الخميس، 4 سبتمبر 2025

الماء والنار وما بينهما ..

كتب : هدية حسين

من معاناة الفقراء اليومية، من احلامهم المستحيلة وخوفهم المستديم، من قهرهم وانسحاقهم يقدم لنا الروائي البحريني عبدالله خليفة اغنية الماء والنار ويعرض علينا موضوعته ببساطة تناسب بساطة شخصياته، وهي بساطة الروائي المحترف الذي يذكرنا دوماً بما نسيناه او ما تناسيناه في خضم الركض وراء سراب الحياة، يذكرنا باولئك الناس الذين ما يزالون يشكلون النسبة الاكبر على هذا الكوكب، تلك النسبة التي تعيش بصدام لا ينتهي وهي تقف على حافة مسننة من هامش ضيق من الحياة، تأتي الى الدنيا وتشقى ثم تمضي منها دون ان تحقق ما تصبو اليه .. انها فوضى الحياة التي تأخذ منهم ولا تعطيهم ما يستحقون، ويأخذ آخرون اكثر بكثير دون ان يعطوا شيئاً .. هذه هي المعادلة المختلة التي تقوم عليها حياتنا والتي لم تستقم ابداً منذ بدء الخليقة .. ومنها انبثقت رواية اغنية الماء والنار الصراع الدائم بين الاغنياء والفقراء.

تنطلق الرواية من حي فقير جداً يعيش سكانه في اكواخ وبيوت وعشش من التنك والصفيح، تمتلك ارضه سيدة تسكن بعيداً عن الاكواخ في بيت حجري، سيدة لها سطوة وجاه تصل الى المتنفذين من سلك الشرطة، وبيتها هو الوحيد الذي تصله الكهرباء في ذلك المكان، بينما الحي بأكمله يعيش في ظلام دامس في الليل، ويقال عن هذه المرأة بأنها اميرة الاميرات ولها حرس وخادمات.
يتغلغل عبدالله خليفة في مفاصل هذا الحي ليكشف لنا نمط العلاقات السائدة والمعاناة التي يعيشها الناس والتي تكاد تكون زادهم اليومي.
الشخصية الرئيسية في العمل منحها الروائي لشاب يعمل في السقاية يدعى راشد .. فهو المسؤول عن ايصال المياه الى البيوت .. حياة هذا الشاب اكثر من بسيطة، يعيش في كوخ هو كل ما يملكه . هو شخصية مرحة معظم الوقت، يحكي الحكايات لاطفال الحي ويشاكس النساء احياناً .. في الليل حيث يأوي سنعرف ان لراشد وجهاً آخر، فهو يحلم بالزواج من زهرة احدى بنات الحي، يتمنى ان يعيش معها في بيت حجري وينجب الكثير من الاولاد، وزهرة هذه لا تشبه الاخريات اللواتي يداوينه اذا جرحت قدماه، ويضحكن له اذا قص عليهن طرفة، ويسألن عنه اذا تأخر .. انها تغلق الباب دونه، وتحتقره وتشيح عنه اذا مر بالقرب منها، بينما تضحك لصديقه جابر وتقف معه طويلاً عند الباب .. وسنعرف انهما - زهرة وجابر - على علاقة سرية ستكشفها الايام.
لكن احلام راشد لا تقف عند زهرة .. فلطالما ود ان يرى اميرة الاميرات، وتحقق له ذلك ذات صباح حين رأى سيارتها تنتظر قرب بوابة قصرها، ومنذ تلك اللحظة كره الحياة التي وجد نفسه عليها، كره حياة الفقر والعمل المضني في حمل الماء، وكره الكوخ البائس الذي يحتوي جسده المتعب في الليل .. لكنه كان يهرب من هذا الواقع الى الاحلام، وكان من شأن الذين كان يقص عليهم القصص، وعن النساء اللواتي لا يجد فيهن ما يأخذه الى مغامرة كتلك التي تحققها له اميرة الاميرات في احلامه والتي تاخذه الى بيت تلك السيدة فيرى نفسه وقد اضاء مصابيح بيتها واطل من نوافذها العالية على الاكواخ البائسة .. بل اخذته احلامه اكثر من ذلك فوجد نفسه على فراشها الوثير المضمخ بماء الورد .. لقد خرجت احلامه عن نطاق احلام الفقراء، وصار عليه ان يسعى الى ذلك البيت الحجري بأية طريقة.
كان اهل الحي يسمونه ملك الماء ذلك ان مهنته لا تبور طالما بقيت الاكواخ غير مشمولة بمد انابيب الماء الصافي .. ومع ذلك فان هذه المهنة لا توفر له اكثر من قوت يومه .. يأكل القليل ويهرب الى احدى الخمارات لعله ينسى بؤس يومه.
وعبر رحلة راشد على ارض الواقع وفي طيات الاحلام يلقي عبدالله خليفة الضوء شيئاً فشيئاً على شخصياته، زاد رحلته في هذه الرواية التي صدرت ضمن اربع روايات عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2004. فهناك جابر صديق راشد، وهو شاب يعيل اسرة كبيرة متكونة من ام واب واخوة مما يعيق علاقته بزهرة ويحجم عن الزواج منها بسبب ضيق ذات اليد .. وسنقف على اكثر من محطة في حياة هذين العاشقين بالتوازي والتقاطع ايضاً مع احلام راشد ومعاناته.

ذات ليلة كان القمر فيها يمر بحالة خسوف، خرج الناس حاملين الاواني للطرق عليها لعل الحوتة التي ابتلعت القمر ترأف به وتخرجه من فمها المرعب، وكان راشد يمشي في تلك الليلة على غير هدى حين سمع همساً ولمح ظلال امرأة ورجل ظن للوهلة الاولى انهما زهرة وجابر .. وقد حالت ضجة الناس وطغت على المشهد حتى صرخ بهم ليخبرهم ان ما يحدث للقمر ما هو الا بسبب هذا الفعل الشائن.. واسرع والناس من ورائه باحثاً عنهما .. الا انه لم يجد شيئاً وانما ابتلعته احدى الحفر في ظلام الليل، ولم يسمع الا الضحك منه وعليه، واصيب بجروح ورضوض .. ولكن ما آلمه اكثر هو تأنيب الضمير لأنه لم يكن متأكداً مما رآه، فهل يا ترى كان اشكالاً بصرياً تساوق مع افكاره المريضة؟ مهما يكن فقد شعر بالالم لعجزه ولتفاهة حياته وخلوها من الدفء والحب.
ثمة انتقالات انسيابية بين البيت الحجري وما يجري فيه، وحياة الفقراء في الاكواخ والصرائف .. في ذلك البيت تقرر السيدة طرد سائقها العجوز، وكانت المصادفة قد وضعت راشد امامها حين جلب لها الماء، فاقترحت عليه ان يعمل لديها وسوف يتدرب على السياقة .. ها هو الحلم يحلق به عالياً، لطالما تمنى رؤيتها والآن يصبح قريباً منها.
وخلال ايام قليلة قاد السيارة، والمرآة الحلم تجلس في المقعد الخلفي، انه يثرثر معها فتصده بسرعة، ليس هذا مهماً، انه يطمع بامتلاكها وففي اسرارها التي جعلتها غامضة ومهابة الى هذا الحد.
لقد تغير كل شيء فيه، صار نظيفاً وصارت الفتيات قرب يديه، يفتحن له الابواب ويبدين اعجابهن به، بل حتى زهرة اصبحت تنظر اليه بفضول واعجاب .. لكنه لم يصل بعد الى ما يصبو اليه، صارت احلامه تسبقه ويعجز عن اللحاق بها، فهو لم يستطع في الواقع ان يعرف السيدة او يقترب من زوايا البيت واسراره، في وقت فقد فيه الاصدقاء وجلسات الشاطىء وحكايات الاطفال .. وعلى طرف آخر يمضي صديقه جابر في علاقته السرية بزهرة .. لقاءات مسروقة بعيداً عن الانظار .. هي تحبه ولكنه مكبّل بأسرته، وحين تخبره ان رجلاً غنياً تقدم لخطبتها تداهمه فرحة خفية ليزاح العبء عنه .. وقد حدث الامر فعلاً ذات يوم عندما تعالت الزغاريد في بيت زهرة، لكن ما ان آلت الامور الى ذلك حتى شعر بالندم واكتشف ان علاقته بها ليست عابرة وانه يحبها فعلاً.
كل يمضي الى حلمه بطريقة مغايرة، وقد تأتي الاحلام باكثر مما يتمنى المرء وها هي السيدة تطلب من راشد دخول غرفة نومها .. اعطته دفتراً كان بحوزة السائق السابق وامرته ان يجمع لها ايجارات البيوت .. لقد ارتفعت منزلته وخيّل اليه بأنه اصبح قاب قوسين من الشمس .. ولكنه حين راح يدور على الابواب واجهه الكثر بضيق الحال وقلة المورد .. ماذا يفعل؟ انه لم يعد ذلك الشاب البائس الذي يحمل الصفائح وينقل الماء مثيراً ضحك الاطفال، انه الآن بوجه رجولي صلب وينام على سرير فخم ولا بد لشخصيته ان تتغير .. وتغير فعلاً، صار يعامل الناس بفظاظة، ولا يترك الابواب الا بعد استحصال الايجارات، فالمهم لديه هو رضا السيدة التي قلبت حياته رأساً على عقب، والوصول الى حلمه الى اقصى المديات .. وها هي تناديه للصعود الى الطابق العلوي الذي لم يكن مسموحاً له ان يتخطى عتباته، ليس مهماً ماذا تريد منه، قد تستخدمه جمراً للمباخر او فحماً للمواقد .. صعد السلم بهواجس كثيرة لا تستقر على شيء، وحين وصل احس بأن الاضواء التي تحيط المكان قد انطفأت فهوى الى الارض لا يدري بالتأكيد هل رأى السيدة في حضن رجل ام تراءى ذلك، كل ما يدريه ان السيدة صرفته حين احست بتعبه .. ومضى الى البيت مستغرقاً في نوم عميق لم يصح منه الا بعد ايام كانت فيها السيدة قد تزوجت من رجل ثري يدعى خليفة، وفي هذا الوقت بالذات كان صديقه جابر ينتظر في مكان ما زهرة التي شكلت له في آخر مرة رآها فيها ما تعانيه من زوجها التاجر .. كان ذلك اللقاء قد وضع حداً لعلاقتهما اذ لم تعد زهرة تلك المرأة التي احبها .. لقد تخلت عن براءتها ودون خجل تعرت امامه فبدت امرأة مبتذلة على نحو مريع ..
.. وانهارت ايضاً بعد ايام علاقة الزواج بين السيدة وزوجها خليفة، فاستغلت غيابه في رحلة صيد لتبعث بخادمتها الى راشد وتخبره بأنها تحبه وتريده فوراً.
لقد اصبحت المرأة المضيئة بين يديه، وسيأخذه الفرح الى حدود لا نهاية لها.
ولكنه افاق من حلمه وهو بين يديه، تطلب منه ان يحرق الاكواخ ليجبر الناس على الرحيل، وتستثمر الارض بطريقة افضل، وهنا يقع راشد في صراع مرير مع نفسه اذ كيف يتحول الى رجل شرير ويحرق بيوت الناس؟ واخيراً تغلب عنصر الشر وقاده الى صفيحة غاز وعلبة كبريت لتذهب الاكواخ الى النار ويذهب الفقراء الى مكان آخر، وتذهب ذكريات طفولته الى هباء منثور، الحياة الجديدة بانتظاره والمرأة الاميرة طوع اصابعه.
لقد برع الكاتب في لحظات الصراع التي عاشها راشد بين اقدام واحجام وهواجس واحلام ثم البحث عن مكان مناسب لاشعال الشرارة الاولى واستحالة الليل الى نهار وصرخات وعويل، كل يريد النجاة بنفسه من هذا الجحيم الذي اتى على الاكواخ والصرائف .. وهرب راشد باحثاً عن مكان يختبىء فيه فسقط في حفرة عميقة يتناهبه الخوف والحلم في وقت واحد .. الخوف من ان يفتضح امره .. والحلم بامتلاك السيدة التي سلمها كل شيء حتى جثث اهله وتحول من شاب طيب يحمل صفائح الماء ويغني ويحكي الحكايات للاطفال الى رجل شرير هارب لا يقوى على الخروج من الحفرة العميقة التي يسقط فيها .. لقد تذكر الآن وهو على هذه الحالة بأنه مر بثلاثة رجال عائدين من سهرتهم، كان احدهم صديقه جابر وقد رأوه وهو يحمل الصفيحة .. لا بد انهم الآن يبحثون عنه بعد ان تحول الحي كله الى رماد وبقايا اثاث متفحم وروائح غريبة ونساء مفجوعات ..
الشرطة التي وصلت اخيراً لم تفعل شيئاً حتى بعد ان اتهم راشد والسيدة بافتعال الحريق .. ولم يجد الفقراء من يساعدهم فساعدوا انفسهم .. بعد ايام قليلة جلبوا الواح الخشب والصفائح والتنك والسعف لتبدأ من جديد حركة بنيان الاكواخ .. لكن ضابط الشرطة المتواطىء مع السيدة جاءهم بأمر ازالة الاكواخ بقوة القانون .. ولأن الفقراء ليس لديهم ما يخسرونه فقد هاجوا ولعنوا وهجموا على الضابط ولم يستطع الا بصعوبة الخروج من تلك الزوبعة لتأتي بعد ذلك سيارات عسكرية وينهمر الرصاص من كل حدب وصوب على الغاضبين .. لكن ماذا يفعل الغضب والحجارة امام الآلات التي راحت تدك الاكواخ دكاً؟ تلك هي اغنية الماء والنار الاغنية الحزينة والنار التي لم يطفئها الماء .. وكأن عبدالله خليفة اذ وصل بنا الى هذه النهاية اراد ان يقول ان الفقير فقير والغني غني، واذا ما اختلت الامور فانها ابداً لن تكون في صالح الفقراء، برغم انه قادنا الى اعتقاد آخر وسحبنا الى احلام لن تتحقق على ارض الواقع.

* كاتبة عراقية مقيمة في عمان


التجريب في ساعة ظهور الأرواح

د. زهور كرام*

   إن ما يثير الانتباه في الممارسة الإنتاجية الروائية، ليس بعدها التراكمي الذي قد يدخل زمن الاستهلاك دون أن يحقّق تحولا يفرضه شرط تطور الجنس الروائي، بل ما يلفت النظر هو قدرتها على التطور النوعي، وامتلاكها مبادرة تخصيب جوهر الجنس الروائي انطلاقا من ذاكرة نصية سياقية.
   وهذه مسألة مشروعة اعتبارا لجوهر الجنس الروائي الذي تتحقق أصالته المستمرة وتاريخيته المفتوحة، على المتغيّر من خلال منطقه الذي يقبل التعامل مع أشكال وأنواع تعبيرية رمزية سابقة أو لاحقة، وعلى قدرته التقنية والبنائية على إدخال مختلف هذا الوجود النصي واللغوي والأسلوبي والذاكرتي في منظومة إبداعية سردية تحقق للحكاية تاريخا جديدا في الحياة والقراءة. ولعله رهان ذو علاقة بإبداعية الروائي الذي ينجز هذا التواجد التداخلي بين مختلف التعبيرات والنصوص،  وكذا التفاعل مع الأسئلة المستجدة في المجتمع والسياسة والاقتصاد والأخلاق، وجعلها تتحاور وتتعايش فيما بينها، دون إلحاق خدش بروائية النص جماليا ومعرفيا وسرديا.

   ويمكن القول بأن قيمة التطور النوعي تتحقق من خلال  قدرة التجربة الروائية على صهر مختلف هذه الإمكانيات، وتشرّبها بشكل بنيوي، لتصبح فيه مكونا بنائيا ينتج الشكل الروائي ولا يلغيه.
وعليه، يصبح التراكم قيمة نسبية أمام القيمة النوعية التي قد تكشف عنها الممارسة الروائية في مجتمع من المجتمعات الحديثة. 
   من أجل تقريب خصوصية الرواية البحرينية هذه، اشتغلنا على رواية «ساعة ظهور الأرواح» للمبدع «عبدالله خليفة»**.  
    إن الكتابة بواسطة أشكال وأنواع سردية متعددة (التراثي والسيرذاتي والقصصي )  تنتج معرفة حول الوعي المنتج للتجربة الروائية، وحول تصوره للكتابة الروائية. ويمكن اختصار تلك المعرفة في العناصر التالية:
   ـــ إن الكتابة من خلال أشكال تراثية سردية، تقدم قراءة المبدع لهذا التراث، في علاقته بالمستجدات السردية الحديثة( الرواية).
   ـــ استدعاء أساليب سردية قديمة، وتشغيلها داخل السرد الروائي ، يجعل منها إمكانيات متجددة للتفكير.  
    تنتمي رواية «ساعة ظهور الأرواح» لـ«عبدالله خليفة» إلى النوع الروائي الذي لا يهادن ما اتفق عليه في القراءة، ويعود الأمر إلى تركيبته البنائية التي تجعل النص تجربة تخييلية تعيش حالات مستمرة ومتنوعة من التطور التقني والإجرائي والأسلوبي والمعرفي، مما يجعلها منفتحة على الإيحاء في أبعاده المنتجة للتعدد والتنوع في التأويل.
   نسجل في البداية صعوبة اختزال قصة رواية «ساعة ظهور الأرواح» في حكاية واحدة، باعتبارها عبارة عن محكيات تولدت عن زمن اشتغال التغريب في حارة العدامة، التي استيقظت على نشاط غريب عرفته السماء مع زوبعة الريح، فأحدث تحولات في نظام الحياة، وشكل التفكير، وفي علاقات الناس مع بعضها ومع تاريخها، وفي ظهور منطق جديد في التعاطي مع التاريخ والذات وذاكرة العدامة، مما حول حكاية (التاريخ/ الحياة) العدامة إلى محكيات أهلها الذين فاجأهم التحول حين انتقلت العدامة إلى مدينة من الإسمنت، يتحكم في تدبير شأنها عناصر غير مرئية، ترسل  تعاليمها من وراء الأفق.  فعبرت ردود فعلهم عن حكايات تأثّرهم بزمن التحولات. لهذا، نلتقي بمحكيات كل من الشيخ درويش ويوسف وجوهر ومريم وبشير وغيرهم.   
   وهذا ما جعل الوقائع في هذا النص لا تعيش الامتداد الأفقي، مما يسمح بإمكانية تأطير الحكاية الكبرى ضمن مجال معين من الأحداث. ولكن هناك اختراقات وتوليدات وتفجير محكي من آخر،  ما يجعل بعض التنظيرات الروائية تتكسر أمام اشتغال السرد على الحكاية في هذا النص، مثلما نجده في تقسيم «تودوروف» للرواية باعتبارها قصة( حكاية) وخطاب. وهو تقسيم يعطي الانطباع بالحكاية الواحدة والمنسجمة، وبالتالي يدفع هذا الوعي النظري إلى إنتاج تصور معين حول الرواية باعتبارها حكاية مكتملة يتم صوغها سرديا.
يشتغل السرد في رواية «عبدالله خليفة» ضمن استراتيجية توليد المحكيات، عبر تكسير وهم الحكاية الأصلية، ويتبنى من أجل ذلك عيّنة من التدابير السردية التي تتشخّص في الإجراءات التالية: 
 
منطق الاختراق:
   ينفتح السرد على حالة عادية مألوفة في ثقافة التواصل، ثم فجأة يحدث الاختراق، ويتم الانتقال فجأة إلى حالة عصية على الإدراك، تلحق الشخصية و الحدث والسارد واللغة، وتغير ملامح العدامة ومنطق العلاقات.

   الانتقال من العادي إلى الغرائبي:
   ".. دهش الأولاد وهم يصطدمون بأجسام رهيفة، شفافة، كانت تدخل جيوبهم وآذانهم وأفواههم، وتثير ضجة في خلاياهم، ثم راحت هذه الأجساد الرهيفة تستوي وجوها، ملأى بعيون وابتسامات وأفواه متفجرة باللغة، وبأقنعة من ورق الزهر سرعان ما تتمزق لتتشكل.. " ص7. ".. وأمسكت قبضتان قويتان جوهرا. كان قد استحال إلى كتلة من الطين والتراب وبدا كشبح، أو كجسم غير مرئي يناديه رفاقه ويعرفون موقعه من أصواته، وفجأة تحول إلى عمود من نار، أو شعلة ضوء طويل كمسمار راح يحفر الأرض والسماء." ص 7ـ 8.
   تشخص هذه المقاطع السردية حالة اجتاحت أهل العدامة، وهي حالة أثارت الدهشة من قبل أهلها، وشكلت لحظة ارتباك وتردد في إدراك ما يحدث لدى كل الشيخ درويش و جوهر ويوسف الذين تمظهرت فيهما الحالة الغرائبية، "أكانت الزوبعة وليدة صبوة شديدة من الأعالي لعناق أرض جافة ماكرة" ص 17. يتساءل الشيخ درويش بعدما أصيب ولده في النشاط الغريب للسماء.. وبالتالي نكون أمام ما سماه الناقد «تودوروف» بالغرائبي/ Fantastique الذي  يتحدد في علاقته بالواقعي والمتخيل. وفي حالة التردد التي يعبر عنها كائن لا يملك إلا قوانين الطبيعة أمام حدث فوق طبيعي. وهو تردد في الفهم عبرت عنه أيضا اللحظة السردية التي لم تحسم فيما حدث، بأن ترجعه إلى حلم أو وهم، أو اشتغال الخيال لدى الشباب (يوسف وجوهر). ولكن السارد وهو يسرد الحالة من خلال صدى الشخصيات، فإنه يقترح احتمالات غير وثوقية في طبيعة الحالة "وبدا كشبح، أو كجسم غير مرئي ـــ تحول إلى عمود من نار، أو شعلة من ضوء". وعملية التردد بين إمكانيتين لتفسير  الحالة بين إرجاعها إلى الواقع ، أو إلحاقها بالمتخيل هي التي تخلق ما يسميه «تودوروف» بالغرائبي. وعليه، حين يتعطل التردد ويتم الحسم يتم تجاوز  الغرائبي لصالح حالة أخرى قريبة منه وهي العجائبي/Le mérveilleux.
   هكذا، يشتغل الغرائبي على خرق السرد الأفقي الذي تعودت عليه الذائقة الروائية، غير أنه خرق لا يتم بشكل مكشوف وصريح، كما نجد في النصوص التي تتخذ من التجريب قاعدة أساسية، وإنما يقترح بناء نص «ساعة ظهور الأرواح» شكلا مغايرا لزمن الخرق، لتحقيق  التجريب وفق خصوصية نصية عبر الغرائبي والخارق والماورائي باعتبارها اشتغالات سردية تخلخل التواصل مع منطق الأشياء، وتعمق البعد التخييلي للنص، وتفتح آفاقا مفتوحة أمام توسيع دائرة التأمل في شكل الحكاية.
   يمارس الغرائبي قوة التجلي على مستوى سلوك الأفراد، ويخترق المكان والزمن كما أنه يطبع الوصف بسماته، يصف السارد بوسمرة حاكي العدامة بشكل يمزج بين الواقعي والغرائبي، يقول: "هيئته العملاقة، بطوله الفارع وجسده المفتول، ورأسه التي تتوج عليها غترة ملفوفة بشكل غريب ملفت، تشاهد من أول الحشد كحمامة مقلوبة" ص21 . فالوصف هنا يخرج الشخصية من مساحتها البشرية، ويدرجها في المساحة الغرائبية، لتتحول إلى كائن تخييلي مزدوج. يتحرر من الحكاية الأولى وينخرط في تجربة مغايرة تعطيه أبعادا جديدة في تجليه، وتجعله يمدّ من عمر السرد، ويفتح أمامه أفاقاً  تمكنه من توسيع الحكاية التي تتولد من رحم تطور الغرائبي. هكذا، يصير الواقع الذي عاشه يوسف مع ثورة السماء حكاية يحكيها  إلى رفاقه: "في حشود الأضلاع والجدران والسبورات السوداء والطباشير وحشرجة اللغة جمع طابوراً من الصغار راح يروي لهم مغامرته في القصر المسحور" ص 13 .  كما يصبح الغرائبي سلوكا ذهنيا يتحول إلى ذاكرة ومرجعية في الفهم والإدراك والتأويل. بل تصبح له سلطة تدبير شأن العدامة من خلال التأويل الجديد لمفهوم السر الذي شكل سؤال البحث لدى الشيخ درويش وأصحابه. ويصبح مرجعية في التأويل خاصة مع التحول الذي لحق مجموعة من الشخصيات، مثل مريم التي"شفيت من تيبس العظام" ص 16.  
   غير أن الغرائبي لا يعيش الثبات في شكل حضوره، إنه ينمو في اتجاه التحول إلى وضع آخر. يقيم علاقة جديدة ومختلفة مع الشخصيات، ويتخلص من بعده الغرائبي، وذلك بفعل نشاطه المستمر، واختراقه الحياة اليومية للشخصيات، وتحوله من موضوع إلى آلية للتفكير. يتحول في هذا الصدد إلى عجائبي، يحد من حدة التردد والاستغراب  لدى الشخصية التي تعودت أن تدرك الأشياء بواسطة قوانين الطبيعة، ويجعله مقوما قابلا للتعايش معه ، نظرا لكونه قد أصبح مألوفا في نظام الحياة، وأخذ يشكل منطق المعاملات في العدامة. لذلك، لم يعد يطرح تواجده استغرابا أو دهشة.
    انبثق الخارق والغرائبي في بداية النص من الواقعي- المألوف، إذ انفتح السرد على سياق اجتماعي لأهل العدامة بأمكنتها وأهلها وأطفالها، ثم فجأة يتحول الاجتماعي إلى غرائبي، مما يثير دهشة السكان نتيجة سرعة التحولات وإيقاعها وقدرتها على التأثير الملموس في المكان والزمن والعلاقات والمواقع، وفي ظهور عناصر تصبح لها قدرة تسيير بعض الشخصيات مثل جوهر الذي أصبح وسيطا بين تلك العناصر والشيخ درويش من أجل إعادة كتابة تاريخ العدامة، انسجاما مع زمن التحولات. وتعويض الورق الأصفر بالأبيض والذاكرة بالآلة، مع خلق زمن اقتصادي جديد يدفع باتجاه بيع الجسد (مريم ).
   غير أن هذه الحالة وفق اشتغالها البنيوي، باعتبارها قد أصبحت مكونا سرديا، ستتطور وتصبح حالة واقعية في التخييل بموجب انغراسها في تربة العدامة، وفي تفكير أهل الحارة ، ثم لكونها أضحت سؤالا جديدا على أهل العدامة. لم تعد تثير الاستغراب والدهشة واستدعاء قوانين ما ورائية لإدراكها  من قبل الشخصيات. ولهذا يحدث الانجراف وراء القرارات القادمة من وراء الأفق، والتي أصبحت تشكل الحياة في العدامة بمنطق الخريطة الجديدة، والأسئلة الجديدة.
 
مظاهر اختراق السارد واللغة:
   بناء على منطق الاختراق الذي جعل النص يعيش حياته التخييلية مع محكيات تولدت ـ بدورها ـ عن المحكي الأساسي. وانسجاما مع المناخ العام للسياق التخييلي للنص، والذي بواسطته انتقلت الشخصيات من الحالة العادية إلى حالة غير مألوفة، شوشت على مبدأ التواصل معها، فإن هذا الجو قد أحدث انكسارات في رؤية السارد بضمير الغائب، والذي يحضر باعتباره المؤطّر الأساسي للحكاية. غير أن موقعه من الخلف باعتباره ساردا غير مشارك في الأحداث، تم اختراقه بسلطة  التخييل المركب، عبر الصيغة الإجرائية للتبئير الداخلي الذي هيمن بحكم الوضع العام لشخصيات العدامة، ولتحولها من موضوعات للحكي في الحالة العادية، إلى أصوات حاكية لذواتها، من خلال تشخيصها لحياتها الداخلية. لقد أصيب ضمير السارد بالاختراق، ولغته تخللها  ما تعرضت له الناقدة «دوريت كوهن» Dorrit Cohn  في كتابها «الشفافية الداخلية»La transparence Intérieure  تحت اسم  «العدوى الأسلوبية» حيث تتشرب لغة السارد صدى لغة الشخصيات. نقرأ في المقطع التالي: "وهو يحاول أن يقبض على تلك الحبال التي صعدته إلى السماء ويمسك أصوات السعادة وجبال الذهب، وليرقد مع الجنية أو حتى مع مريم التي شفيت من تيبس العظام، ويمضي في ليل العدامة الغارق في فحم الظلام، عل حبلا آخر حقيقيا يتدلى، وروحا طيبة تأخذه إلى الحقول السرمدية للفضة، أو حتى إلى كهوف البحر الملأى باللآلئ..." ص 15-16 . لغة السارد هنا مخترقة بصدى لغة الشخصية. 
   لقد انتزع الحضور القوي للشخصيات سلطة الحكي من السارد، الذي انتقلت معرفته من الكلية إلى المعرفة المتساوية مع معرفة الشخصيات، لكونه أصبح صدى لدواخل الشخصيات، يحكي برصيدها النفسي ومعجمها اللغوي. وهذا انعكس على الوضع التقني لملفوظات الشخصيات والتي جاءت مجردة ـــ في أغلبها ـــ من كل تعيين تقني يعلن - بالملموس- عن انتمائها إلى الشخصية عبر مزدوجتين. وإنما ملفوظ كل متكلم يدخل في التركيبة العامة لملفوظ السارد.   
   إنما تبقى خصوصية كل ملفوظ من سياق التلفظ، ونبرته وثقل معجم الحياة الداخلية التي أصبحت تعيّن /تميّز ملفوظ كل شخصية على حدة. 
   لقد حقق هذا الوضع الملفوظي نوعا من التجاور بين الملفوظات والتي دفعت ـــ بدورها حسب طاقة القارئ في التفاعل معها ـــ بالحوار إلى أبعد منطقة ممكنة من تحققه. ونحن نلتقي في هذا المستوى التشخيصي للحياة الداخلية للشخصية بما سمته الناقدة «دوريت كوهن» بالمحكي النفسي.
فالخطاب الذهني للشخصية يحضر بقوة وفاعلية بدعم من الحالة التي أصبحت عليها الشخصيات(العالم الغرائبي)، والتي ولدت زمن الأزمة لأهل العدامة. وهو خطاب يتولى- في أغلب الأحيان- سرده السارد، وفي هذا المستوى نلتقي بتقنية المونولوج المسرود.    
   غير أن الواضح في هذا الخطاب هو نبرة صاحب الخطاب الذهني التي تخترق لغة السارد، ويقتحم صداها المجال المؤطّر، فتلوّن السرد بتساؤلاتها التي تحيل على زمن القلق والحيرة كما نجد مع «جوهر» في الملفوظ التالي. يقول السارد: 
   "يتوغل جوهر في الأزقة متوجها إلى بيت الشيخ. إن كل أجزائه أصبحت تتمرد عليه، وعيناه لا تبصران الطريق، ولا قدماه تشتهيان الحريق. 
   يتساءل لماذا يكون الشيخ هو الذي ينهمر عليه عطايا الرفاق، ويجثم هو في قطعة الحجر المتقلقلة بين المياه والرمال؟ ألم يبصروا كيف تعرض كوخه لأذى عصابة يوسف وتهدم فانتقل مع أسرته إلى مبنى من حصي(…)؟ كيف يريدون منه أن يقرأ وهو لا يجد زاوية في بيته، ولا حتى مصباح شوارع ليستنير بضوئه؟" ص 69.
   نلاحظ في هذا المقطع السردي، شكلا من التجاور بين ملفوظ السارد الذي يقدم فيه سياق التلفظ، المتعلق بقلق جوهر إزاء تعامل العناصر الغريبة مع الشيخ درويش، وبداية تفضيله على جوهر الوسيط بينهم وبين الشيخ ، وملفوظ الشخصية / جوهر الذي يحضر عبر تساؤلات تتم من خلال السارد.
   لقد انعكس هذا الوضع السردي على طبيعة اللغة في النص، و التي هيمن عليها الاقتصاد  اللغوي. ولعل الافتتاح السردي للنص يعبر بقوة عن هذا التجلي ص 5. وهو اقتصاد مدعم بتكثيف دلالي يوسع  مجال الإيحاء. يقول السارد: "العصا واليدان والجسم وخلايا الروح كلها تهز ذلك الطبل، الجلد والطين والهواء والماء كلها تنتشي، ويتكاثر الناس وتصغر الأرض." ص 21 .
   حتى خواتم المقاطع السردية تتميز باقتضاب لغوي، وتكثيف دلالي، وإيقاع موسيقي مع استثمار البعد الشعري  في جعل خاتمة المقطع تتنفس لغة شفيفة تكسّر حدة الفجائي والغرائبي. وهذا ما جعل رواية «ساعة ظهور الأرواح» تنبني على مجموعة من المقاطع الصغيرة من حيث الفضاء النصي،  مع الإشارة إلى أن كل مقطع يتميز بحسن التخلص من الموضوع وعقدة الحدث.
   ونكتفي بسرد هذه  العينة من الخواتم السردية، لكي نرصد بعض مظاهر البناء في هذا النص:
   " ــ بعد ذلك صب عليه بئر من ماء" ص 8.
   " ــ عريش ناء تحت ثقل المساء، والمياه، وأبوه وأمه يغرفان السائل ويعصران الثياب، ويحدقان فيه متعجبين من هيئته." ص 11.
   "ــ رأى وجها حفرته السنون بمناجل الأخاديد وقد أطفأت قناديله ولم تبق سوى ذبالة تهتز من ريح الشهوات، ولم تستبقانه أو تعطيانه شيئا بل دخلنا بسرعة وهن تتأوهان من الخجل". ص 19.
  "ــ أخذ حصاه وحين أراد أن يقذفها في وجه القمر، تعبت يده بغتة وسقط الحجر." ص 24.
  "ــ أصيب بخيبة، وتمخض المستنقع عن شرارة، واشتعل خيط سريع من النشوة، والحلم." ص 40.
  "ــ يتحدث في اجتماع صاخب عن جزيرته المرمية في البحر لا يعرفها أحد. يذهلون من كلماته وثوبه ولحيته." ص 61.
   كما يتحقق الاقتصاد التعبيري واللغوي بفضل بلاغة التلخيص في هذا النص، ولعل مقطع سرد تاريخ العدامة يعد من بين أهم المقاطع التي تنتج معرفة بلاغية بفضل تقنية التلخيص. ص 25.
   وتأتي الجمل قصيرة ذات إيقاع موسيقي في خواتمها. ومعززة بأدوات الربط والعطف والتي تفيد الترتيب والتسلسل في الحكي، وهذا التركيب الأسلوبي يحقق لرواية «عبدالله خليفة» ما يعتبره بعض النقاد من أهم  مميزات الأسلوب والتي تتمثل في الأصالة (بصمة خاصة للكاتب) والاقتضاب (فن احتواء الفكرة في أقل عدد ممكن من الكلمات) والتناغم (المعنى الموسيقي للكلمات والجمل، وفن تنظيمها وترتيبها  بطراوة للأذن).  
    لكن في ملفوظات الشخصيات تتوارى أدوات الربط والعطف والترتيب، لأن الشخصية تسرد حياتها الداخلية، ولكونها تعيش وضعا متأزما، مما يجعلنا مباشرة أمام  وعي الشخصية وهو في لحظة تشكله. ولعله وضع نفسي جعل السارد يحرص على جعل اللغة المشخصة للحالات معبرة عن الحالة المحكية. فالحكاية أو المحكيات لاتصل فقط عبر الأحداث والوقائع الغرائبية، إنما أيضا عبر الصوغ اللغوي والمفردات وشكل التعبير.
   فاللغة تحضر إذن، ليس باعتبارها آلية سردية تشخيصية للحدث الروائي، إنما تصبح  حالة سردية تمد الرواية بإمكانية تفجير الدلالة.
   إن رواية «عبدالله خليفة» بهذا الصنيع السردي الذي يدفع الواقعي التخييلي إلى التغريب، ويحفزه من خلال مستويات متعددة من الاشتغال السردي على التجرد من الطبيعي والمادي، تقترح تصورا  لعلاقة الرواية باعتبارها فعلا سرديا بالواقع باعتباره مرجعية ممكن التواصل معها بالرجوع إلى ضوابطها.
   لهذا، فإن استراتيجية كل نص روائي في الكتابة ، وفي الصوغ السردي الذي يمنح للحدث روائيته، يشكل دعامة أساسية في بلورة تصورات حول مجموعة من العلاقات والمفاهيم الخاصة بالنص الروائي، وبالأدب بشكل عام .وهذا ما يجعل من كل تجربة نصية روائية، تجربة مغايرة في قراءة المفاهيم والإدراكات.
من هنا، كانت للاستراتيجيات السردية للنص الروائي أهميتها البلاغية والمعرفية في إنتاج الممكن من الاحتمالات في الإدراك.

  منطق التحول:
   يشكل التحول القاعدة الأساسية في نص «ساعة ظهور الأرواح». فكل شيء يغادر موقعه وزمنه وسؤاله، لكي يصير آخرا. المكان "موقع دكان الحكايات صار سوبرماركت ضخما" ص 123 ، والزمن (غرائبي/ عجائبي )، والشخصية (فقدان الذات ).ويتجلى التحول في مظهر الانشطار الذي تعيشه شخصيات العدامة، بعد دخول الغرباء، والآلة ومنطق الورق الأبيض.
   يعد الشيخ درويش من أكثر الشخصيات التي تعيش التحول على امتداد الرواية فقد أصبح "باسم مختلف وبهيئة جديدة وعالم مثير" ص 75 . فهو يظهر ويختفي، ويعيش تحولات تدرجه ضمن العالم ماورائي. ثم يعود إلى الواقعي ولكن بمستويات عجائبية.
   يبدأ الشيخ درويش شخصية حميمية في زمن الحالة العادية، باعتبار وضعه في نظام العدامة. فهو المرجع الذي يعود إليه أهل العدامة أملا في إيجاد حل أو شفاء، وتعود إليه النساء طلبا للإنجاب، ويتحول مع  الحالة الثانية إلى  شخصية غرائبية، ينتج عنها وضعا جديدا لذاته. فالشيخ درويش كان خارج السؤال مع زمن الحالة الأولى ، فأدخله السرد الغرائبي إلى قلب الإشكالية، وأصبح موضوعا لذاته (سؤال الذات)، وموضوعا للآخرين/ الغرباء (سؤال الدهشة): "ويحتضنه قومٌ غرباء يغدو صديقاً حميماً لهم في بضع ساعات، يسألون عن دفئه، وبلده، وأولاده. (...) يذهلون من كلماته وثوبه ولحيته". ص 61.
   كما أن شخصيات كانت مريضة وعليلة ومهمشة مع زمن الحكاية الأولى، أصبحت مع الحالة الجديدة ذات سلطة في تدبير الحياة الجديدة مثل مريم ومن بعدها عدنان ابن الشيخ درويش الذي سيتضح أنه سيكون من المستفيدين من زمن التحول.  
   يعتمد النص في تأسيس فعل التحول على عنصر  التجاوز الذي تجلى في تجاوز مرجعيات ثقافية واجتماعية ودينية.
   هكذا يتم تجاوز مبدأ السلطة الواحدة (السارد بضمير الغائب) باعتباره يحضر في وعي القراءة المألوفة ممتلكا للحقيقة وموجّها لها. وتجاوز فكرة مركزية الحكاية، بتوليد محكيات جديدة ساهمت في تفتيت حالة الوعي الموجهة للمركزية. إلى جانب تجاوز الشخصية المرجعية بالنسبة للجماعة. وجاء ذلك ملموسا وثقافيا وتقنيا عبر شخصية الشيخ درويش التي كانت تملك صواب الرأي وحجة الكلام ومرجع الجواب، ومصدر الأمان نظرا    لكون الشيخ درويش شخصية متفق عليها في المنظومة الذهنية لأهل العدامة.
   بانخراط النص في حالة غرائبية ستغادر هذه الشخصية مركزيتها وبعدها المرجعي، ليس بإرادتها ورغبة منها، إنما بدافع شروط ومنطق الحالة الجديدة . وبالتالي، إذا كان واقع الحالة العادية قد جعل من الشيخ درويش شخصية خارج السؤال، فإن الحالة الثانية أدخلته قلب السؤال. فصار يبحث عن ذاته من خلال الشك في شرعية الماضي. يقول "لا نريد أي اتصال مع هذا العالم المنطفئ، هذا العالم  الذي غرق في مياه الماضي وفي مستنقعات الأشباح، نحن على موعد عظيم مع الآلة." ص 94. ويوسف يصرح للشيخ عن فقدانه لروحه. "إني يا شيخ لا أجد روحي". ص 76. "امتلأت يدي بالذهب، كل شيء يتحول إلى نقد، ولكن الروح ليست في الجسد، ركضت في كل أزقة الأشياء وبرك المادة فلن أعثر على نفسي.. فهل تريني روحي يا شيخ؟" ص 68 . لكن الشيخ  الذي كان مرجعا لأهل العدامة، تحول نفسه إلى سؤال فلحقه زمن الضياع كما لحق أهل العدامة. بالإضافة إلى  أن السؤال التاريخي الذي تبناه أهل العدامة، وتكفّل الشيخ درويش بالبحث عنه وهو المتعلق بذاكرة العدامة، وسر الخزنة قد تم تجاوزه إلى سؤال مختلف، يركز على سؤال الذات أكثر من سؤال تاريخ الجماعة،   بفعل تغير أدوات التفكير( دخول الآلة والورق الأبيض)، ونظام اقتصادي يحول كل شيء إلى سلعة.
غير أن  الوضع الانشطاري الذي أصبحت تعيشه ذات الشيخ نشّط الحوار الداخلي، وجعل الشيخ درويش يدخل في حوارات إما ذهنية، أو ذات طابع تأملي، أو تأتي على شكل خيالات وأحلام، يتخيل فيها الأجداد وهم يحاسبونه على خيانته وتخليه عن  سؤال البحث عن الخزنة، والخضوع للغرباء الذين خلقوا منه دمية من البلاستيك. "لم ننتظر منك ذلك، أنت.. دروة سلالة النور العدامي أن تغدو هكذا، تنسل من عباءتنا وتصنع ثوبا من نايلون ومطاط، لتغدو مهرجا تبيع  ألعابك الهزيلة على الأولاد المعوقين؟." ص 102. إن مثل هذا الصحو الداخلي يعيد الشيخ درويش – بدرجات مختلفة– إلى زمن الحالة الأولى. لقد أيقن "أن ثمة مؤامرة من غابة الأشباح الغامضة لتهديم عقله." ص 108. وهو صحو سيعرف  تجلّيه لدى شخصيات أخرى اعتبرها الحكي في هذا النص فلتة الزمن. يتعلق الأمر بشخصية بشير ابن مريم وأبو سمرة الذي "يمضي بقوة في زرع كلماته في الورق والحجر". ص  .137من أجل حماية تاريخ  العدامة من الضياع.  يفعل ذلك بعيدا عن عيون الشيخ درويش خشية من تسرب الأمر إلى الغرباء. غير أن ارتياحا  ملأه عندما عثر على أوراقه بعد اختفائها، بدون تشطيب على كلماته من طرف الشيخ.
   ينتج على هذه التجاوزات تغير في وضعية القارئ الذي يعيش تحت تأثيرات التحولات البنيوية والتقنية التي يعرفها المنطق الداخلي للنص، لهذا يتحول من مستهلك إلى فاعل/متفاعل ومنتج أيضا. بل يحدث هنا - مع السماح باجتهاد في التوظيف  ما سمته« دوريت كوهن» بالعدوى الأسلوبية، على مستوى التحولات التي تحدث للشخصيات والقارئ بعدوى السؤال .
   يستمر التحول عبر عنصر التجاوز قاعدة تميز النص. فالنهاية قد تبدو ملتبسة بعض الشيء بالنظر إلى مسار التحولات السردية – الحكائية، غير أن الوعي بمنطق التحول يجعلها نهاية تؤكد رهان التذويت، وإدخال الذات في منطقة السؤال. تعطي النهاية المجال أكثر لدخول عنصر آخر أو ذات أخرى لتسائل ذاتها، وهي ذات القارئ التي من المحتمل أن تعيش بدورها التحول انسجاما مع أفق اشتغال النص في مرجعياته الثقافية والمعرفية.
  يصبح البحث عن السر والخزنة مجرد لعبة لكي تدخل الذات في سؤال معنى وجودها. وكينونتها وهويتها وفي معنى الماضي والذاكرة.
   كل شيء يعاد التساؤل حوله. الهوية، الذات، التاريخ المشترك، السر، الخزنة، التراث، الذاكرة، حتى الذات تعيش الفقدان.
    إن الغرائبي والماورائي والخارق تعد أساليب بلاغية- بنائية اشتغلت في أفق تعميق الرؤية باتجاه كينونة الفرد. وذلك، من خلال خلق مسافة عن العادي والمبتذل .
   إذا كان زمن الواقعي يدفع الشخصية نحو البحث عن الإرث المشترك/ التاريخ العام، فإن زمن التحولات التي تمت عبر دخول عناصر غريبة بالنسبة لأهل العدامة، سيدفع نحو التخلص من التاريخ العام أو الانشغال به سؤالا وجوديا، والتحول إلى سؤال الذات. ولذلك، يهيمن الشك والقلق والحيرة وترتفع درجة إعلان الأسئلة.
فالشخصيات النصية تصبح مأزومة، وقلقة. تعيش الانتظار، وتوجد في فضاء العتبة الذي يوازي زمن الأزمة Temps de crise حسب تعبير «ميخائيل باختين». ولهذا، وجدناها خارج الأمكنة الحميمية، بل أصبحت مرتبطة أكثر بفضاءات العتبة مثل المصعد والأبواب والأزقة والأماكن الغريبة. كما أصبحت الشخصيات تملك هويتين: عادية وغيبية/ خارقة، و تعيش صراعا بين الهويتين مما عمق حالة العتبة.
    يسمح هذا الانتقال أو العبور إلى الكينونة المغايرة بالتحرر من قيود وقوانين الجماعة. فعندما ارتدى الشيخ درويش ملابس جديدة وركب سيارة بدأ يمارس سلوكات تبدو غريبة بالنسبة لسياق الكينونة الأولى.
تعد عملية التحول في الكينونة عملية استراتيجية سردية تدخل في وظائف النص.
 
  استنتاجات أولية:
   تشتغل المكونات السردية في نص «ساعة ظهور الأرواح» في أفق تحقيق هوية خاصة للنص. وهي هوية تعيش – باستمرار– تبدلات  وتغيرات بحكم أن مختلف المكونات التعبيرية وكذا البنائية تنتقل إلى حالات محكية.
   تستثمر الكتابة كل مكونات الوجود، من يابسة وهواء وبشر وطبيعة وروح وفكر وشهوة، لتنسج حالة من الوجود تأتي مركبة، وغنية بالتنويعات الإجرائية، ومقبلة على توليد الحكايات التي يتحول فيها المهمّش إلى مركز( مريم، عدنان...)، والمركز إلى مهمّش (الشيخ درويش، سؤال التاريخ العام...). لكن، ما يميز عملية التوليد هو انبثاق المحكيات من بعضها عبر التدرج في السرد.
   في نص «عبدالله خليفة» يشتغل التخييل في منطقة تقاطع العوالم الواقعية والغرائبية، وينتج الأوضاع التالية:
  1- ليس الغرائبي في النص مجرد مكوّن بنائي، وإنما هو إنتاجي يطور رؤية العالم المحكي، ويغير آليات القراءة. بل قد يدهش المؤلف نفسه حين يكتشف انفلات التخييل من سلطة السارد الذي أوكل إليه وظيفة تشخيص حكايته كما يرغب أن يراها.
كلّما توغل التخييل في الترميز والتجريد، خلق مسافات كبرى مع مرجعيات الذاكرة  المألوفة وعمّق منطقة التأمل في المفاهيم والإدراكات. ولعله وضع تخييلي يمنح للنص خصوصيته في صناعة روائيته. فالرواية تتطور بتطور منطقة التخييل فيها.
2 - تعيش الرواية تصدعا على جميع مكوناتها البنائية.  وهو  تصدع خرق أفقية الحكاية، وجعلنا أمام نص تجريبي من حيث اشتغالاته السردية التي تنتج انزياحات عن المألوف والثابت.  إنه نص يخرق منطقه  بقوانين داخلية. 
 3- تنحو الرواية منحى التذويت، فتوظيفها  للغرائبي والماورائي، والاشتغال على المحكي الذاتي من أجل تشخيص الحياة الداخلية، يدفع باتجاه جعل الذات موضوعا للإدراك والتأمل.
   وإذا كان سؤال الذات قد انبثق مع التحولات  التي عرفها المكان في العدامة، ولحقت الشخصيات، ومعالم المجتمع ونظام الجماعة والعلاقات، ودخول العدامة في مجال اقتصادي يدفع باتجاه السوق، فالسؤال الذي يمكن أن ننتجه من هذا التركيب هو كالتالي.
   هل الوعي بالذات سؤالا وانشغالا فكريا، مرتبط بعنصر غريب هو الذي يحرر الذاكرة ويحفزها على طرح السؤال؟
   هل يقظة سؤال الذات، وإدخال الماضي منطقة التأمل يحتاج إلى عنصر غريب؟.
   وهل تجاوز معيقات تطوير العلاقة مع الماضي والتراث، يحتاج إلى سند خارج ذاتي؟.
    هي تساؤلات استنتاجية من شكل التفاعل مع هذا النص. والرواية هنا غير معنية بالجواب بقدر ما هي معنية أكثر بتشخيص حالات الوعي لدى الجماعة والأفراد. وطريقة التعامل مع سؤال الذات.
   عندما يركز مثل هذا التصور على الكتابة باعتبارها استراتيجية في تدبير شأن التخييل، فإنه يقترح وعيا جديدا للتعامل مع الذات والعالم، ليس من منطلق التركيز على الموضوعات والتيمات، إنما التركيز على تقنيات وأساليب تدبير الإدراكات.
   والتخييل في مثل هذا الوضع يعيش لحظة عالية من الحرية. وحريته تؤسس وضعا سرديا يدمر ثبات المعرفة، ويفجر الحيرة والسؤال، وينمّي حس الملاحظة، ويولّد القلق سؤالا، والذات موضوعا للتأمل والانشغال الفكري.
   إنها استراتيجية في الكتابة يمكن اختصارها في جملة سردية وردت في نص «ساعة ظهور الأرواح» وجعلت من  النص كتابة سردية محكمة البناء، منسجمة من حيث نظامها الداخلي، ومنتجة لجمالية خاصة.  
   "وذهل من لمساتها التي حولت وكر الفوضى إلى مزهرية تفوح بالعطر." ص 97.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ناقدة من المغرب
** تعقيب على بحث الدكتورة زهور كرم: (ساعة ظهور الأرواح) لكاتب هذه السطور، فهو القسم الأكبر الأغنى من البحث، وقد تغلغلت الدارسة في الرواية بشكل واسع وعميق، فجمعت بين تحليل بنية النص الداخلية الغائرة الصعبة، وبين قراءة الواقع العام، إضافة إلى رفدها بمنتجات النقد الغربي بين دقيق وبين عامٍ مجرد .
لا أستطيع إلا أن أحي الناقدة على هذا الجهد في حفر الشخوص والأحداث الغرائبية وقراءة الأسلوب بهذا التدقيق التحليلي .
وعموماً فإن قراءتها تركز على الجانب الفني التقني، أما الدلالي على مستويات الأبعاد الاجتماعية والروحية فهي تحتاج إلى جهد آخر هنا ، وكذلك إلى الربط والتعالق بين البحث التقني والدلالي.
على سبيل المثال تقول (فالنهاية تبدو ملتبسة بعض الشيء بالنظر إلى مسار التحولات السردية – الحكائية، غير أن الوعي بمنطق التحول يجعلها نهاية تؤكد رهان التذويب).
إن هذا يعيدنا إلى فهم الحكاية الروائية بمستوى الشخوص، فالشيخ درويش يصل بمنطقه الخرافي – العلمي المتناقض إلى التحلل ، فيظهر بشير ككائن مضاد على مستوى العلم وعلى مستوى الروح . وهو الآن على جهاز الكمبيوتر:
"لا يأبه ، يبحث عن كنوز العدامة الضائعة، وإشارات كثيفة تحومُ على بيت الشيخ درويش، يجد خيوطاً تقود إلى قصر الميسري وإلى الدخان والنخيل والعفاريت".
هذا على مستوى الصراع الاجتماعي، أما على مستوى الصراع الروحي فنقرأ عن نفس الشخصية وهو على نفس الجهاز :
"وحين ظهرت أمه عارية مرة لم يأبه، وواصل البحث، وأخذ يقيسُ بدقة رأس الشيخ درويش برأس الرجل العابث في الحانة، فوجدهما يتطابقان بشكل أذهله".
وهكذا فإن تساؤل الباحثة حول (هل يقظة الذات، وإدخال الماضي منطقة التأمل يحتاج إلى عنصرٍ غريب )، تغدو إجابته من خلال الحفر في مستوى الرواية الروحي والمستوى الاجتماعي، فالعناصر الغريبة ، والقوى المتصلة بجوهر وبدرويش، هي قوى التغيير العالمية في ذلك الحين وهي التي ترتكز على عناصر محلية، كما توضح رحلة الشيخ درويش لبلادها وإصطدامه بفكرها وحالتها.
إن هذه الملاحظات هي من أجل تدعيم رؤية الكاتبة واشتغالها الجميل على روايتنا المحلية ، متمنين لها المزيد من الخلق والإبداع النقدي البحثي الموضوعي الذي كرسته في ورقتها .
ع.خ

إعادة تشكيل الأسطورة الشعبية في ساعة ظهور الأرواح

تتأسس رواية «ساعة ظهور الأرواح» للروائي البحريني «عبـــــــدالله خلــــــــيفة» على إعادة تشكيل الأسطورة الشعبية في سياق نصي يشير إلى تجذر ذاكرة الروائي ووعيه في تراثه الشعبي سعياً إلى تصنيع عالم فني يحاكي العالم الواقعي ويتوازى معه وترتبط أحداثه بمجموعة من الشخوص الذين يواجهون قوى غيبية خارقة ويستثمر الراوي قصة الكنز وهو رمز أسطوري يمثل قصة سحرية غامضة تدور حولها الحكايات ولهاث شرائح اجتماعية مقهورة من أجل الحصول عليه بتسخير الجان واستخدام وسائل السحرة مما يضفي على الحكاية الشعبية أجواءً رمزية وخرافية طقوسية ترقى بها إلى مستوى الأسطورة

ويتخلل سرد هذه الحكايات أهازيج وأغان شعبية تشبه الطقوس الدرامية المشيرة إلى ارتباط أهل القرية الأزلي بالخرافة

والراوي يقوم بإعادة صياغة هذه العوالم الأسطورية وفق قيم إيديولوجية تهدف إلى هزهزة بعض المعايير الثقافية والاجتماعية المتكلسة بغية طرح رؤية معرفية جديدة تدعو إلى إعادة النظر فيما ترسخ في العقل العربي من بعض المعتقدات المتوارثة

وتشكيل الأسطورة الشعبية في الرواية يحل محل الآلية التي كان الإنسان البدائي يدرك بها عالمه الخاص ويتوازى ذلك مع آلية إدراك أهل العدّامة لواقعهم فحينما يكون الهدف النهائي للإنسان البدائي هو البحث عن المعرفة يتمثل الهدف الأساس لأهل العدّامة في البحث عن الكنز بوسائل بدائية تتمثل في ممارسة الطقوس السحرية

ويتم تفعيل البرنامج السردي لتشكيل الأسطورة الشعبية في الرواية على تقنية مؤسسة من نظامين الأول نظام ما قبل الكلام

والثاني نظام ما بعد الكلام

أما الأول وهو نظام ما قبل الكلام فيتوزع على ثلاثة محاور : التفكير والتذكر والأحلام

ففي محور التفكير تسيطر بنية الرموز على حركة التفكيروتغلفها فالرواية زاخرة بالكثير من الرموز والتيمات الأسطورية إذ يضفي الراوي على حادث ميلاد الطفل صفة سحرية مشيراً إلى أسطورة الميلاد في الأساطير اليونانية القديمة فيرمز الطفل للخصوبة والميلاد وترمز شخصية مريم ترمز لدورة الحياة المستمرة والمتراوحة بين التجدد والانقضاء كما يرمز الشيخ درويش للمخلص الذي تتطلع إليه أنا ليخلصها من مخاوفها وإحباطاتها بينما شخصية بو سمرة ترمز للصراع بين الوجود والعدم ويتمثل الرمز الأسطوري في الكنز كواحد من أعباء وأحلام الذات الإنسانية في العدامة كما يرمز بحث الشخوص عنه إلى المعرفة الأبدية التي يتطلع إليها الإنسان والممثلة في محور الخلود السرمدي والذي لن يتحقق وجوده أبداً ومن ثم يظل رمزاً خالداً

وفي محور التذكروالرؤيا الاستبطانية :

نجد الحدث يرتكز في نموه وتطوره الدرامي على آلية التذكر فتتداعى الذكريات على وعي الشخوص والنصوص التذكرية لا تكتفي فقط بالتعبير عن الحدث الواقعي أو الحدث الأسطوري على حدة بل تمزج بين هذا وذاك في بؤرة تذكرية واحدة مما يعمق بنية الأسطورة بهذا الطابع الدرامي المتقيد بحدود الحكاية الشعبية

وفي محور الصيرورة الحلمية

يعيد السياق النصي توصيف الحدث عبر صيغ حلمية تكشف عن حراكية الحدث الأسطوري مما يفرز إنطباعاً بديمومة الحلم وانسيابه في سلسلة متتالية ومن ثم فإن ارتباط الحلم بهذه الديمومة المتصلة يجعله تمثيلاً لما هو حقيقي وابدي

أما النظام الثاني الذي يتأسس عليه البرنامج السردي فهو نظام ما بعد الكلام

ويضم ستة محاور

ففي محور الطقوس الأسطورية

نجد الراوي يؤسس للنظام الأسطوري في الرواية متكئاً على استغلال عناصر الموروث الشعبي لحكاية ( الكنز ) كما يفيد الراوي من تقنية ( الرؤيا ) التشوفية التي يدّعي بعض السحرة أنهم يتنبئون بها للمستقبل ويوظف مجموعة الحكايات الخرافية المرتبطة بالكنز الذي يتشكل تشكلاً غرائبياً

وتتوالى عمليات تراكب الحكايات الواقعية مع الأسطورية مما يسهم في تنامي تشوفات الشخوص وحلمهم بكنز الأجداد المدفون تحت الأرض ويشي سعي الشخوص في الحكايات المتراكبة إلى حلم الحياة الأبدي الذي لا يكف فيه الإنسان عن تطلعه لكنز غيبي يمثل تطلع الإنسان إليه للحصول عليه دورة مكررة في الحياة ويرتبط هذا الحلم بطقوس فلكلورية تغمر الإنسان في خضم طقوس سحرية تجذبه نحو عالم سفلي غامض وأثير فتتوازى غواية البحث عن ( الكنز ) مع غواية البحث عن (الحقيقة).

وفي محور الخلاص وازدواجية الفجوة بين الواقع والأسطورة

نجد الحلم الضائع الذي يمثل تلك الفجوة المتنامية بين معطيات الواقع الحقيقي ومعطيات الواقع الحلمي هو البنية الدينامية الفاعلة والتي تسكن روح النص وتشي بنفسها في الأسطورة المعبرة عن المفارقة الكامنة بين جوهر الذات وبين طبيعة النسق الاجتماعي القائم وهذه المفارقة هي المولدة لبنية الفجوة التي تطرح الاسئلة لتحريرها من ركمات الخراب.

كذلك تشير الرواية إلى أن العطالة التي تعانيها أنا الجماعة في المجتمعات العربية هي المحك الأبرز في تشكيل الخرافة وهزيمة الذات الانسانية ومن ثم فالراوي ينتقد أنا الجماعة بقيمها البالية التي رسخت السلوك الخرافي المولد لهزيمة الذات الإنسانية.

وفي النهاية تتجاوز الرواية المستوى الأسطوري البدائي بعد أن قامت الأسطورة بأداء وظيفتها التي أهلتها للنهاية الصادمة مع الفكر الأسطوري البعيد عن واقعية الحياة فيصبح العقل أقدر من الأسطورة على خلق منظور جديد للواقع.

وبذلك تكون الذات العربية قد تحررت من لعنة الخنوع التي بقيت تلاحقها منبعثة من زمن الخرافة وحتى زمن الآلة التي كان لها السطوة في تحويل الذات من ذات مستلبة من قبل قوة ميتافيزيقية إلى ذات ما زالت مستلبة ولكنه الاستلاب الحضاري الذي طوق مجتمع العدامة إبان تطوره وانتقاله إلى زمن الآلة التي عمقت مفهوم الغربة بين الانسان وذاته وبينه وبين الآخر ولكنها بشرت في الوقت نفسه بواقع يسيطر عليه العبث والتشتت في مقابل الحلم بالميلاد الجديد.

وفي محور التشكيل الميثولوجي للشخصية نجد شخوص العدامة تعيش الشيء وضده مؤكده انقضاء كل الأشياء وأن الحلم الخالد مجرد خدعة كبيرة وتبدو الشخوص كما لوكانت تحيا حياة بدائية بامتلاكها القدرة على الاتصال بقوة غيبية تمدها بأسباب السيطرة على الواقع المعاين وتمنح الشخصيات بعض الأمتيازات الممثلة في القدرات العجيبة والتحكم في الآخرين ومن هذه الشخصيات شخصية الشيخ درويش الذي سعى إلى إقناع الناس بوجود الجن في حياته ومن ثم ارتبطت الشخصية في أذهان الناس بأنها ذات بعد أسطوري ويتحول إلى ساحر يوهم الناس بأن العالم الذي يعيشون فيه مملوء بالكائنات الغيبية التي بإمكانه وحده أن يتصل بها زاعماً أن بقدرته التحكم في الأرواح وتوجيهها الوجهة التي يريد.

فتتجسم الشخوص من خلال حضور كائنات غيبية وقوى خارقة ممثلة في المردة والعفاريت والأرواح كما تحضر أجسام هوائية قادرة على التشكل بأشكال مختلفة.

أما في محور المصاحبات الصوتية والبصرية

نعني به الجزء القولي المصاحب للطقوس التي تصف الأسطورة بصورة تمثيلية تتولد عنها أصوات تسمع وكائنات تتحرك في الفضاء النصي للرواية فقد شغل العالم السفلي بوصفه مصدراً تأتي منه الشياطين والأرواح الشريرة مساحة واسعة من وعي الشخوص وذاكرتهم في العدامة ففي النظرة الأسطورية للعالم اعتقد الإنسان أن الأرواح وعالم الجن تحل في كل مكان في الأشجار والحجارة والرياح والنجوم وتتحول إلى كائنات متحركة قادرة على الفعل وفي الوقت ذاته يقوم الساحر عن طريق أداء تمثيلي باسترضاء هذه القوى بممارسة طقوس معينة وإنشاد ترانيم وتعاويذ وإشعال البخور المصاحب للطلاسم الغامضة كل ذلك يجعل الحدث مترافقاً مع مصاحبات صوتية وبصرية.

وتتحول هذه المصاحبات الصوتية والبصرية إلى لغة أسطورية تلعب دور الكورس في المسرح الإغريقي وتوحي بأجواء ملحمية.

أما في حراكية الزمن المثيولوجي ودائريته

فيبرز الزمن الدائري المرتبط بالدورة الطبيعية التي يمر بها الإنسان من خلال وجوده العضوي فيما يضمر في طياته العودة الأبدية للشئ نفسه.

كما يمتزج الزمن الأسطوري ويتشابك زمن الحكاية الأساس مع زمن بعض الشخصيات الأخرى عبر حكايات عاطفية قصيرة وما يفتأ جميع الشخوص أن يجمعهم زمن واحد هو زمن البحث عن الكنز مما يهيئ لبروز حكاية أسطورية وتناميها من خلال امتزاج الحكايتين وتراكبهما.

فتتسم الرواية بثراء الفضاء المنفتح على تضاريس المكان بمناخاته الشعبية المتوترة والمترقبة للعثور على الكنز جامعا بين الفضاء التراثي المرتبط بالأساطير الشعبية وبين فضاء الأمكنة الحديثة مما يجعل العدّامة تتأبى - كمكان- عن طوابعها الواقعية الاعتيادية لترقى إلى مرتبة أسطورية تتغيا لها مكاناً في الوعي والذاكرة.

وفي محور الحضور الطقسي للغة المجازية :

برزت التشكيلات اللغوية أقرب إلى طبيعة الشعر تواؤماً مع مستويات التشكيل المثيولوجي حيث يتمتع الشعر بلغة أسطورية وتشترك الأسطورة مع الشعر في لغته القريبة من المجاز بفطريتها التي تثير دهشة المتلقي نتيجة تعبيرها عن المكامن الغامضة والمعبرة عن دهشة العالم كما يوظف اللغة المجازية الفارزة لأجواء معبأة برائحة الحكايات والطقوس الشعبية.

وأخيراً فنص ساعة ظهور الأرواح معبر عن الإمكانات الثرة التي يزخر بها التراث في الجزيرة العربية

د. أسماء أبو بكر

ملخص ألقي في ملتقى قراءة النص في جدة والموسوم بــ " الرواية في الجزيرة " بتاريخ (27-29 -3 1430)


الأربعاء، 3 سبتمبر 2025

البحر يموج في أغلب أعماله ـ عبدالله خليفة :علامة روائية خليجية محورها الإنسان والمكان

كتب : غالية خوجة

«نرصد في كتاباته الشخوص والتحولات والمسكوت عنه اجتماعياً»

«ورد اسمه في قائمة أهم الروائيين العرب الذين تناولوا أدب البحر»

«عكس علاقة شخصياته بالمكان والزمان والآخر»

«تميزت أعماله بالتكثيف وشعرية الدلالة والبنية»

■ القصة العربية في الخليج: تجريبية الاحتمال في قصص «دهشة الساحر» 

■ تشخيص البياض في سواد قصص «جنون النخيل»

   لا تخفى عن قارئ أهمية أعمال المبدع عبدالله خليفة، المعروف بتلك البنية السردية الناتجة عن عناصر متنوعة، وعوامل متعددة، تتمتع بثيمة موضوعية محورها الحياة والتاريخ والزمان والمكان والحالة النفسية للشخوص، وثيمة فنية تحوّل هذه الذاكرة الذاتية والبحرينية والعربية إلى جماليات تعتمد أدوات ومعايير مختلفة، أبرزها (المونولوج)، و(الحلم)، وهارمونية الإيقاع السردي، وتقاطعها مع الحكائي، ثم انحيازها للاختزال، والوصف الخلاق، وشعرية الدلالة والبنية.

   عبدالله خليفة عانى الكثير على صعيد حياته الشخصية، والسيرية، تلك التي يتسرب بعضها من لا وعيه إلى نصوصه، ليرصد العديد من الحالات والشخوص والتحولات، قابضاً بإشارية على المسكوت عنه الاجتماعي والنفسي، كاشفاً عن ذاكرة الموج والنار والسفر والأبواب والجدران المغلقة والظلم المستشري، والظلام المهيمن في العقول والأمكنة على مرّ الأزمنة، وأحال بضوء من الأبجدية الحياة إلى منصة يتفاعل فيها «الضباب» مع «محمد العوّاد» مع «المرأة» مع «فيّ» و«كوكب» ومع بقية شخوصه الإنسانية والرمزية والخرافية، ومحيطها وأحداثها وتراجيديتها المتصارعة، ونشيد بحرها الذي يعبر من الرمال إلى الموانئ دون شواطئ نفسية، تمنح الإنسان لحظةً مستقرة، أو مرساة تضعه بهدوء في مكان ما قابل للتأمل، أو للرحيل.

   لم يتخلّ عبدالله خليفة عن الصحافة، والعمل فيها، ظل حتى لحظة وفاته يكتب العمود الصحافي في الجريدة التي يعمل فيها مشرفاً على القسم الثقافي بــ(أخبار الخليج)، كما أنه كان مفكراً وناقداً، كثير النتاج والنشر إلكترونياً وورقياً، ويرى الكلمة بأبعاد إضافية، تماماً، كما كان يرى الحياة موجات عاديات غاديات، ولذلك ورد اسمه ضمن قائمة أهم الروائيين العرب الذين عبروا في كتاباتهم عن (أدب البحر/ روائياً)، مع عدد آخر من الروائيين، منهم: حنا مينه، جبرا إبراهيم جبرا، حيدر حيدر.

   إذاً، هو البحر بدلالاته الواسعة، وحركته التي لا تمكث ولا ترحل، يموج في أغلب أعمال عبدالله خليفة، لا سيما وهي تبرز في أجزاء «الينابيع: الصوت/ الماء الأسود/ الفيضان»، الساردة بشعرية ورومانسية وتأريخية وفلكلورية لمرحلة هامة من مراحل البحرين، وحياتها بين السفن واللؤلؤ ومحاربة الاستعمار البريطاني، وانعكاساتها على حياة الشخوص وعلاقتهم بالمكان والزمان والذات والآخر، وما تختزنه الشخوص من دلالات أخرى، تذكّرنا بالموروث الإنساني العالمي، فمثلاً «محمد العوّاد» المتمرد على الأب والعائلة والتقاليد يُضمر بمفهوم ما الابن الميثولوجي المتمرد على أبيه في موروث الشعوب كالإلياذة والأوديسا، وما أضمرته عرافة دلفي، وتظهر آلة (العود) الوترية الموسيقية بدل (قيثارة هوميروس)، الآلة الوترية الموسيقية، وتجوب الأغاني والمخيلة والذات أمكان كثيرة، منها: المنامة، المحرق، دمشق، دلهي، عابرة الأسوار، منجزة الأسوار، حاكية عن (التحولات) منذ اللؤلؤ، والوقوف ضد الجنرال ميجر، وصولاً إلى مرحلة اكتشاف النفط، ثم الرفاهية، ولا تخلو مسافة الفضاء المكتوب من الدرامية الوجدانية الخيالية والواقعية بين «العواد» و«فيّ» و«مي»، كما لا تخلو شخصياتها من اللجوء إلى التأمل، ومن زاوية رؤيوية أخرى، لا تخلو أعماله من البنية الشعرية المتسارعة المشتبكة مع إيقاعات السرد المتقاطع مع الحكاية، الهارب إلى أطياف متفاوتة، تتجول في الأعماق وكأنها موجات تائهات، لتصطدم بالواقع، مما يُشعر المتلقي بأنه أمام أناس حقيقيين، فيصاحب (الهبل) و(الخبل) و(الجنون)، وتارة أخرى، يرافق كائنات تجمع المفارقات النفسية والاجتماعية، وتظهر بطريقة ممسوسة لا حقيقية ولا وهمية، مثل شخصية «ياسين كافود» في رواية «تماثيل»: "كان ياسين كافود غريباً، وظهر، فجأة، إلينا، وكأنه ممسوس، صحيح أنه كان طفلاً نزقاً، كثير الحب للأكل وسرقة البيض والكعك من الدكاكين، لكن، أن يظهر، بغتة، هادئاً، صامتاً، وينزوي عند الشاطئ، ويتوارى في غرفته، ويدمن القراءة، فهذه كلها كانت علامات لدينا على الخبل". ولا يخلو أسلوبه من السخرية المثقفة الموظفة بهدف نقدي، تراجيدي يضمر الكوميدي، ومنها وصية المسؤول في العمل: "دعك من كل هذه السوالف، وركز على قبض المعاش آخر الشهر وكفى بالله حسيباً"، ثم يتابع خليفة الوصف الكاريكاتيري لشخصية هذا المسؤول: "ثم طوى بشته تحت ساعده وخرج مثل طائر الفينيق"، ولربما، لو لم يكن الوصف عميقاً، وذا دلالة أسطورية، موظفة بطريقة لا بدّ منها، لكان الوصف عادياً جداً، لكن حضوره برمزية وتشبيه ودلالات (طائر الفينيق) منحت الجملة الروائية قوتها، (وفلاشباكيتها) وحركتها.

   وتتوالى الأحداث عبر فصول التماثيل الـ(42)، ضمن بنيات حكائية متنوعة، سيرية، وحوارية، ومونولوجية، وكاريكاتيرية، وناقدة، وهازئة، ولكنها جميعها تشير، وبوضوح، إلى البنية الجوانية الذاتية والمجتمعية، وما فيها من فساد أخلاقي واجتماعي ونفسي، وبالمقابل، بما فيها من طموحات وأحلام ومحاولة للارتقاء، وظهور بعض الظواهر الجديدة ابتداءً من (1950م)، لا سيما بعد تحوّل البحرين إلى المباني البرجية، مستقطبة الأيادي المهاجرة إليها بهدف العمل، متوقفة عند التناقضات الظاهرة والباطنة للشخوص، وتحولها السلبي السالب، حيث يتحول «كافود» من مؤلف ثائر على الفاسد إلى سارق للآثار، وصاحب مؤسسة إعلامية ودار نشر، تزيف وسائلها تبعاً لأهدافها، وتتناسل الأحداث، متواصلة، منقطعة، وكأنها حكاية داخل حكاية، ضمن تداخُلٍ فني يعكس الحساسية الجديدة للمقول والمكتوب، ليشدّ الفضول القارئ بجاذبية وتشويقية، تعتمد على (المونولوج) المتحول إلى (ديالوج)، فتتحاور أرواح الشخوص مع ذواتها، ومحيطها الموضوعي، والقارئ الذي لا ينفصل عن الاشتراك في كتابة الرواية، لا سيما وأن حياة «كافود» تبدو غير منتهية، لأسباب عديدة، منها: مساهمة القارئ في إنجازها، وثانياً، رغبة من المؤلف بتركه النهاية مفتوحة لأنها سيرة شخص لا تنتهي، قابلة للتجسيد في كل زمان ومكان، ومنها: تعدّد الخاتمة، وإحالتها إلى ذاكرة القارئ وبداية الرواية.

   تستوقفنا روايته «عنترة يعود إلى الجزيرة» لما فيها من ترائيات لعودة الجاهلية والقبلية والظلامية الجاهلة المستترة بالدين، وكأنه كان يرى ويشير وينذر.

   ولا بدّ من أن نشير إلى رأيه النقدي في الرواية الخليجية التي رآها غير متجذرة في الأرض بعدُ كما يجب، لأسباب عديدة، أهمها الوعي الروائي الإبداعي لا كمية النشر، إضافة إلى حاجة المنتوج إلى كل من: القراء، الوسائل الإعلامية المهتمة، والنقد الموضوعي.

   ومثلماً موجات البحر متسلسلة وليست هي في الآن ذاته، كونها تتحرك، تتبدل، تتناثر، تغور في الأعماق ثم تميل مع المدّ والجزر، كذلك، كانت أسلوبيته التي تتميز بتشابكيتها مع الذاكرة الخرافية، الواقعية، الإنسانية، الحلمية، واللغوية ذات الأبعاد الجمالية المختلفة.     

 ■ القصة العربية في الخليج: تجريبية الاحتمال في قصص «دهشة الساحر»**


   تنبثق علاقة السرد في المجموعة كعلاقة بالمدلول، أي السرد يحيل الوصف على مكنوناته كحديقة ظلالية لا نلمس منها إلا الحفيف الزمكاني المتنقل من اللحظة الواقعية الى اللحظة المتخيلة.

   وما بين حركتي الانتقال (من الواقع الى المتخيل) ثم (من المتخيل الى الواقع الذي توحي به مستويات النص) تبرز الحدثية كظل للشخصيات التي غالبا هي شخصيات اضمارية تتصارع مع دواخلها المستترة عابرة من البعد الموضوعي الى الجواني الذي يحوله القاص الى موضوعي نصي ينشر حوافره المخيلتية بهيئة (جان) او بهيئة أعماق مشخصة تخرج من اللامرئي لتدخل عالم الكلمات وتتوالد، أو تتبعثر، أو يختزل بعضها بعضا وذلك عن طريق العناصر الثلاثية المتلاحمة في النص (الحلم. المخيلة/تداخلات الزمكانية).


 1ــ الذاكرة الأولى/الذاكرة الاخيرة:

   ينساب الأثر النفسي استرجاعا في قصتي «طريق النبع» و«الأصنام» راسما علاقته الأيقونية في المكان "الطريق المؤدية الى النبع" في القصة الأولى، و"الحقل" في القصة الثانية. ومن هذا الفضاء كمكانية أولية للنص، تبدأ المؤشرات بالظهور مرتكزة على الشخوص ومتوزعة في النص على الرموز "الهياكل العظمية" في قصة «طريق النبع» و"جوف التربة" في قصة «الاصنام».

طريق النبع/الذاكرة الأولى:

   تنفرج دلالات جملة الابتداء "يتذكر جزيرة «النبي صالح» وهي محاطة بغلالة من الضوء الاخضر" عن تداعيات فعل التذكر وعن ايحاءاتها المكانية، لتتدرج في المسافة المتعينة "الطريق/الجزيرة/النبع" وتتحول في المسافة اللامتعيّنة (الحيز النفسي: الآني والاسترجاعي). ومن نقطة الالتقاء بين هاتين المسافتين تنشأ علائق محكمة بالذاكرة الأولى للشخصية، حيث (الفجوة القصصية) المنبوشة عبر مقطعين رقَّمهما القاص «عبدالله خليفة» ليترك ثغرة بيضاء اضافية قابلة للامتلاء بما ينجزه فعل (التذكر) الحافل بالألون "ضوء أخضر/نخيل/سماء زرقاء/رمل ابيض/شريط من السحر/جنة أزلية/الصخور/الماء

المتلألئ/العصافير/الدماء/البيوت الملونة/القرميد الأحمر..".

   شبكة من الاسقاطات المتجولة بين الجزيرة الناهضة من الذاكرة وبين الحيز المتحرك مع السيرة والسير في الطريق، لا تلبث أن تحيلنا من مجازاتها وحواسها غير المتخيلة عن الشعرية الى عنوان القصة «طريق النبع» الذي نتبين كيف يتحول من عنوان الى (رمز) ينزح عن فضائه الأول (المكانية الخارجية المشكلة لبروز عناصر النص) الى فضائه الأعمق (الذاكرة الأولى) للشخصية المتخذة مسارا (زمنيا). وهذا ما يركبه لنا مشهدان متباعدان في القص، الا انهما يشيران الى ذات الاحتمال (الزمني) الذي رغبت في ايقافه الشخصية:  

   1 ــ مشهد المكانية المتكون كرحم للنسيج القصصي: "كان النبع يتدفق من تحت الصخور والتراب، زلالياً، مضيئاً، ذا أصوات ناعمة، يكوِّن غرفة واسعة، ثم يتدفق في مجرى عريض واسع، تحف به نخلات باسقات، شديدات الطول والجمال، ذوات أقراط مذهبة، وحشائش كثيفة كأنها روائح امرأة فاتنة وليل مفعم بالنشوة".

   2 ــ تحول المشهد المكاني الى زماني يتخارج مع الرغبة الداخلية للشخصية: "يتذكر، يتذكر بألم ومرارة، كما لو أنه يود أن يتجمد مجرى الزمن هنا، أو أن ثمة كشافاً هائلاً مسلطاً على تلك اللحظات. 

   أبوه يغرق في نومه، وهو يكتشف ذلك الصندوق، والذهب المخبأ".

   وتنزح هذه الشبكة بدورها الى الخاتمة التي ارتكز عليها النص في تحولاته المسكونة بالموت والحياة وبالانبعاث المفاجىء الذي تتشخص فيه الهياكل العظيمة لتناور على طريقة خروجها من ذاكرة الشخصية الى الواقع الملموس حيث (المكان المقصود بذاكرتيه الماضية والحالية) الى ذاكرة النص والنبع والهرب. 

   "انتبه إلى وجود هيكلين عظميين عند النبع.

   جَثَمَ، ولم يسعفه جسمه الضخم، وكرشه المتهدل، أن ينحني ويلتقط حفنة من ماء.

   أحد الهيكلين العظميين تحرك، وغرف بكأسه ماءً وتقدم إليه".

   وبين شعورين متناقضين (الفرح ثم الخوف) تتموضع شخصية البطل لتزيد من اشكاليات أبعادها. فبعدما تتناول الكأس المعدني المهترئ من الهيكل العظمي الأول، وبعدما تشرب ماء عذبا عميقا، نجدها تحدق في (الرجل الاخر) حيث تتعرف الى ملامحه الغائرة في الذاكرة والعائدة مع الزمن الحاضر لتكشف انه (هو الرجل النخلة الطيب) الذي دفع قارب البطل المحمل بالهدايا والذهب. تتركب شخصية (الرجل الطيب) المشبه بالنخلة من ثلاثة أبعاد: (الهيكل/الرجل. الهيكل+عرق الحياة الاخير): "هو خط دقيق واحد من عظم فوقه جلد متغضن. يد شاحبة هي عرق أخير للحياة. رأسه صلعاء ذات شعر نادر بلون الطحين. ثمة ماعزٍ ضار التهم عشبه" ولا تتحرك الدينامية السردية من احتمالات الشخصية الثانوية (الرجل النخلة) غلا لتعود بطريقة مموهة الى الشخصية الرئيسة الاشكالية. وتتم كيفية التلاقي من خلال تدوير الابعاد الحاضرة الغائبة بين الشخصيتين. وهذا ما يؤكده المشهد اللاحق لـ(عرق الحياة الاخير) ولما اختلط فيه من بعد ثيمة: "ثمة ماعزٍ ضار التهم عشبه": "جامد، متصلد في ذاته، انقطع عن اللغة والماء والأصوات. حدق فيه عساه أن يعرفه ويقتله. حرك يديه أمام وجهه لكنه بلا روح. تمنى أن يبصره فقط.." وبهذا تكون البنية قد كست دراميتها ذاكرة، والذاكرة أشباحا وهياكل، ثم كست الهياكل لحما وحضورا يشوش لحظته الغائبة المتجسدة في الخاتمة كاحتمال يدعو الشخصية الى الهرب: 

   "تعكز العجوزان على جسده، ساروا ببطء في طريق الجذوع والأشباح.

   قال العجوز:

    ـــ خرج من السجن تواً. قتل زوجته التي سرقت ذهبه وأعطته لرجل من القرية.

    لم يستطع أن يحمل جثثهم. فرّ مذعوراً إلى سياته). ومع الفرار الى السيارة، أو الى الذاكرة، أو الى الواقع، تخرج الذاكرة الأولى للشخصية عن التوقعات، مكثفة الحياة والموت ومسافة التغير الزمكانية لـ(جزيرة النبي صالح) كدلالة على ما يحدث في كل أرض. 

الأصنام/الذاكرة الأخيرة:

   تدور أحداث قصة «الأصنام» حول اكتشاف «مهدي» في حقله آثارا تاريخيا(أصنام/ جرّات/كؤوس/ سهام..)، وحول ما لحق هذا الاكتشاف من تواجد الأثري المنقّب في أحشاء الأرض وما أصاب الحقل من تعب "لكن السطر الأخضر الترابي لم يعد له. كان مدججاً بالسلاح والوجوه والملابس الغريبة. أناسٌ يحيطون بالأرض وآخرون تغلغلوا فيها، وآخرون يسيجون الحقل بأسلاك شائكة". هذا وضع الحقل بعد الاكتشاف الذي كان محورا جذعيا للقصة. لكن قبل أن يؤل الحدث الى طبيعته المتوقعة (وجود الرجل الأثري وحالة التنقيب) كيف صاغ المبدع فنية الحدث بما قبله وبما آل اليه؟

   يبدأ النص بداية عادية تنتقل منة الشخصية الى مكانها "اصطدمت جبهة الحاج مهدي وهو يصلي بشيء صلب.

     كان حقله الصغير قد توارى بزحف الظلام". ثم تتضاعف ايقاعية المشهد مع وصفيات المكان والحركة والاضاءة والحفرة التي يجدها مهدي. حيث تصبح (الحفرة) مثيرا تختلط فيه طقوس الشخصية مع طقوس المكان وتُشعرنا بتواصل خرافي مع الاشياء تسقطها الصورة الذهبية لـ«مهدي» على الموروث الموجود في (الحفرة) كذاكرة جمعية وعلى الموروث في العمق الانساني للشخصية والذي لا ينفصل عن ابعاد الذاكرة الجمعية الا بما أورده الراوي عن المعاش الحياتي للشخصية التي انعزلت في هذا المكان الذي تحول في النهاية الى (مقبرة) اكتشف فيها تلك الآثار التي يعتبرها ارواحا شريرة وسرا من أسرار الأرض التي لم ينفذ تحذيرات ابيه من اجلها، استخدم القاص المؤشر الفلاشبكي مزدوجة: ذاكرة مهدي العائدة الى صوت ابيه ووصاياه. وذاكرة الأرض الملتحمة من جوفها مع صلصال مهدي والتي يبثّها الراوية كخط بياني اتحدت فيه الشخصية مع الأرض. أما المعلن عن الدلالة المزدوجة، فهو الظرف الراهن الذي يوظفه الراوي ليعكس اللحظة المعاشة كاشفا عن أسرارها ايضا.

1    ــ النظرة المتبادلة للدلالة الازدواجية والمعاكسة من الشخصيتين (مهدي/الأثري): 

   "كان الأثريُ يرى مهدياً كإحدى المأثورات التي قذفتها التربةُ."

   "والفلاحُ يشاهد الرجل كحشرة دائبة التنقيب في جلده".

    "يتصور مهدي إن كل ذلك المهرجان قد تم لإنقاذ أرضه، واستخراج الأرواح الشريرة من باطنها، وجعل النخلات مزهرة، وإطلاق سراح الينابيع الصافية، وإلقاء الأصنام في محرقة".

   2 ــ تعرية الواقع المتلولب على الدلالة السابقة، وذلك من خلال ما  انسرد بعد فعل:

   "اعتاد أن تشق المعاولُ أجساد الحقول، وأن تنثر أمعاءها وأيديها عبر الفراغ الشاحب للزمن، وأن تحمل صناديق خاصة تلك الكنوز إلى ما وراء المدن والبحر، صانعة جنات ورافة لمن يحملونها ويبيعونها بعيداً وسراً.

   اعتاد على ركض الرجال القرويين وتفتت أقدامهم قرب تلاله الدموية، وكم من مرة نزف وكتب ورقة ليستبدل أحدهم أرضه بقطعة ترابية ضائعة وسط البرية، أو ليحصل على ثمن لكفنه وجنازته".

   ويفضح القاص معاناة مهدي الذي اكتشف الآثار: 

   "لم تبق أية مدخرات في صرة زوجته، والأكل سينفد كله بعد أيام، والرسالة التي حملها دائراً بها على الوزارات والأقسام، تذوبُ من العرق والأختام، وهو حائر، متخثر الأعصاب، زائغ النظرات، في شوارع المدينة، يحضنه مصران قهوة ويلفظه باص مع الغازات/ والدخان/ لم يعد ثمة موطئ قدم لبرسيمه، وعريشه المفتوح صار جريداً ملقىً. وأبناؤه سحبهم من المدارس وغلغلهم في الأسواق والمحاجر والطقوس".

     بتلك الدلالة ينتقد القاص الواقع العربي، ويحمّل نصه ذاكرة أخيرة بمسرح اطيافها وهي تخرج من الجسد القصصي، بهيئة مشحونة بالحلم المضاف الى الرؤيا النازحة نحو الخرافة:

      1 ــ الجملة اللوحة: "تجمد على حائط شجرة، والقمر المكتمل المشتعل بدماء القرابين يصعد من الشرق" / "قرأ الآيات وعلق الاحجبة وبكي للحسين ووزع بقايا الأرغفة على العصافير غير أنه بقى ذلك السطر الموحش بين البرسيم والتراب".

      2 ــ الجملة الممسرحة: "يتجول بين شواهد حريق، وأيد مرفوعة للقمر، وألسنة نارية مهولة تأتي من الفضاء وتنصب فوق الرؤوس، وتتعالى الصرخات وتتصادم الأجساد، وكرات الحمم تنقضُ فوق اللحم ويتصاعد البخور البشر.

     الثيران تسير نحو بقعة ضوء ضائعة في السماء، والأبدانُ تنحلُ محروقة الجلد والروح، تصرخُ عبر الزمان، وصياحها يتخثر في الفخار".

     تمتزج متراكمات السرد في الجملتين (الجملة اللوحة والجملة الممسرحة) لتنتج أثرا سرياليا يملأ بياض النص بهالات سريعة الايقاع بين العالمين (الموضوعي المحمول على رؤيا العناصر الطبيعية وطريقة توظيفها سرديا) والذاتي: المتفاعل مع الرؤيا للموضوعي والمنعكس منها الى الذي لا يرى كعالم ثالث يتقنه «عبدالله خليفة» ويجعله هاربا من الشعرية الى تشكيلات المجهول، الى الشعرية.

   إذن يكمن السر الجمالي للطاقة الابداعية في قدرتها على الانفلات من المحكي الى ما فوقه وذلك عبر دلالات الخلق غير الثابتة والمتعامقة في الثابت (الفضاء المكتوب).

   في هاتين القصتين (طريق النبع/الأصنام) نتبين كيف نتجت تداخلات الزمكانية وكيف انشطرت الى ذاكرتين (أولى وأخيرة) وكيف تشابكت عناصرها الصاعدة، الهابطة، منتجة أثرها اللامتوقع العابر من الامكان الى اللاامكان ضمن شبكة النسيج المتصارعة والسريعة الانتقال والاختزال والمكاشفة.

■ تشخيص البياض في سواد قصص «جنون النخيل»

   تتضافر الفضاءات الجمالية في تجربة الروائي والقاص «عبدالله خليفة» الذي يوظف مخيلته كإيقاع سردي تتشكل علاماته من علائق العناصر المستندة الى شعرية المقول، وعلى كثافة الجملة، وعلى تحويل الواقع الأرضي لبى واقع فني يختزل احداثه ويشابكها وينسلها من مكونات الشخوص وملامح المحيط، جاعلا من هذه الوحدات وحدة عضوية كبرى تميل بنيتها الى التفكيك الظاهر الذي يضمر في بنيته العميقة ترابطا وتماسكا نسقيا تتباعد فيه الذات الراوية لتلتقي في مسافاته التأويلية.

   ميزة نجدها في سرديات «خليفة»: الضباب/أغنية الماء والنار/الهيرات/نشيد البحر/دهشة الساحر/جنون النخيل.

   أضافة الى ذلك، فان سردية المقول تكمن في الكيفية التي تتناغم فيها حركة العلائق بين الظهور والاختفاء، بين الانقطاع والاتصال، بين درامية الخروج من الذاكرة والدخول في المخيلة، وبين الانجاز المحوّل لطرفي الخروج والدخول، وبين انسجام ايقاعات المونولوج والديالوج وزوايا رؤية الراوي.

   هرموني ديناميكي يوجه محور رغبته نحو الارتقاء من (المتن المحكي) الى (المبنى المحكي) لماذا؟ لأنه يعي بأن للأبداع دورا فنيا يتجلى في (كيف أقول) وليس في (ماذا أقول) .. فالمعنى ملقاة في الطرقات كما قال يوما «الجاحظ» والمهم هو كيف نصوغها ونخلدها في اللغة.. لكن، ألم يفت «الجاحظ» شيئا؟.. أو لنتساءل بطريقة أخرى: هل كل المعاني ملقاة في الطرقات؟... لقد فات «الجاحظ» ذلك.. فهناك معان لا مرئية لا توجد في الطرقات ولا يمكن الوصول اليها الا ببصيرة وحدس مستبصرين لا يعرفان الجمود...

     سنستنطق في قراءتنا هذه قصص «جنون النخيل»*** ذات الابناء غير التعاقبي الذي يقطع عناصره في بؤرة مزدوجة من الزمكانية والحلمية والاسترجاعية والحدثية الواضحة والمغّيبة.. حيث تتفاعل بنية القصة خادعة القارىء بتمحورها حول الحدث والشخصية.. لماذا لأنها توظف خداعها كعامل مكون من داخل النسيج لتجعله متمحورا معها حول دينامي الصراع العناصري الذي يستغوره القاص منتجا تلك الثنائية التبئيرية القائمة على (المفارقة) تبعا لــ«جيرار جنيت»:(كل مفارقة سردية يكون لها مدى مفارقة واتساع مفارقة، فمدى المفارقة هو المجال الفاصل بين نقطة انقطاع السرد، وبداية الأحداث المسترجعة أو المتوقعة.

   يقول «جيرار جنيت» حول هذه النقطة بالذات:(ان مفارقة ما يمكنها أن تعود الى الماضي أو الى المستقبل وتكون قريبة أو بعيدة عن لحظة (الحاضر) أي عن لحظة القصة التي يتوقف فيها السرد من أجل أن يفسح المكان لتلك المفارقة. اننا نسمي (مدى المفارقة) هذه المسافة الزمنية، ويمكن للمفارقة أن تغطي هي نفسها مدة معينة كم القصة تطول أو تقصر، وهذه المدة هي ما نسميه (اتساع المفارقة) (1).

   ما بين المدى والاتساع ينشأ عالم اشاري يعكس بناؤه الداخلي صورة متماسكة لانقطاعات البنية السطحية المنتشرة كحدث فيحدث وكمحكي حاضر غائب لا تجمع اشكالاته غير نقاط المفارقة على اعتبارها محكيا كاشفا تبث قنواته التضعيفات المتخيلة المنعزفة على نبرة تكثيفية تتجاوز بنيات المحكي الواقعي الى شبكة شعرية تتنامى فيها وجدانات وظلال العناصر السردية الأخرى.

   ضمن هذا الفضاء البنائي تشرق مجموعة «جنون النخيل» مفتتحة وحدتها بقصة «بعد الانفجار» ومثقفة أبعاد الحياة والموت، الحلم والماضي واللحظة الحدثية عبر العناوين «الموت الأكثر من مرة واحدة/الاخوان/شهوة الدم/ياقوت/جنون النخيل/النوارس تغادر المدينة/رجب وأمينة/عند التلال/الأم والموت/النفق» ثم تختتم بنياتها وشخوصها السالبة والموجبة وطور اضاءاتها لتحركات الذات على الأرض، بقصتها الأخيرة «الميلاد» وبذلك تُكوّر المجموعة نصوصها بين حدين:

1ــ حد الموت «بعد الانفجار»

2ــ حد الحياة «الميلاد».

   تمفصلات الانكسار:

   تشترك انكسارات البنية الاجتماعية والنفسية والأخلاقية في تحريض آلية الانكسار الكرونولوجي: (من الحاضر الى الماضي) وفي تحريض آلية الانكسار الموروفولوجي (تمظهرات المكتوب النصي المجسد هنا بإقطاعات السرد على صعيدي الدال والمدلول).

   ومن ثمَ تشترك آليتا الانكسار الكرونولوجي والموروفولوجي في انتاج زمنية السرد كثنائية تتمفصل ذاكرتها الحاضرة مع ذكراتها الارتدادية ولا تنفك الا لتضيء المقصدية المتخفية المتشعبة الى:

1 ــ غاية تعرية البنية الاجتماعية المتجلية في القصص «الاخوان/ياقوت/النوارس تغادر المدينة/الميلاد/بعد الانفجار».

2 ــ غاية تعرية البنية النفسية الممثلة في قصة «الموت لأكثر من مرة واحدة» وقصة «شهوة الدم».

3 ــ غاية الكشف عن مستوى البنية الأخلاقية، وتعكسها قصة «رجب وأمينة» وقصة «عند التلال» وقصة «النفق» ولا تنفصل هذه الغايات الا نظريا كونها متشابكة في جميع النصوص.

   كنموذج لهذه التمفصلات سنناقش قصة «عند التلال» المبدوءة بوصف جمالي خلاق تبعا لــ«آلان روب غرييه» وبوصف جمالي تبعا لــ«جيرار جنيت» حيث تتعدد المعاني في الجملة المفتتح التي بإمكاننا اعتبارها جملة مشهدية تختزل محور العنوان «التلال» كمكانية محيطة بالشخصية: "تمتد وراءه التلال بحرا من الموجات الكبيرة المتجمدة" ص(91)، ولا يتوقف ايقاع الجملة الا بعدما يأخذ فعل "تمتد" زمكانيته النصية: (الطريق/الظلمات): "يتوارى خلف احداها رابضا على الأرض، محدقا في الطريق الضيق الملتوي، الذي امتلأ بالظلمات". ثم يصبح الايقاع أكثر وضوحا وهو يكشف عن غاية وجود الشخصية في هذا المكان: "الرجل الذي ينتظره، لابد وأن يمر هذا الدرب، وأن تندفع سيارته بين الحصى والرمل والحفر، متوجهة الى فيلته الكبيرة في الخلاء الواسع".

   من هذه الجملة المشهدية تعبر مسافة المكان ومسافة الزمان الى المسافة النفسية لشخصية «محسن»: (الانتظار) الذي يظهر مسلحا بحافز (المسدس) الذي يستكمل وظيفته على مرحلتين:

1 ــ الوظيفة الفعلية التي تتم في نهاية السرد.

2 ــ الوظيفة الاشارية التي تستدرج البطل الى ذاته "المسدس يكهرب جسمه كله، رائحة رصاصة التي لم تنطلق بعد، وتضاريسه المعدنية المسنونة، وانفجاره المرتقب، تلتهم تفاصيل ذاته، وتغدو مثل نهر متدفق على المزارع والسهول".

   ومع تدفق الذات المرموز اليها بــ (النهر) ينقطع زمن السرد عن لحظته ليدخل في (المفارقة) منعطفا الى الوراء، الى ذاكرة الشخصية المنقسمة الى ذاكرة للماضي الذاتي وللماضي المكاني، فيتحول انجاز الجملة المشهدية الى مرآة عاكسة للقاتم من خفايا البطل، وذلك من موقع الراوي العارف بكل شيء (الراوي) الشخصية الحكائية (الرؤية من الخلف) .Vision Por Derriere وينتقل الراوي «عبدالله خليفة» الى الأحداث المسترجعة ليجعلها تستغرق بعدا زمنيا يمتد من لحظة ظهور الشخصية في النص الى لحظة طفولتها وسلوكاتها مع "الرجل الذي تنتظره الآن الذي كان صديقها" ويتحقق هذا الانتقال عن طريق تنوعات الوصف: (التمهيدي/ التوضيحي والتفسيري/ الخلاّق): "كان دائما قرب هذه التلال، هذه الدوائر الكبيرة من الرمل والحجر/ حين كان طفلا كانت أول ما واجهه، مثل السماء والحكايات والقدر/ وكان الذي ينتظره الآن، ومجهز له الرصاص، هو صديقه الدائم في اللعب فوقها" وبعدما تضعنا حركات الوصف في منطقة ملامح الشخصيتين وسلوكاتهما، تبرز ملامح الذاكرة عن طريق سؤال يفتتح المجال الغائب من الأحداث على مجال الحضور: "كيف سارت بهما الحياة حتى افترقا، وتخاصما، وتقاتلا؟". وينزاح المحكي الى تبيان سبب النزاع، عائدا الى محوره المكاني "التلال" كحفرة توترية تجتمع فيها مكونات الصراع، وتنتشر منها على جسد القصة، كما ان هذه الفجوة، من ناحية ثانية، شكلت حقل توليد لحدث الذاكرة الذاتية والذاكرة الآنية وحدث الذاكرة المكانية، ومن هذا الحق تكونت ذاكرة النص المتحركة بين الأغراب وشخصية «زاهر» وآثار البشر القدامي المدفونة تحت تلك التلال، حيث أصبح «زاهر» يبيعها للأغراب سرا، فيهربها هؤلاء من هذه القرية ــ الوطن. "كان ثمة بشر قدامي هنا. أسرفوا في الملذات والخطايا، لم يردعهم شيء، وجاءتهم بينات. فما اتعظوا ولا تابوا، فنزلت عليهم الصواعق من السماء، فهلكوا في بيوتهم التي تحولت الى تلال من الحجر والعظام".

   مشهدية تسبر في الزمن وتضيف امتدادا غوريا  لزمن القصة جاعلة منه ذاكرة مكانية تخفي في بنيتها مؤشرا نذيرا يقبل الاسقاط على زمنيتنا الراهنة بكل صعدها الحياتية.. ولا تلبث حركة انتشال حدث من حدث، ذاكرة من ذاكرة ان تنعطف بلغتها نحو حواس ومشاعر الشخصيتين «محسن/زاهر» موضحة الفروق التي بينهما: "وقد أصيب هو ــ المقصود «محسن» ــ برعدات مخيفة، حين طالع احشاء الأمهات المتفتتة والمهترئة والحاضنة للأجنة، ومن الجماجم المذعورة..

   وكأنه ينصت حينئذ لتلك الصواعق السماوية الضارية، وهي تدك الفضاء، وتميد بالأرض..

   لكن «زاهر» لم يكن يسمع الانفجارات الالهية العلوية، ولا صرخات المنابر، بل يحدق مذهولا في الصناديق الممتلئة بالقطع الثمينة، ويحملها ببطء الى سيارة الأغراب".

   وتتنافر سلوكات الشخصيتين بشكل متواز مع تغيرات البنية الاجتماعية والعمرانية مع تغيرات منحنى الأخلاق وتدنيه حتى اختراقه لحرمات الأموات: "التلال راحت تذوب في التدفق المحموم للمنازل، بطونها تبقر، وثرواتها تختفي في الجيوب والعروق والأرواح.. أسنان الموتى تتألق في الأحياء، وأزرتهم وحليهم تسطع في الصدور والصور. غابة التلال المترامية حتى الأفق اللامنظور تكتسح بالأزاميل والمجارف والتراكتورات العملاقة.. الرجال يقودون الآلات وهي تحصد الرمل والحجر والعبرة. والبيوت الملونة الملعونة تنبت فوق القبور، وتحتل قاعات وأسرّة المصعوقين".

   وتستمر انكسارات البنى والنفوس المتسترة بــ(الايمان)، وتمثلها شخصية «زاهر»: "يصيح في الناس: عم الكفر والفساد"، وتظهر نغمة حوارية سريعة بين الشخصيتين، فيها يدعو «زاهر» البطل «محسن» الى التفاوض، وحين يرفض ذلك، يهينه وتبدأ بينهما الشتائم، وبعدها يكشف محسن حقيقة زاهر "أنت فتحت قبور الكفار ونهبت منازل المؤمنين" تتجه بنية القص إلى تقنية (الحلم) لتنجز مفارقة مستقبلية ينقطع فيها زمن الذاكرة ويبدأ منها زمن المخيلة كمفاعل كاشف لما سيحدث "وبدت رؤى غريبة تراوده في المنام، فيجد نفسه في دوحة غناء، وبغتة يملأها حريق عات، وتتحول الأشجار الى أعود ودخان.. ويسمع أصواتا تناديه من بعيد، وثمة رجل يدعوه الى ملاقاته في البرية، ويجد شبحا هناك يدعوه الى دخول مغارة. وحين دخل فيها تساقطت عليه أحجار، لكنه نجا بأعجوبة". يتعامد منصوص هذا الحلم مع مجال حلمي آخر، التبست فيه أزمنة الذاكرة وتكثفت فيه أنسجة النص، مما يجعلنا نعتبره  فجوة توترية مقابلة لفجوة التوتر المكاني، أيضا، لنا أن نعتبر هذا المجال ــ الفجوة: الجملة ــ الصورة، ذات الحيوية المتناغمة التي ينقطع في آخرها المحكي الذاكراتي والمحكي الحلمي، ليتصل بانقطاعه الأول الذي ابتدأت منه القصة لحظتها الحاضرة السابقة للمفارقة الاسترجاعية الأولى: "ومنذ تلك اللحظة راح حلمه الأخير يتجدد في كل ليلة. ذاك الملاك البهي كان يهمس في قلبه بغمغمة غريبة. كانت القبور تتفتح، وتظهر الهياكل المحروقة بالزمن، وومضات البشر فراشات عصور ذائبة في التنور، يجد ثقبا في صدره، ويرى نفسه يترنح في الهوة وينهال عليه التراب، ويذوب، ويداه ترتفعان بين الرمل سياجا أو غصنا" وتبدأ بذلك المفارقة الأخيرة بقصة، حيث يلتئم السرد المتقطع راجعا الى لحظته الحاضرة الموزعة على ثلاث مسافات "الطريق/الظلمات/الانتظار"، فتنبثق سيارة «زاهر» ويطلق «محسن» الرصاص، الا أن الموت يعبر من حلم محسن الى جسده: "يده تمسك الآلة الباردة. يطلق النار وهو يكبّر، لكن رصاصاته لا تثقب الحديد ولا الزجاج... تندفع اليه ــ طبعا السيارة ــ وجسدها الساخن يحضنه بقسوة ويوغله في شقوق التل وحفره". ص(98).

   الملاحظ ان الشخصية الاسنادية «زاهر» توازت من حيث الفاعلية مع الشخصية الرئيسة «محسن» رغم بروزها الغالب من ذاكرة البطل.

   من التكثيف كأوالية أسية، وكمركز لدوائر الايقاع السردي تنبثق شبكة رموز ظاهرة ومستمرة، هي بدورها تتمتع بوظيفة فنية لا يتقنها الا المبدع. تشكل شبكة الرموز في قصص «جنون النخيل» خلفية فاعلة تتحرك مع آثار البنية من السطح الى العمق إلى علائق النص، منشطة بذلك أولية التكثيف بعلاماتها وشخوصها وحواراتها وتقاطعات بنياتها واتصالاتها، ويتم ايقاع التنشيط الرمزي عن طريق تحويل داخلي تتشابه فيه ملامح العلاقات حيط وبعد جوّاني وغايات ومقاصد تمثلها (كرموز ظاهرة) بعض شخوص القصص التي تنتج سلوكياتها ضمن بوتقة مجازية أشبه بالمرايا المتعاكسة، وتنقسم هذه (الرموز ــ الشخوص) الى فئتين:

(1) فئة السلوك غير الطبيعي، الاستغلالي، الظالم، الخائن، الخ.. في هذا التموضع اللاأخلاقي نجد تحويلية العلاقة «كمال» في قصة «بعد الانفجار» تتفرع إلى عدة شخوص:

     1ــ «حبيب» في قصة «الاخوان».

     2ــ «الملك» في قصة «شهوة الدم».

     3ــ «خالد» في قصة «ياقوت».

     4ــ بطل قصة «جنون النخيل» المنسرد بضمير الغائب (هو).

     5ــ «ظبية» ثم «أمينة» في قصة «رجب وأمينة».

     6ــ «زاهر» في قصة «عند التلال».

     7ــ (امرأة المستنقع) في قصة «الأم والموت».

     8ــ (لشخص الآمر ــ المعتم اللانهائي) في قصة «النفق».

     (2) فئة السلوك النقيض لشخوص الفئة الاولى، وهي غاليا ما تكون العلامة الموازية لها، بحيث ينتج الصراع بكل تقلباته وفضاءاته درامية المحكيين:(الواقعي) و(الفني):

     1ــ «حسن» في قصة «بعد الانفجار».

     2ــ «جعفر» في قصة «الأخوان». 

     3ــ (الطبيب/الفتاة/الخدم/البستانيين/المارة/جميع ناس المملكة) في قصة «شهوة الدم».

     4ــ «ياقوت» في قصة «ياقوت».

     5ــ (الرجل العجوز/النساء الثلاث/النخيل/الأرض) في قصة «جنون النخيل».

     6ــ «رجب» في قصة «رجب وأمينة».

     7ــ «محسن» في قصة «عند التلال».

     8ــ (سكان العدامة) في قصة «الأم والموت».

     9ــ (كائن النفق) في قصة « النفق».

   وهناك شخصية قصة «الموت لأكثر من مرة» التي تعاني من ازدواج الفئتين فهي (ظالمة) و(مظلومة) في آن معا.

   أما بالنسبة الى الرموز المستترة، فاننا نتبينها من خلال ايحاءات علاماتية يجسدها تغير الحياة الخارجي المؤثر في البنية النفسية للانسان، وذلك في قصة «النوارس تغادر المدينة»: "تبدل كل شيء فجأة. لم يعد جسده له. عظامه تصرصر فوق الخشب، وبصره اضمحل وغدا الشاطئ بعيداً، كله صخور وآلات وأبنية حادة، وتشكلت مزبلة ومقبرة كبيرة من الورق والخشب والنوارس النافقة والقار وملابس الموتى، والمتسكعين الغرباء، والمدمنين الذين يفاجئونه في عوداته المسائية سارقين صيده!" ص 71.

   وتجسده شهوة العنف والطغيان والسواد والخمرة في قصة «شهوة الدم» كما يجسد هذه الرموز الاستتارية (النفاق والخداع والكذب) ومحمولات هذه المداليل على الدوال: (صاحب المجلة/النساء/الرجال/ظروف/الكاتب) في قصة «الميلاد»: "مدير مجلة ذو وجه صالح لكل الفصول والأغلفة، وفتاة جميلة وضعت قدميها المشتعلتين ضياء وفتنة أمام وجهه، ونصف دستة من الرجال المعتقين في تفتيت اللغة ولحوم الخراف، وثلاث سيدات مرحات يبعدن أبدا الخريف" ص 117.

   تتركب هذه الرموز بنوعيها (الظاهرة) و(الخفية) منجزة تفاعلها الصراعي في القصص. وبناء على هذا التحليل بمكننا اعتبارها (فجوة توترية لا مرئية) تساهم في ارتفاع ايقاع السرد، وتمنحه حقلا تأويليا يتداخل مع الحقول الأخرى.

   تتخذ مرايا الترميز ظهورات سردية متعددة كالمشهدية مثلا قصة «الاخوان» وكالمسرحية، مثلا قصة «الموت لأكثر من مرة واحدة» وكالخرافة، مثلا العناوين: (النفق/ شهوة الدم/ جنون النخيل/ الأم والموت). التي تجنح فيها المخيلة الى تفكيك ظلال اللحظة الكتوبة، وتركيبها في آنساق لا مألوفة تنجز فضاءاتها المختلفة (الزمكانية) الدلالية/ المنظورية/ النفسية) كوحدة يتعدد فيها المقول السردي، فهو يظهر كحيرة للمعاش ترتفع إلى أقصى امكاناتها في تقزيم الكائن وتوسيع المعتم في قصة «النفق»، وهي تبرز كسرد من سرد في قصة «الأم والموت» بحيث يصبح النسيج الحاكي جزءا من الذاكرة المحكية وتتصاعد دائرة المعاش، لتعبر طور المتغيرات، متحولة الى حلم يحول أبعاده الى تجسيد فعلي ــ رمزي في قصة «النوارس تغادر المدينة»: "الأرض تتقلقل، والعلبة الخشبية تهتز، وتتصدع، والنوارس تصطدم بالجدران، تقضمها أسياخ الحديد، والعجلات، ويغفو رائياً نفسه فتىً يجدف في الماء، وسحابات بيض تفتتُ المرئيات، ويتحول إلى طائر يصفق بجناحيه في فضاء غريب مرير" ص 72.

   تغترب اللحظة المدونة كاغتراب الوجدانات والقيم والبراءة والحلم والموت والحياة، وأيضا تغترب الأرض.. لكن اغتراب الأرض عن الأرض لا يعرف السكون والخضوع والذل، ولا يجهل كيف يفعل أرواحه، فيزلزلها، ويعلو مع مكنوناتها متصادما كالرموز، وهذا ما تنبني عليه قصة «جنون النخيل» المنتسجة عبر اربعة مقاطع يتقطع فيها السرد مستندا الى (المفارقة السبقية) المتنقلة من حدثية اللحظة الماضية ثم العودة الى حدثية اللحظة الحاضرة التي تنختم فيها القصة.

   ينبني محكي النص على انقطاع توليدي الأحداث، تحكمة زاوية الرؤية من خلف، وتسرده محكيات خرافية، وذاكرة اسطورية، يرويها القاص «عبدالله خليفة» مسقطا فاعليتها الشكلية على شخصية البطل (ضمير الغائب: هو)، ومستبدلا هذا البطل بشخصية رئيسة أخرى مستترة، وهي (النخيل) كرمز يتحرك في البنيتين: السطحية والعمقى، متملصا من ميكانيزماتها الى مكوناته الفجوية لحظة الانفجار والزلزلة.

   تبدأ القصة بوصف اشاري للزمكانية، يشبع حواسها بحدث غائب، يحصر عبر مؤشرات الخراب (الليل/السمك الميت/الأشباح الساكنة/ الرماد المنتشر/ الغبار/الصمت المفاجئ/ انقطاع أصوات المغنين/سقوط أو هروب الموجودين حول بركة السباحة/رجرجة الموج/ البحر الغاضب/ الرمل المهاجم/حركة الموت وهي تتناوب على المباني والشخوص) وينتهي المقطع الأول باستفهام "ماذا يجري/هل أدت عاصفة البحر والرمال إلى سقوط المباني؟ ما هي تلك الكتل المخيفة التي تتحرك في الظلام؟" ص 60.

   ويأتي المطقع الثاني كفاصل فلاشباكي، يرتد فيها وقع القص إلى الخلف، حيث يستريح توتر المقطع الأول في تلك النقطة التي تسبق حدوثه، فيصف لنا الراوي محيط وأجواء وبيئة وسلوكيات الشخصية اللاهثة وراء المال والخراب والفسق وقطع الأشجار: "وهو على طاولته الباذخة، يأكل الاهتزازات البيضاء الأخيرة للسرطانات، ويسبح مع نافورة النبيذ بين النجوم والعيون.

   كان مرتعشاً من الطقس والبورصة الرصينة.

   جرتهُ شقراءُ إلى حلبة الرقص، ودغدغته بغدائرها ونسائمها، لكنه وزع ابتساماته على جميع الغزالات، وصعد إلى جناحه في الطابق العاشر، وأبصر الساحل والبحر والبرية الممتدة، وغابة الأشجار الغريبة التي أحضرها من القارات الخمس، فبدت تُحيط بالأبنية مثل القبعة الخضراء الكبيرة.

   أرتمى على السرير، والجدران كلها سكرى بالموسيقى الخافتة / ورمى الأعشاش في المزابل، وأطلق أسنان المناشير في لحم الشجر".

     وينقطع الفضاء الزمني مبتعدا الى رمزه البطل (النخيل) الذي ينكتب كسيرة للشجر والأرض وروح الجذور، حيث يتماوج السرد من محكيه الواقعي الى محكيه الخرافي مضاعفا علائق التواصل في شبكة الرمز وابعاده الزمكانية، موسعا الانزياح بين الدال والمدلول، ومفاعلا هذا المجال مع المعامل المخيلتي: "كانت النخيل ذوات وجوه آدمية، متكلمة، متجهمة، تتغلغل جذوعها في مياه البحر، وتبدو كقطيع واسع من المردة المحبوسين"، ويبدأ الرمز عبر التشخيص النصي في الدخول الى ملامحه الغريبة، فيتحول إلى ذاكرة زمنية قديمة مرتبطة بــ(آدم)، فيها من الأحلام مثلما فيها من القوة الخارقة، والطاقة اللامألوفة.. وكل هذه التحولات تبرز في المتن عن طريق مقول (الفلاح العجوز) صاح حقل النخل الذي اشترته الشخصية الشكلية بعدما ارشدتها اليه ثلاث نسوة ملفعات بالسواد.. "

   "حكى له العجوز قصصاً انتشرت مثل الأحلام في حضرة النخل المتنفس عصافير ونسمات.

   زعم أنه نخل عتيق، يعود غرسه إلى آدم. كانت نواة أولى من بلح وحشي ألقاها في المياه، وكان البحر وقتذاك يملأ كل هذه الأرض، فراحت النخيل تصنع اليابسة، وينتشر طلعها فوق البحر، فيبزغ البشر والزهر والثمر" ص 62.

     وتتكاثر طاقة النخيل بدهشة وسحر بعدها يوحي بها السرد وكأنها الأصل البدئي لوجود الكائنات.. يجن النخيل متدفقات بخيراته وعذقه، مستتبعا ذلك تدفق المال في جيب البطل، فتزداد ثروته ومبانيه وشاحناته وخدمه وخزائنه.

     وحين انتشر النخيل كغابة جهنمية تتوحش ممتدة في كل مكان، يعزم صاحبها على ابادتها: "، ثم راحت أسنان الحديد الشرهة تنكسر، وتتفجر أسلاك الكهرباء بغتة وتنطفئ، ويُصاب العمال بنوبات صرع ودوار، فيرون في الليل مشاهد أقنعة تتكلم وثلاث ساحرات يخترقن السماء". وتتجلى بذلك اسباب حدث بداية القصة، فتتلاشى العلائق الفاصلة بين المحكيات المتنوعة، لتحل محلها مدارات تتصل، لكن ضمن علائق تتقطع كمفارفات جزئية تشكل مفارقة كبرى هي بدورها صدى لمفارقة اللحظتين (الحاضرة) و(الماضية)، وبامكاننا تقسيم هذه (المفارقة الصدى) أو (المفارقة الظل) الى:

   1 ــ أثر الابادة المتمشهد مثل لوحة اطرت الرمز واعادته الى سيرته الأولى، رابطة بين )الكآبة( كإنذار وبين )الحدث الدراماتيكي الأول(: "لكن الإبادة كانت كبيرة، وأُرجع النخل إلى دائرته المحصورة بين البحر والساحل، وبدت الجذور الضخمة المقطوعة مثل أفاع هائلة، وحبال سرة للأرض متفجرة بالدم والرماد، وغدت أعشاش الطيور مثل منازل مهروسة، وغاص المشهد البحري في رمل منتشٍ، وتلفع البحر بغلالة من الزيت المشتعل، وجاء ضوء النجوم ككحل في عين عجوز".

 2   ــ الأثر المتولد عن أثر الابادة المنعكس عبر بوتقتين: الأولى: بوتقة تغيرات الفضاء الجغرافي، والمناخي ومنتوجها: (الاضطرابات الطبيعية ــ الطبيعية). والثانية: بوتقة الاستعادة التي تسبح فيها ذاكرة الشخصية: "ظهرت له أيام صباه مثل عربة من نور تسير نحو القمر، ومذاق كسرات الخبز اليابسة في الحقول مثل الشهد. وتضخمت الكآبة حتى غدت أيامه زجاجات ممتلئة ففارغة، واعتزم أن يستشير الأطباء فلم يفهموه حتى راح يقدم في الليالي الدامسة النذور والابتهالات إلى النخيل المنزوي والصامت في البحر".

 3   ــ أثر اللاوعي المتمثل بـ(الحلم) وتجسيده لما سيحدث عن طريق رموز تستعيدها ذاكرة النص، وتوظفها ضمن نسقية جديدة، غائيتها الكشف عن اللحظة الحديثة، وتتشابك هذه الرموز فيما بينها، ولا تطفو الا من خلال الرموز ذاتها: (الرجل العجوز/الرؤوس المطبوخة/الرؤوس المقطوعة/النسوة الثلاث): "ورأى فيما يرى النائم، الرجل العجوز يتقدم إليه، وهو يحملُ قدراً مليئاً بالرؤوس المطبوخة. صاح به: أنقذني! فلم يهتم به. وراحت الرؤوس المقطوعة تحدق فيه ثم تتكلم. قال العجوز: ستأتيك نذري. وكررها ثلاثاً حتى ذاب في البخار الساخن اللافح".

   وتمر على الحلم ايام، حين يخبره المهندس الشاب عن تشقق الأرض، لكنه لم يهتم بكلامه ويصرفه من الخدمة.

   وبعدها تحدث هزة عنيفة، ثم تهدأ، وفجأة يتذكر الحلم، ينطلق الى البرية، لكنه "وعندما عاد رأى الرجل العجوز والنسوة الثلاث ذوات الأردية القاتمة، زبائنَ في الفندق، فسجد شاكراً".

    4ــ أثر (الحدث) الذي حدث ولم يحدث، وتمثله عناصر (أثر الحلم) التي تحضر بين (الهجس) و(الخوف) كبعد احتمالي يتسرب من الوجود الى الغياب، ومن الغياب الى الوجود مصطدما بقابلية الشهور وبعدم الظهور، نازحا بحركيته تلك الى تكوين خرافي ينتهي به المقطع الثالث: "هناك لحظات من الهجس والخوف والذهول تكتنفه. فالزجاجات صارت هواءً، والشاشات تصاب بالإغماء، وثمة نسوة يمشين في الفضاء، ولا أحد يتكلم من النزلاء، وينزل ثلج في القاعة الكبرى، فيندفع إلى الكشف باحثاً عن اسم الرجل العجوز وهويات نسائه الثلاث، فلا يجد لهم أثراً، وينكر الموظفون وجودهم..!". 

   وتجتمع هذه الاثار في نقطة اتصال المفارقة الكلية، حيث يعود البناء السردي الى لحظته الحاضرة، والى مكانته الأولى (الفندق) والى (الحدث المحوري) الذي أزاح ضباب الدلالات، ليتحول من حيزه الغائم الى حيزه الواضح، وذلك بعد حدوث الزلزلة وتمرد النخيل والأرض وانبثاق الحلم: "والآن هو في غرفته محاصر بالأشباح والضجة. وانطفأت هواتفه ولم تعد سوى الظلمة والريح مطبقتين على الأشياء، والمصباح اليدوي الذي بحث عنه، لم يجده.

   تحسس طريقه وعثر على الباب. نادى الخدم فسمع جرياً وتصادماً، ورأى السيارات في الأسفل كالحشرات تمد خرطومين من الضوء، ثم تفر هاربة.

   المصعد توقف، والحرارة خانقة، والريح تصفع الأبنية بالتراب، وعليه أن ينزل سلم الطوارئ بين أكداس الأحذية والمصابين والأشياء".

     وتستمر فاعلية الرمز (النخيل) منفتحة على بداية القصة، عن طريق آليتها الفنية صورتين لتركيب العناصر تتداخل وحداتهما كمسننات الحدث الغائب الحاضر: صورة المبنى المتقطع القائم على (المفارقة)، وصورة المبنى التكويري، المبدوءة من خاتمته: "ترنح، ولم يسقط، شاعراً بضربة مؤلمة على ظهره، ثم جاءت هزة مدوية، أخرى، وبحلق في الفضاء مرعوباً، كانت النخيل تنقذف في الريح والغبار والنار وتصطك بالجدران".

   هكذا تنبثق انزياحات السرد من ايقاعاها السري تاركة في قصص «جنون النخيل» لحظة ابداعية تكتب حالتها وظلالها في اللامكتوب المتنامي عبر حداثة التشكل والتجريد ومرايا الجمع الاشكالي المتعاكسة في تمفصلات تقنية توظيف الرمز والحلم والذاكرة والمخيلة والأصوات: (صوت الراوي/صوت المونولوغ/صوت الديالوغ/صوت الايقاع المحكي/صوت وصدى المفارقة)، المنبجسة جميعها من أوالية التكثيف الشعري.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* شاعرة سوريا

** دهشة الساحر/قصص/ط 1/عدد الصفحات 93/دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية 1997.

    (القصص: طريق النبع ـــ الأصنام ـــ الليل والنهار ـــ الأميرة والصعلوك ـــ الترانيم ـــ دهشة الساحر ـــ الصحراء ـــ الجبل البعيد ـــ الأحفاد ـــ نجمة الصباح).

*** جنون النخيل/قصص/ط 1/عدد الصفحات 126 /دار شرقيات، القاهرة 1998.

   (القصص: بعد الانفجار ــ الموت لأكثر من مرة واحدة! ــ الإخوان ــ شهوة الدم ــ ياقوت ــ جنون النخيل ــ النوارس   تغادر المدينة ــ رجب وأمينة ــ عند التلال ــ الأم والموت ــ النفق ــ ميلاد) .

المراجع:

(1)ـ د. حميد لحمداني/بنية النص السردي/ط2/ 1993/المركز الثقافي العربي/ص 74.


العناوين المميّزة

رابط : You Tube

https://www.youtube.com/@AbdullaKhalifaAlbuflasa