، دفعته فترنح على التراب.
سمعته يقهقه ويقضم شيئاً.
سارت بهدوء، وبحثت بصعوبة كبيرة عن البوابة في كهف الظلام الواسع.
_______________________________
12 – باب البحر «قصص»، 2020.

«القصص: وراء البحر.. – كل شيء ليس على ما يرام – قمرٌ فوق دمشق – الحب هو الحب – شجرة في بيت الجيران – المذبحة – إجازة نصف يوم – حادث – البائع والكلب – ماذا تبغين ايتها الكآبة؟ –   إمرأة    – الربان – إذا أردتَ أن تكونَ حماراً – اللوحة الأخيرة – شاعرُ الصراف الآلي – البيت – حوت – أطروحةٌ – ملكة الشاشة – الغولة – وسواسٌ – مقامة المسرح – إعدام مؤلف – يقظة غريبة».


المقالات العامة

العناوين المميّزة

رابط : You Tube

https://www.youtube.com/@AbdullaKhalifaAlbuflasa