«نرصد في كتاباته الشخوص والتحولات والمسكوت عنه اجتماعياً»
«ورد اسمه في قائمة أهم الروائيين العرب الذين تناولوا أدب البحر»
«عكس علاقة شخصياته بالمكان والزمان والآخر»
«تميزت أعماله بالتكثيف وشعرية الدلالة والبنية»
■ القصة العربية في الخليج: تجريبية الاحتمال في قصص «دهشة الساحر»
■ تشخيص البياض في سواد قصص «جنون النخيل»
لا تخفى عن قارئ أهمية أعمال المبدع عبدالله خليفة، المعروف بتلك البنية السردية الناتجة عن عناصر متنوعة، وعوامل متعددة، تتمتع بثيمة موضوعية محورها الحياة والتاريخ والزمان والمكان والحالة النفسية للشخوص، وثيمة فنية تحوّل هذه الذاكرة الذاتية والبحرينية والعربية إلى جماليات تعتمد أدوات ومعايير مختلفة، أبرزها (المونولوج)، و(الحلم)، وهارمونية الإيقاع السردي، وتقاطعها مع الحكائي، ثم انحيازها للاختزال، والوصف الخلاق، وشعرية الدلالة والبنية.
عبدالله خليفة عانى الكثير على صعيد حياته الشخصية، والسيرية، تلك التي يتسرب بعضها من لا وعيه إلى نصوصه، ليرصد العديد من الحالات والشخوص والتحولات، قابضاً بإشارية على المسكوت عنه الاجتماعي والنفسي، كاشفاً عن ذاكرة الموج والنار والسفر والأبواب والجدران المغلقة والظلم المستشري، والظلام المهيمن في العقول والأمكنة على مرّ الأزمنة، وأحال بضوء من الأبجدية الحياة إلى منصة يتفاعل فيها «الضباب» مع «محمد العوّاد» مع «المرأة» مع «فيّ» و«كوكب» ومع بقية شخوصه الإنسانية والرمزية والخرافية، ومحيطها وأحداثها وتراجيديتها المتصارعة، ونشيد بحرها الذي يعبر من الرمال إلى الموانئ دون شواطئ نفسية، تمنح الإنسان لحظةً مستقرة، أو مرساة تضعه بهدوء في مكان ما قابل للتأمل، أو للرحيل.
لم يتخلّ عبدالله خليفة عن الصحافة، والعمل فيها، ظل حتى لحظة وفاته يكتب العمود الصحافي في الجريدة التي يعمل فيها مشرفاً على القسم الثقافي بــ(أخبار الخليج)، كما أنه كان مفكراً وناقداً، كثير النتاج والنشر إلكترونياً وورقياً، ويرى الكلمة بأبعاد إضافية، تماماً، كما كان يرى الحياة موجات عاديات غاديات، ولذلك ورد اسمه ضمن قائمة أهم الروائيين العرب الذين عبروا في كتاباتهم عن (أدب البحر/ روائياً)، مع عدد آخر من الروائيين، منهم: حنا مينه، جبرا إبراهيم جبرا، حيدر حيدر.
إذاً، هو البحر بدلالاته الواسعة، وحركته التي لا تمكث ولا ترحل، يموج في أغلب أعمال عبدالله خليفة، لا سيما وهي تبرز في أجزاء «الينابيع: الصوت/ الماء الأسود/ الفيضان»، الساردة بشعرية ورومانسية وتأريخية وفلكلورية لمرحلة هامة من مراحل البحرين، وحياتها بين السفن واللؤلؤ ومحاربة الاستعمار البريطاني، وانعكاساتها على حياة الشخوص وعلاقتهم بالمكان والزمان والذات والآخر، وما تختزنه الشخوص من دلالات أخرى، تذكّرنا بالموروث الإنساني العالمي، فمثلاً «محمد العوّاد» المتمرد على الأب والعائلة والتقاليد يُضمر بمفهوم ما الابن الميثولوجي المتمرد على أبيه في موروث الشعوب كالإلياذة والأوديسا، وما أضمرته عرافة دلفي، وتظهر آلة (العود) الوترية الموسيقية بدل (قيثارة هوميروس)، الآلة الوترية الموسيقية، وتجوب الأغاني والمخيلة والذات أمكان كثيرة، منها: المنامة، المحرق، دمشق، دلهي، عابرة الأسوار، منجزة الأسوار، حاكية عن (التحولات) منذ اللؤلؤ، والوقوف ضد الجنرال ميجر، وصولاً إلى مرحلة اكتشاف النفط، ثم الرفاهية، ولا تخلو مسافة الفضاء المكتوب من الدرامية الوجدانية الخيالية والواقعية بين «العواد» و«فيّ» و«مي»، كما لا تخلو شخصياتها من اللجوء إلى التأمل، ومن زاوية رؤيوية أخرى، لا تخلو أعماله من البنية الشعرية المتسارعة المشتبكة مع إيقاعات السرد المتقاطع مع الحكاية، الهارب إلى أطياف متفاوتة، تتجول في الأعماق وكأنها موجات تائهات، لتصطدم بالواقع، مما يُشعر المتلقي بأنه أمام أناس حقيقيين، فيصاحب (الهبل) و(الخبل) و(الجنون)، وتارة أخرى، يرافق كائنات تجمع المفارقات النفسية والاجتماعية، وتظهر بطريقة ممسوسة لا حقيقية ولا وهمية، مثل شخصية «ياسين كافود» في رواية «تماثيل»: "كان ياسين كافود غريباً، وظهر، فجأة، إلينا، وكأنه ممسوس، صحيح أنه كان طفلاً نزقاً، كثير الحب للأكل وسرقة البيض والكعك من الدكاكين، لكن، أن يظهر، بغتة، هادئاً، صامتاً، وينزوي عند الشاطئ، ويتوارى في غرفته، ويدمن القراءة، فهذه كلها كانت علامات لدينا على الخبل". ولا يخلو أسلوبه من السخرية المثقفة الموظفة بهدف نقدي، تراجيدي يضمر الكوميدي، ومنها وصية المسؤول في العمل: "دعك من كل هذه السوالف، وركز على قبض المعاش آخر الشهر وكفى بالله حسيباً"، ثم يتابع خليفة الوصف الكاريكاتيري لشخصية هذا المسؤول: "ثم طوى بشته تحت ساعده وخرج مثل طائر الفينيق"، ولربما، لو لم يكن الوصف عميقاً، وذا دلالة أسطورية، موظفة بطريقة لا بدّ منها، لكان الوصف عادياً جداً، لكن حضوره برمزية وتشبيه ودلالات (طائر الفينيق) منحت الجملة الروائية قوتها، (وفلاشباكيتها) وحركتها.
وتتوالى الأحداث عبر فصول التماثيل الـ(42)، ضمن بنيات حكائية متنوعة، سيرية، وحوارية، ومونولوجية، وكاريكاتيرية، وناقدة، وهازئة، ولكنها جميعها تشير، وبوضوح، إلى البنية الجوانية الذاتية والمجتمعية، وما فيها من فساد أخلاقي واجتماعي ونفسي، وبالمقابل، بما فيها من طموحات وأحلام ومحاولة للارتقاء، وظهور بعض الظواهر الجديدة ابتداءً من (1950م)، لا سيما بعد تحوّل البحرين إلى المباني البرجية، مستقطبة الأيادي المهاجرة إليها بهدف العمل، متوقفة عند التناقضات الظاهرة والباطنة للشخوص، وتحولها السلبي السالب، حيث يتحول «كافود» من مؤلف ثائر على الفاسد إلى سارق للآثار، وصاحب مؤسسة إعلامية ودار نشر، تزيف وسائلها تبعاً لأهدافها، وتتناسل الأحداث، متواصلة، منقطعة، وكأنها حكاية داخل حكاية، ضمن تداخُلٍ فني يعكس الحساسية الجديدة للمقول والمكتوب، ليشدّ الفضول القارئ بجاذبية وتشويقية، تعتمد على (المونولوج) المتحول إلى (ديالوج)، فتتحاور أرواح الشخوص مع ذواتها، ومحيطها الموضوعي، والقارئ الذي لا ينفصل عن الاشتراك في كتابة الرواية، لا سيما وأن حياة «كافود» تبدو غير منتهية، لأسباب عديدة، منها: مساهمة القارئ في إنجازها، وثانياً، رغبة من المؤلف بتركه النهاية مفتوحة لأنها سيرة شخص لا تنتهي، قابلة للتجسيد في كل زمان ومكان، ومنها: تعدّد الخاتمة، وإحالتها إلى ذاكرة القارئ وبداية الرواية.
تستوقفنا روايته «عنترة يعود إلى الجزيرة» لما فيها من ترائيات لعودة الجاهلية والقبلية والظلامية الجاهلة المستترة بالدين، وكأنه كان يرى ويشير وينذر.
ولا بدّ من أن نشير إلى رأيه النقدي في الرواية الخليجية التي رآها غير متجذرة في الأرض بعدُ كما يجب، لأسباب عديدة، أهمها الوعي الروائي الإبداعي لا كمية النشر، إضافة إلى حاجة المنتوج إلى كل من: القراء، الوسائل الإعلامية المهتمة، والنقد الموضوعي.
ومثلماً موجات البحر متسلسلة وليست هي في الآن ذاته، كونها تتحرك، تتبدل، تتناثر، تغور في الأعماق ثم تميل مع المدّ والجزر، كذلك، كانت أسلوبيته التي تتميز بتشابكيتها مع الذاكرة الخرافية، الواقعية، الإنسانية، الحلمية، واللغوية ذات الأبعاد الجمالية المختلفة.
■ القصة العربية في الخليج: تجريبية الاحتمال في قصص «دهشة الساحر»**
تنبثق علاقة السرد في المجموعة كعلاقة بالمدلول، أي السرد يحيل الوصف على مكنوناته كحديقة ظلالية لا نلمس منها إلا الحفيف الزمكاني المتنقل من اللحظة الواقعية الى اللحظة المتخيلة.
وما بين حركتي الانتقال (من الواقع الى المتخيل) ثم (من المتخيل الى الواقع الذي توحي به مستويات النص) تبرز الحدثية كظل للشخصيات التي غالبا هي شخصيات اضمارية تتصارع مع دواخلها المستترة عابرة من البعد الموضوعي الى الجواني الذي يحوله القاص الى موضوعي نصي ينشر حوافره المخيلتية بهيئة (جان) او بهيئة أعماق مشخصة تخرج من اللامرئي لتدخل عالم الكلمات وتتوالد، أو تتبعثر، أو يختزل بعضها بعضا وذلك عن طريق العناصر الثلاثية المتلاحمة في النص (الحلم. المخيلة/تداخلات الزمكانية).
1ــ الذاكرة الأولى/الذاكرة الاخيرة:
ينساب الأثر النفسي استرجاعا في قصتي «طريق النبع» و«الأصنام» راسما علاقته الأيقونية في المكان "الطريق المؤدية الى النبع" في القصة الأولى، و"الحقل" في القصة الثانية. ومن هذا الفضاء كمكانية أولية للنص، تبدأ المؤشرات بالظهور مرتكزة على الشخوص ومتوزعة في النص على الرموز "الهياكل العظمية" في قصة «طريق النبع» و"جوف التربة" في قصة «الاصنام».
طريق النبع/الذاكرة الأولى:
تنفرج دلالات جملة الابتداء "يتذكر جزيرة «النبي صالح» وهي محاطة بغلالة من الضوء الاخضر" عن تداعيات فعل التذكر وعن ايحاءاتها المكانية، لتتدرج في المسافة المتعينة "الطريق/الجزيرة/النبع" وتتحول في المسافة اللامتعيّنة (الحيز النفسي: الآني والاسترجاعي). ومن نقطة الالتقاء بين هاتين المسافتين تنشأ علائق محكمة بالذاكرة الأولى للشخصية، حيث (الفجوة القصصية) المنبوشة عبر مقطعين رقَّمهما القاص «عبدالله خليفة» ليترك ثغرة بيضاء اضافية قابلة للامتلاء بما ينجزه فعل (التذكر) الحافل بالألون "ضوء أخضر/نخيل/سماء زرقاء/رمل ابيض/شريط من السحر/جنة أزلية/الصخور/الماء
المتلألئ/العصافير/الدماء/البيوت الملونة/القرميد الأحمر..".
شبكة من الاسقاطات المتجولة بين الجزيرة الناهضة من الذاكرة وبين الحيز المتحرك مع السيرة والسير في الطريق، لا تلبث أن تحيلنا من مجازاتها وحواسها غير المتخيلة عن الشعرية الى عنوان القصة «طريق النبع» الذي نتبين كيف يتحول من عنوان الى (رمز) ينزح عن فضائه الأول (المكانية الخارجية المشكلة لبروز عناصر النص) الى فضائه الأعمق (الذاكرة الأولى) للشخصية المتخذة مسارا (زمنيا). وهذا ما يركبه لنا مشهدان متباعدان في القص، الا انهما يشيران الى ذات الاحتمال (الزمني) الذي رغبت في ايقافه الشخصية:
1 ــ مشهد المكانية المتكون كرحم للنسيج القصصي: "كان النبع يتدفق من تحت الصخور والتراب، زلالياً، مضيئاً، ذا أصوات ناعمة، يكوِّن غرفة واسعة، ثم يتدفق في مجرى عريض واسع، تحف به نخلات باسقات، شديدات الطول والجمال، ذوات أقراط مذهبة، وحشائش كثيفة كأنها روائح امرأة فاتنة وليل مفعم بالنشوة".
2 ــ تحول المشهد المكاني الى زماني يتخارج مع الرغبة الداخلية للشخصية: "يتذكر، يتذكر بألم ومرارة، كما لو أنه يود أن يتجمد مجرى الزمن هنا، أو أن ثمة كشافاً هائلاً مسلطاً على تلك اللحظات.
أبوه يغرق في نومه، وهو يكتشف ذلك الصندوق، والذهب المخبأ".
وتنزح هذه الشبكة بدورها الى الخاتمة التي ارتكز عليها النص في تحولاته المسكونة بالموت والحياة وبالانبعاث المفاجىء الذي تتشخص فيه الهياكل العظيمة لتناور على طريقة خروجها من ذاكرة الشخصية الى الواقع الملموس حيث (المكان المقصود بذاكرتيه الماضية والحالية) الى ذاكرة النص والنبع والهرب.
"انتبه إلى وجود هيكلين عظميين عند النبع.
جَثَمَ، ولم يسعفه جسمه الضخم، وكرشه المتهدل، أن ينحني ويلتقط حفنة من ماء.
أحد الهيكلين العظميين تحرك، وغرف بكأسه ماءً وتقدم إليه".
وبين شعورين متناقضين (الفرح ثم الخوف) تتموضع شخصية البطل لتزيد من اشكاليات أبعادها. فبعدما تتناول الكأس المعدني المهترئ من الهيكل العظمي الأول، وبعدما تشرب ماء عذبا عميقا، نجدها تحدق في (الرجل الاخر) حيث تتعرف الى ملامحه الغائرة في الذاكرة والعائدة مع الزمن الحاضر لتكشف انه (هو الرجل النخلة الطيب) الذي دفع قارب البطل المحمل بالهدايا والذهب. تتركب شخصية (الرجل الطيب) المشبه بالنخلة من ثلاثة أبعاد: (الهيكل/الرجل. الهيكل+عرق الحياة الاخير): "هو خط دقيق واحد من عظم فوقه جلد متغضن. يد شاحبة هي عرق أخير للحياة. رأسه صلعاء ذات شعر نادر بلون الطحين. ثمة ماعزٍ ضار التهم عشبه" ولا تتحرك الدينامية السردية من احتمالات الشخصية الثانوية (الرجل النخلة) غلا لتعود بطريقة مموهة الى الشخصية الرئيسة الاشكالية. وتتم كيفية التلاقي من خلال تدوير الابعاد الحاضرة الغائبة بين الشخصيتين. وهذا ما يؤكده المشهد اللاحق لـ(عرق الحياة الاخير) ولما اختلط فيه من بعد ثيمة: "ثمة ماعزٍ ضار التهم عشبه": "جامد، متصلد في ذاته، انقطع عن اللغة والماء والأصوات. حدق فيه عساه أن يعرفه ويقتله. حرك يديه أمام وجهه لكنه بلا روح. تمنى أن يبصره فقط.." وبهذا تكون البنية قد كست دراميتها ذاكرة، والذاكرة أشباحا وهياكل، ثم كست الهياكل لحما وحضورا يشوش لحظته الغائبة المتجسدة في الخاتمة كاحتمال يدعو الشخصية الى الهرب:
"تعكز العجوزان على جسده، ساروا ببطء في طريق الجذوع والأشباح.
قال العجوز:
ـــ خرج من السجن تواً. قتل زوجته التي سرقت ذهبه وأعطته لرجل من القرية.
لم يستطع أن يحمل جثثهم. فرّ مذعوراً إلى سياته). ومع الفرار الى السيارة، أو الى الذاكرة، أو الى الواقع، تخرج الذاكرة الأولى للشخصية عن التوقعات، مكثفة الحياة والموت ومسافة التغير الزمكانية لـ(جزيرة النبي صالح) كدلالة على ما يحدث في كل أرض.
الأصنام/الذاكرة الأخيرة:
تدور أحداث قصة «الأصنام» حول اكتشاف «مهدي» في حقله آثارا تاريخيا(أصنام/ جرّات/كؤوس/ سهام..)، وحول ما لحق هذا الاكتشاف من تواجد الأثري المنقّب في أحشاء الأرض وما أصاب الحقل من تعب "لكن السطر الأخضر الترابي لم يعد له. كان مدججاً بالسلاح والوجوه والملابس الغريبة. أناسٌ يحيطون بالأرض وآخرون تغلغلوا فيها، وآخرون يسيجون الحقل بأسلاك شائكة". هذا وضع الحقل بعد الاكتشاف الذي كان محورا جذعيا للقصة. لكن قبل أن يؤل الحدث الى طبيعته المتوقعة (وجود الرجل الأثري وحالة التنقيب) كيف صاغ المبدع فنية الحدث بما قبله وبما آل اليه؟
يبدأ النص بداية عادية تنتقل منة الشخصية الى مكانها "اصطدمت جبهة الحاج مهدي وهو يصلي بشيء صلب.
كان حقله الصغير قد توارى بزحف الظلام". ثم تتضاعف ايقاعية المشهد مع وصفيات المكان والحركة والاضاءة والحفرة التي يجدها مهدي. حيث تصبح (الحفرة) مثيرا تختلط فيه طقوس الشخصية مع طقوس المكان وتُشعرنا بتواصل خرافي مع الاشياء تسقطها الصورة الذهبية لـ«مهدي» على الموروث الموجود في (الحفرة) كذاكرة جمعية وعلى الموروث في العمق الانساني للشخصية والذي لا ينفصل عن ابعاد الذاكرة الجمعية الا بما أورده الراوي عن المعاش الحياتي للشخصية التي انعزلت في هذا المكان الذي تحول في النهاية الى (مقبرة) اكتشف فيها تلك الآثار التي يعتبرها ارواحا شريرة وسرا من أسرار الأرض التي لم ينفذ تحذيرات ابيه من اجلها، استخدم القاص المؤشر الفلاشبكي مزدوجة: ذاكرة مهدي العائدة الى صوت ابيه ووصاياه. وذاكرة الأرض الملتحمة من جوفها مع صلصال مهدي والتي يبثّها الراوية كخط بياني اتحدت فيه الشخصية مع الأرض. أما المعلن عن الدلالة المزدوجة، فهو الظرف الراهن الذي يوظفه الراوي ليعكس اللحظة المعاشة كاشفا عن أسرارها ايضا.
1 ــ النظرة المتبادلة للدلالة الازدواجية والمعاكسة من الشخصيتين (مهدي/الأثري):
"كان الأثريُ يرى مهدياً كإحدى المأثورات التي قذفتها التربةُ."
"والفلاحُ يشاهد الرجل كحشرة دائبة التنقيب في جلده".
"يتصور مهدي إن كل ذلك المهرجان قد تم لإنقاذ أرضه، واستخراج الأرواح الشريرة من باطنها، وجعل النخلات مزهرة، وإطلاق سراح الينابيع الصافية، وإلقاء الأصنام في محرقة".
2 ــ تعرية الواقع المتلولب على الدلالة السابقة، وذلك من خلال ما انسرد بعد فعل:
"اعتاد أن تشق المعاولُ أجساد الحقول، وأن تنثر أمعاءها وأيديها عبر الفراغ الشاحب للزمن، وأن تحمل صناديق خاصة تلك الكنوز إلى ما وراء المدن والبحر، صانعة جنات ورافة لمن يحملونها ويبيعونها بعيداً وسراً.
اعتاد على ركض الرجال القرويين وتفتت أقدامهم قرب تلاله الدموية، وكم من مرة نزف وكتب ورقة ليستبدل أحدهم أرضه بقطعة ترابية ضائعة وسط البرية، أو ليحصل على ثمن لكفنه وجنازته".
ويفضح القاص معاناة مهدي الذي اكتشف الآثار:
"لم تبق أية مدخرات في صرة زوجته، والأكل سينفد كله بعد أيام، والرسالة التي حملها دائراً بها على الوزارات والأقسام، تذوبُ من العرق والأختام، وهو حائر، متخثر الأعصاب، زائغ النظرات، في شوارع المدينة، يحضنه مصران قهوة ويلفظه باص مع الغازات/ والدخان/ لم يعد ثمة موطئ قدم لبرسيمه، وعريشه المفتوح صار جريداً ملقىً. وأبناؤه سحبهم من المدارس وغلغلهم في الأسواق والمحاجر والطقوس".
بتلك الدلالة ينتقد القاص الواقع العربي، ويحمّل نصه ذاكرة أخيرة بمسرح اطيافها وهي تخرج من الجسد القصصي، بهيئة مشحونة بالحلم المضاف الى الرؤيا النازحة نحو الخرافة:
1 ــ الجملة اللوحة: "تجمد على حائط شجرة، والقمر المكتمل المشتعل بدماء القرابين يصعد من الشرق" / "قرأ الآيات وعلق الاحجبة وبكي للحسين ووزع بقايا الأرغفة على العصافير غير أنه بقى ذلك السطر الموحش بين البرسيم والتراب".
2 ــ الجملة الممسرحة: "يتجول بين شواهد حريق، وأيد مرفوعة للقمر، وألسنة نارية مهولة تأتي من الفضاء وتنصب فوق الرؤوس، وتتعالى الصرخات وتتصادم الأجساد، وكرات الحمم تنقضُ فوق اللحم ويتصاعد البخور البشر.
الثيران تسير نحو بقعة ضوء ضائعة في السماء، والأبدانُ تنحلُ محروقة الجلد والروح، تصرخُ عبر الزمان، وصياحها يتخثر في الفخار".
تمتزج متراكمات السرد في الجملتين (الجملة اللوحة والجملة الممسرحة) لتنتج أثرا سرياليا يملأ بياض النص بهالات سريعة الايقاع بين العالمين (الموضوعي المحمول على رؤيا العناصر الطبيعية وطريقة توظيفها سرديا) والذاتي: المتفاعل مع الرؤيا للموضوعي والمنعكس منها الى الذي لا يرى كعالم ثالث يتقنه «عبدالله خليفة» ويجعله هاربا من الشعرية الى تشكيلات المجهول، الى الشعرية.
إذن يكمن السر الجمالي للطاقة الابداعية في قدرتها على الانفلات من المحكي الى ما فوقه وذلك عبر دلالات الخلق غير الثابتة والمتعامقة في الثابت (الفضاء المكتوب).
في هاتين القصتين (طريق النبع/الأصنام) نتبين كيف نتجت تداخلات الزمكانية وكيف انشطرت الى ذاكرتين (أولى وأخيرة) وكيف تشابكت عناصرها الصاعدة، الهابطة، منتجة أثرها اللامتوقع العابر من الامكان الى اللاامكان ضمن شبكة النسيج المتصارعة والسريعة الانتقال والاختزال والمكاشفة.
■ تشخيص البياض في سواد قصص «جنون النخيل»
تتضافر الفضاءات الجمالية في تجربة الروائي والقاص «عبدالله خليفة» الذي يوظف مخيلته كإيقاع سردي تتشكل علاماته من علائق العناصر المستندة الى شعرية المقول، وعلى كثافة الجملة، وعلى تحويل الواقع الأرضي لبى واقع فني يختزل احداثه ويشابكها وينسلها من مكونات الشخوص وملامح المحيط، جاعلا من هذه الوحدات وحدة عضوية كبرى تميل بنيتها الى التفكيك الظاهر الذي يضمر في بنيته العميقة ترابطا وتماسكا نسقيا تتباعد فيه الذات الراوية لتلتقي في مسافاته التأويلية.
ميزة نجدها في سرديات «خليفة»: الضباب/أغنية الماء والنار/الهيرات/نشيد البحر/دهشة الساحر/جنون النخيل.
أضافة الى ذلك، فان سردية المقول تكمن في الكيفية التي تتناغم فيها حركة العلائق بين الظهور والاختفاء، بين الانقطاع والاتصال، بين درامية الخروج من الذاكرة والدخول في المخيلة، وبين الانجاز المحوّل لطرفي الخروج والدخول، وبين انسجام ايقاعات المونولوج والديالوج وزوايا رؤية الراوي.
هرموني ديناميكي يوجه محور رغبته نحو الارتقاء من (المتن المحكي) الى (المبنى المحكي) لماذا؟ لأنه يعي بأن للأبداع دورا فنيا يتجلى في (كيف أقول) وليس في (ماذا أقول) .. فالمعنى ملقاة في الطرقات كما قال يوما «الجاحظ» والمهم هو كيف نصوغها ونخلدها في اللغة.. لكن، ألم يفت «الجاحظ» شيئا؟.. أو لنتساءل بطريقة أخرى: هل كل المعاني ملقاة في الطرقات؟... لقد فات «الجاحظ» ذلك.. فهناك معان لا مرئية لا توجد في الطرقات ولا يمكن الوصول اليها الا ببصيرة وحدس مستبصرين لا يعرفان الجمود...
سنستنطق في قراءتنا هذه قصص «جنون النخيل»*** ذات الابناء غير التعاقبي الذي يقطع عناصره في بؤرة مزدوجة من الزمكانية والحلمية والاسترجاعية والحدثية الواضحة والمغّيبة.. حيث تتفاعل بنية القصة خادعة القارىء بتمحورها حول الحدث والشخصية.. لماذا لأنها توظف خداعها كعامل مكون من داخل النسيج لتجعله متمحورا معها حول دينامي الصراع العناصري الذي يستغوره القاص منتجا تلك الثنائية التبئيرية القائمة على (المفارقة) تبعا لــ«جيرار جنيت»:(كل مفارقة سردية يكون لها مدى مفارقة واتساع مفارقة، فمدى المفارقة هو المجال الفاصل بين نقطة انقطاع السرد، وبداية الأحداث المسترجعة أو المتوقعة.
يقول «جيرار جنيت» حول هذه النقطة بالذات:(ان مفارقة ما يمكنها أن تعود الى الماضي أو الى المستقبل وتكون قريبة أو بعيدة عن لحظة (الحاضر) أي عن لحظة القصة التي يتوقف فيها السرد من أجل أن يفسح المكان لتلك المفارقة. اننا نسمي (مدى المفارقة) هذه المسافة الزمنية، ويمكن للمفارقة أن تغطي هي نفسها مدة معينة كم القصة تطول أو تقصر، وهذه المدة هي ما نسميه (اتساع المفارقة) (1).
ما بين المدى والاتساع ينشأ عالم اشاري يعكس بناؤه الداخلي صورة متماسكة لانقطاعات البنية السطحية المنتشرة كحدث فيحدث وكمحكي حاضر غائب لا تجمع اشكالاته غير نقاط المفارقة على اعتبارها محكيا كاشفا تبث قنواته التضعيفات المتخيلة المنعزفة على نبرة تكثيفية تتجاوز بنيات المحكي الواقعي الى شبكة شعرية تتنامى فيها وجدانات وظلال العناصر السردية الأخرى.
ضمن هذا الفضاء البنائي تشرق مجموعة «جنون النخيل» مفتتحة وحدتها بقصة «بعد الانفجار» ومثقفة أبعاد الحياة والموت، الحلم والماضي واللحظة الحدثية عبر العناوين «الموت الأكثر من مرة واحدة/الاخوان/شهوة الدم/ياقوت/جنون النخيل/النوارس تغادر المدينة/رجب وأمينة/عند التلال/الأم والموت/النفق» ثم تختتم بنياتها وشخوصها السالبة والموجبة وطور اضاءاتها لتحركات الذات على الأرض، بقصتها الأخيرة «الميلاد» وبذلك تُكوّر المجموعة نصوصها بين حدين:
1ــ حد الموت «بعد الانفجار»
2ــ حد الحياة «الميلاد».
تمفصلات الانكسار:
تشترك انكسارات البنية الاجتماعية والنفسية والأخلاقية في تحريض آلية الانكسار الكرونولوجي: (من الحاضر الى الماضي) وفي تحريض آلية الانكسار الموروفولوجي (تمظهرات المكتوب النصي المجسد هنا بإقطاعات السرد على صعيدي الدال والمدلول).
ومن ثمَ تشترك آليتا الانكسار الكرونولوجي والموروفولوجي في انتاج زمنية السرد كثنائية تتمفصل ذاكرتها الحاضرة مع ذكراتها الارتدادية ولا تنفك الا لتضيء المقصدية المتخفية المتشعبة الى:
1 ــ غاية تعرية البنية الاجتماعية المتجلية في القصص «الاخوان/ياقوت/النوارس تغادر المدينة/الميلاد/بعد الانفجار».
2 ــ غاية تعرية البنية النفسية الممثلة في قصة «الموت لأكثر من مرة واحدة» وقصة «شهوة الدم».
3 ــ غاية الكشف عن مستوى البنية الأخلاقية، وتعكسها قصة «رجب وأمينة» وقصة «عند التلال» وقصة «النفق» ولا تنفصل هذه الغايات الا نظريا كونها متشابكة في جميع النصوص.
كنموذج لهذه التمفصلات سنناقش قصة «عند التلال» المبدوءة بوصف جمالي خلاق تبعا لــ«آلان روب غرييه» وبوصف جمالي تبعا لــ«جيرار جنيت» حيث تتعدد المعاني في الجملة المفتتح التي بإمكاننا اعتبارها جملة مشهدية تختزل محور العنوان «التلال» كمكانية محيطة بالشخصية: "تمتد وراءه التلال بحرا من الموجات الكبيرة المتجمدة" ص(91)، ولا يتوقف ايقاع الجملة الا بعدما يأخذ فعل "تمتد" زمكانيته النصية: (الطريق/الظلمات): "يتوارى خلف احداها رابضا على الأرض، محدقا في الطريق الضيق الملتوي، الذي امتلأ بالظلمات". ثم يصبح الايقاع أكثر وضوحا وهو يكشف عن غاية وجود الشخصية في هذا المكان: "الرجل الذي ينتظره، لابد وأن يمر هذا الدرب، وأن تندفع سيارته بين الحصى والرمل والحفر، متوجهة الى فيلته الكبيرة في الخلاء الواسع".
من هذه الجملة المشهدية تعبر مسافة المكان ومسافة الزمان الى المسافة النفسية لشخصية «محسن»: (الانتظار) الذي يظهر مسلحا بحافز (المسدس) الذي يستكمل وظيفته على مرحلتين:
1 ــ الوظيفة الفعلية التي تتم في نهاية السرد.
2 ــ الوظيفة الاشارية التي تستدرج البطل الى ذاته "المسدس يكهرب جسمه كله، رائحة رصاصة التي لم تنطلق بعد، وتضاريسه المعدنية المسنونة، وانفجاره المرتقب، تلتهم تفاصيل ذاته، وتغدو مثل نهر متدفق على المزارع والسهول".
ومع تدفق الذات المرموز اليها بــ (النهر) ينقطع زمن السرد عن لحظته ليدخل في (المفارقة) منعطفا الى الوراء، الى ذاكرة الشخصية المنقسمة الى ذاكرة للماضي الذاتي وللماضي المكاني، فيتحول انجاز الجملة المشهدية الى مرآة عاكسة للقاتم من خفايا البطل، وذلك من موقع الراوي العارف بكل شيء (الراوي) الشخصية الحكائية (الرؤية من الخلف) .Vision Por Derriere وينتقل الراوي «عبدالله خليفة» الى الأحداث المسترجعة ليجعلها تستغرق بعدا زمنيا يمتد من لحظة ظهور الشخصية في النص الى لحظة طفولتها وسلوكاتها مع "الرجل الذي تنتظره الآن الذي كان صديقها" ويتحقق هذا الانتقال عن طريق تنوعات الوصف: (التمهيدي/ التوضيحي والتفسيري/ الخلاّق): "كان دائما قرب هذه التلال، هذه الدوائر الكبيرة من الرمل والحجر/ حين كان طفلا كانت أول ما واجهه، مثل السماء والحكايات والقدر/ وكان الذي ينتظره الآن، ومجهز له الرصاص، هو صديقه الدائم في اللعب فوقها" وبعدما تضعنا حركات الوصف في منطقة ملامح الشخصيتين وسلوكاتهما، تبرز ملامح الذاكرة عن طريق سؤال يفتتح المجال الغائب من الأحداث على مجال الحضور: "كيف سارت بهما الحياة حتى افترقا، وتخاصما، وتقاتلا؟". وينزاح المحكي الى تبيان سبب النزاع، عائدا الى محوره المكاني "التلال" كحفرة توترية تجتمع فيها مكونات الصراع، وتنتشر منها على جسد القصة، كما ان هذه الفجوة، من ناحية ثانية، شكلت حقل توليد لحدث الذاكرة الذاتية والذاكرة الآنية وحدث الذاكرة المكانية، ومن هذا الحق تكونت ذاكرة النص المتحركة بين الأغراب وشخصية «زاهر» وآثار البشر القدامي المدفونة تحت تلك التلال، حيث أصبح «زاهر» يبيعها للأغراب سرا، فيهربها هؤلاء من هذه القرية ــ الوطن. "كان ثمة بشر قدامي هنا. أسرفوا في الملذات والخطايا، لم يردعهم شيء، وجاءتهم بينات. فما اتعظوا ولا تابوا، فنزلت عليهم الصواعق من السماء، فهلكوا في بيوتهم التي تحولت الى تلال من الحجر والعظام".
مشهدية تسبر في الزمن وتضيف امتدادا غوريا لزمن القصة جاعلة منه ذاكرة مكانية تخفي في بنيتها مؤشرا نذيرا يقبل الاسقاط على زمنيتنا الراهنة بكل صعدها الحياتية.. ولا تلبث حركة انتشال حدث من حدث، ذاكرة من ذاكرة ان تنعطف بلغتها نحو حواس ومشاعر الشخصيتين «محسن/زاهر» موضحة الفروق التي بينهما: "وقد أصيب هو ــ المقصود «محسن» ــ برعدات مخيفة، حين طالع احشاء الأمهات المتفتتة والمهترئة والحاضنة للأجنة، ومن الجماجم المذعورة..
وكأنه ينصت حينئذ لتلك الصواعق السماوية الضارية، وهي تدك الفضاء، وتميد بالأرض..
لكن «زاهر» لم يكن يسمع الانفجارات الالهية العلوية، ولا صرخات المنابر، بل يحدق مذهولا في الصناديق الممتلئة بالقطع الثمينة، ويحملها ببطء الى سيارة الأغراب".
وتتنافر سلوكات الشخصيتين بشكل متواز مع تغيرات البنية الاجتماعية والعمرانية مع تغيرات منحنى الأخلاق وتدنيه حتى اختراقه لحرمات الأموات: "التلال راحت تذوب في التدفق المحموم للمنازل، بطونها تبقر، وثرواتها تختفي في الجيوب والعروق والأرواح.. أسنان الموتى تتألق في الأحياء، وأزرتهم وحليهم تسطع في الصدور والصور. غابة التلال المترامية حتى الأفق اللامنظور تكتسح بالأزاميل والمجارف والتراكتورات العملاقة.. الرجال يقودون الآلات وهي تحصد الرمل والحجر والعبرة. والبيوت الملونة الملعونة تنبت فوق القبور، وتحتل قاعات وأسرّة المصعوقين".
وتستمر انكسارات البنى والنفوس المتسترة بــ(الايمان)، وتمثلها شخصية «زاهر»: "يصيح في الناس: عم الكفر والفساد"، وتظهر نغمة حوارية سريعة بين الشخصيتين، فيها يدعو «زاهر» البطل «محسن» الى التفاوض، وحين يرفض ذلك، يهينه وتبدأ بينهما الشتائم، وبعدها يكشف محسن حقيقة زاهر "أنت فتحت قبور الكفار ونهبت منازل المؤمنين" تتجه بنية القص إلى تقنية (الحلم) لتنجز مفارقة مستقبلية ينقطع فيها زمن الذاكرة ويبدأ منها زمن المخيلة كمفاعل كاشف لما سيحدث "وبدت رؤى غريبة تراوده في المنام، فيجد نفسه في دوحة غناء، وبغتة يملأها حريق عات، وتتحول الأشجار الى أعود ودخان.. ويسمع أصواتا تناديه من بعيد، وثمة رجل يدعوه الى ملاقاته في البرية، ويجد شبحا هناك يدعوه الى دخول مغارة. وحين دخل فيها تساقطت عليه أحجار، لكنه نجا بأعجوبة". يتعامد منصوص هذا الحلم مع مجال حلمي آخر، التبست فيه أزمنة الذاكرة وتكثفت فيه أنسجة النص، مما يجعلنا نعتبره فجوة توترية مقابلة لفجوة التوتر المكاني، أيضا، لنا أن نعتبر هذا المجال ــ الفجوة: الجملة ــ الصورة، ذات الحيوية المتناغمة التي ينقطع في آخرها المحكي الذاكراتي والمحكي الحلمي، ليتصل بانقطاعه الأول الذي ابتدأت منه القصة لحظتها الحاضرة السابقة للمفارقة الاسترجاعية الأولى: "ومنذ تلك اللحظة راح حلمه الأخير يتجدد في كل ليلة. ذاك الملاك البهي كان يهمس في قلبه بغمغمة غريبة. كانت القبور تتفتح، وتظهر الهياكل المحروقة بالزمن، وومضات البشر فراشات عصور ذائبة في التنور، يجد ثقبا في صدره، ويرى نفسه يترنح في الهوة وينهال عليه التراب، ويذوب، ويداه ترتفعان بين الرمل سياجا أو غصنا" وتبدأ بذلك المفارقة الأخيرة بقصة، حيث يلتئم السرد المتقطع راجعا الى لحظته الحاضرة الموزعة على ثلاث مسافات "الطريق/الظلمات/الانتظار"، فتنبثق سيارة «زاهر» ويطلق «محسن» الرصاص، الا أن الموت يعبر من حلم محسن الى جسده: "يده تمسك الآلة الباردة. يطلق النار وهو يكبّر، لكن رصاصاته لا تثقب الحديد ولا الزجاج... تندفع اليه ــ طبعا السيارة ــ وجسدها الساخن يحضنه بقسوة ويوغله في شقوق التل وحفره". ص(98).
الملاحظ ان الشخصية الاسنادية «زاهر» توازت من حيث الفاعلية مع الشخصية الرئيسة «محسن» رغم بروزها الغالب من ذاكرة البطل.
من التكثيف كأوالية أسية، وكمركز لدوائر الايقاع السردي تنبثق شبكة رموز ظاهرة ومستمرة، هي بدورها تتمتع بوظيفة فنية لا يتقنها الا المبدع. تشكل شبكة الرموز في قصص «جنون النخيل» خلفية فاعلة تتحرك مع آثار البنية من السطح الى العمق إلى علائق النص، منشطة بذلك أولية التكثيف بعلاماتها وشخوصها وحواراتها وتقاطعات بنياتها واتصالاتها، ويتم ايقاع التنشيط الرمزي عن طريق تحويل داخلي تتشابه فيه ملامح العلاقات حيط وبعد جوّاني وغايات ومقاصد تمثلها (كرموز ظاهرة) بعض شخوص القصص التي تنتج سلوكياتها ضمن بوتقة مجازية أشبه بالمرايا المتعاكسة، وتنقسم هذه (الرموز ــ الشخوص) الى فئتين:
(1) فئة السلوك غير الطبيعي، الاستغلالي، الظالم، الخائن، الخ.. في هذا التموضع اللاأخلاقي نجد تحويلية العلاقة «كمال» في قصة «بعد الانفجار» تتفرع إلى عدة شخوص:
1ــ «حبيب» في قصة «الاخوان».
2ــ «الملك» في قصة «شهوة الدم».
3ــ «خالد» في قصة «ياقوت».
4ــ بطل قصة «جنون النخيل» المنسرد بضمير الغائب (هو).
5ــ «ظبية» ثم «أمينة» في قصة «رجب وأمينة».
6ــ «زاهر» في قصة «عند التلال».
7ــ (امرأة المستنقع) في قصة «الأم والموت».
8ــ (لشخص الآمر ــ المعتم اللانهائي) في قصة «النفق».
(2) فئة السلوك النقيض لشخوص الفئة الاولى، وهي غاليا ما تكون العلامة الموازية لها، بحيث ينتج الصراع بكل تقلباته وفضاءاته درامية المحكيين:(الواقعي) و(الفني):
1ــ «حسن» في قصة «بعد الانفجار».
2ــ «جعفر» في قصة «الأخوان».
3ــ (الطبيب/الفتاة/الخدم/البستانيين/المارة/جميع ناس المملكة) في قصة «شهوة الدم».
4ــ «ياقوت» في قصة «ياقوت».
5ــ (الرجل العجوز/النساء الثلاث/النخيل/الأرض) في قصة «جنون النخيل».
6ــ «رجب» في قصة «رجب وأمينة».
7ــ «محسن» في قصة «عند التلال».
8ــ (سكان العدامة) في قصة «الأم والموت».
9ــ (كائن النفق) في قصة « النفق».
وهناك شخصية قصة «الموت لأكثر من مرة» التي تعاني من ازدواج الفئتين فهي (ظالمة) و(مظلومة) في آن معا.
أما بالنسبة الى الرموز المستترة، فاننا نتبينها من خلال ايحاءات علاماتية يجسدها تغير الحياة الخارجي المؤثر في البنية النفسية للانسان، وذلك في قصة «النوارس تغادر المدينة»: "تبدل كل شيء فجأة. لم يعد جسده له. عظامه تصرصر فوق الخشب، وبصره اضمحل وغدا الشاطئ بعيداً، كله صخور وآلات وأبنية حادة، وتشكلت مزبلة ومقبرة كبيرة من الورق والخشب والنوارس النافقة والقار وملابس الموتى، والمتسكعين الغرباء، والمدمنين الذين يفاجئونه في عوداته المسائية سارقين صيده!" ص 71.
وتجسده شهوة العنف والطغيان والسواد والخمرة في قصة «شهوة الدم» كما يجسد هذه الرموز الاستتارية (النفاق والخداع والكذب) ومحمولات هذه المداليل على الدوال: (صاحب المجلة/النساء/الرجال/ظروف/الكاتب) في قصة «الميلاد»: "مدير مجلة ذو وجه صالح لكل الفصول والأغلفة، وفتاة جميلة وضعت قدميها المشتعلتين ضياء وفتنة أمام وجهه، ونصف دستة من الرجال المعتقين في تفتيت اللغة ولحوم الخراف، وثلاث سيدات مرحات يبعدن أبدا الخريف" ص 117.
تتركب هذه الرموز بنوعيها (الظاهرة) و(الخفية) منجزة تفاعلها الصراعي في القصص. وبناء على هذا التحليل بمكننا اعتبارها (فجوة توترية لا مرئية) تساهم في ارتفاع ايقاع السرد، وتمنحه حقلا تأويليا يتداخل مع الحقول الأخرى.
تتخذ مرايا الترميز ظهورات سردية متعددة كالمشهدية مثلا قصة «الاخوان» وكالمسرحية، مثلا قصة «الموت لأكثر من مرة واحدة» وكالخرافة، مثلا العناوين: (النفق/ شهوة الدم/ جنون النخيل/ الأم والموت). التي تجنح فيها المخيلة الى تفكيك ظلال اللحظة الكتوبة، وتركيبها في آنساق لا مألوفة تنجز فضاءاتها المختلفة (الزمكانية) الدلالية/ المنظورية/ النفسية) كوحدة يتعدد فيها المقول السردي، فهو يظهر كحيرة للمعاش ترتفع إلى أقصى امكاناتها في تقزيم الكائن وتوسيع المعتم في قصة «النفق»، وهي تبرز كسرد من سرد في قصة «الأم والموت» بحيث يصبح النسيج الحاكي جزءا من الذاكرة المحكية وتتصاعد دائرة المعاش، لتعبر طور المتغيرات، متحولة الى حلم يحول أبعاده الى تجسيد فعلي ــ رمزي في قصة «النوارس تغادر المدينة»: "الأرض تتقلقل، والعلبة الخشبية تهتز، وتتصدع، والنوارس تصطدم بالجدران، تقضمها أسياخ الحديد، والعجلات، ويغفو رائياً نفسه فتىً يجدف في الماء، وسحابات بيض تفتتُ المرئيات، ويتحول إلى طائر يصفق بجناحيه في فضاء غريب مرير" ص 72.
تغترب اللحظة المدونة كاغتراب الوجدانات والقيم والبراءة والحلم والموت والحياة، وأيضا تغترب الأرض.. لكن اغتراب الأرض عن الأرض لا يعرف السكون والخضوع والذل، ولا يجهل كيف يفعل أرواحه، فيزلزلها، ويعلو مع مكنوناتها متصادما كالرموز، وهذا ما تنبني عليه قصة «جنون النخيل» المنتسجة عبر اربعة مقاطع يتقطع فيها السرد مستندا الى (المفارقة السبقية) المتنقلة من حدثية اللحظة الماضية ثم العودة الى حدثية اللحظة الحاضرة التي تنختم فيها القصة.
ينبني محكي النص على انقطاع توليدي الأحداث، تحكمة زاوية الرؤية من خلف، وتسرده محكيات خرافية، وذاكرة اسطورية، يرويها القاص «عبدالله خليفة» مسقطا فاعليتها الشكلية على شخصية البطل (ضمير الغائب: هو)، ومستبدلا هذا البطل بشخصية رئيسة أخرى مستترة، وهي (النخيل) كرمز يتحرك في البنيتين: السطحية والعمقى، متملصا من ميكانيزماتها الى مكوناته الفجوية لحظة الانفجار والزلزلة.
تبدأ القصة بوصف اشاري للزمكانية، يشبع حواسها بحدث غائب، يحصر عبر مؤشرات الخراب (الليل/السمك الميت/الأشباح الساكنة/ الرماد المنتشر/ الغبار/الصمت المفاجئ/ انقطاع أصوات المغنين/سقوط أو هروب الموجودين حول بركة السباحة/رجرجة الموج/ البحر الغاضب/ الرمل المهاجم/حركة الموت وهي تتناوب على المباني والشخوص) وينتهي المقطع الأول باستفهام "ماذا يجري/هل أدت عاصفة البحر والرمال إلى سقوط المباني؟ ما هي تلك الكتل المخيفة التي تتحرك في الظلام؟" ص 60.
ويأتي المطقع الثاني كفاصل فلاشباكي، يرتد فيها وقع القص إلى الخلف، حيث يستريح توتر المقطع الأول في تلك النقطة التي تسبق حدوثه، فيصف لنا الراوي محيط وأجواء وبيئة وسلوكيات الشخصية اللاهثة وراء المال والخراب والفسق وقطع الأشجار: "وهو على طاولته الباذخة، يأكل الاهتزازات البيضاء الأخيرة للسرطانات، ويسبح مع نافورة النبيذ بين النجوم والعيون.
كان مرتعشاً من الطقس والبورصة الرصينة.
جرتهُ شقراءُ إلى حلبة الرقص، ودغدغته بغدائرها ونسائمها، لكنه وزع ابتساماته على جميع الغزالات، وصعد إلى جناحه في الطابق العاشر، وأبصر الساحل والبحر والبرية الممتدة، وغابة الأشجار الغريبة التي أحضرها من القارات الخمس، فبدت تُحيط بالأبنية مثل القبعة الخضراء الكبيرة.
أرتمى على السرير، والجدران كلها سكرى بالموسيقى الخافتة / ورمى الأعشاش في المزابل، وأطلق أسنان المناشير في لحم الشجر".
وينقطع الفضاء الزمني مبتعدا الى رمزه البطل (النخيل) الذي ينكتب كسيرة للشجر والأرض وروح الجذور، حيث يتماوج السرد من محكيه الواقعي الى محكيه الخرافي مضاعفا علائق التواصل في شبكة الرمز وابعاده الزمكانية، موسعا الانزياح بين الدال والمدلول، ومفاعلا هذا المجال مع المعامل المخيلتي: "كانت النخيل ذوات وجوه آدمية، متكلمة، متجهمة، تتغلغل جذوعها في مياه البحر، وتبدو كقطيع واسع من المردة المحبوسين"، ويبدأ الرمز عبر التشخيص النصي في الدخول الى ملامحه الغريبة، فيتحول إلى ذاكرة زمنية قديمة مرتبطة بــ(آدم)، فيها من الأحلام مثلما فيها من القوة الخارقة، والطاقة اللامألوفة.. وكل هذه التحولات تبرز في المتن عن طريق مقول (الفلاح العجوز) صاح حقل النخل الذي اشترته الشخصية الشكلية بعدما ارشدتها اليه ثلاث نسوة ملفعات بالسواد.. "
"حكى له العجوز قصصاً انتشرت مثل الأحلام في حضرة النخل المتنفس عصافير ونسمات.
زعم أنه نخل عتيق، يعود غرسه إلى آدم. كانت نواة أولى من بلح وحشي ألقاها في المياه، وكان البحر وقتذاك يملأ كل هذه الأرض، فراحت النخيل تصنع اليابسة، وينتشر طلعها فوق البحر، فيبزغ البشر والزهر والثمر" ص 62.
وتتكاثر طاقة النخيل بدهشة وسحر بعدها يوحي بها السرد وكأنها الأصل البدئي لوجود الكائنات.. يجن النخيل متدفقات بخيراته وعذقه، مستتبعا ذلك تدفق المال في جيب البطل، فتزداد ثروته ومبانيه وشاحناته وخدمه وخزائنه.
وحين انتشر النخيل كغابة جهنمية تتوحش ممتدة في كل مكان، يعزم صاحبها على ابادتها: "، ثم راحت أسنان الحديد الشرهة تنكسر، وتتفجر أسلاك الكهرباء بغتة وتنطفئ، ويُصاب العمال بنوبات صرع ودوار، فيرون في الليل مشاهد أقنعة تتكلم وثلاث ساحرات يخترقن السماء". وتتجلى بذلك اسباب حدث بداية القصة، فتتلاشى العلائق الفاصلة بين المحكيات المتنوعة، لتحل محلها مدارات تتصل، لكن ضمن علائق تتقطع كمفارفات جزئية تشكل مفارقة كبرى هي بدورها صدى لمفارقة اللحظتين (الحاضرة) و(الماضية)، وبامكاننا تقسيم هذه (المفارقة الصدى) أو (المفارقة الظل) الى:
1 ــ أثر الابادة المتمشهد مثل لوحة اطرت الرمز واعادته الى سيرته الأولى، رابطة بين )الكآبة( كإنذار وبين )الحدث الدراماتيكي الأول(: "لكن الإبادة كانت كبيرة، وأُرجع النخل إلى دائرته المحصورة بين البحر والساحل، وبدت الجذور الضخمة المقطوعة مثل أفاع هائلة، وحبال سرة للأرض متفجرة بالدم والرماد، وغدت أعشاش الطيور مثل منازل مهروسة، وغاص المشهد البحري في رمل منتشٍ، وتلفع البحر بغلالة من الزيت المشتعل، وجاء ضوء النجوم ككحل في عين عجوز".
2 ــ الأثر المتولد عن أثر الابادة المنعكس عبر بوتقتين: الأولى: بوتقة تغيرات الفضاء الجغرافي، والمناخي ومنتوجها: (الاضطرابات الطبيعية ــ الطبيعية). والثانية: بوتقة الاستعادة التي تسبح فيها ذاكرة الشخصية: "ظهرت له أيام صباه مثل عربة من نور تسير نحو القمر، ومذاق كسرات الخبز اليابسة في الحقول مثل الشهد. وتضخمت الكآبة حتى غدت أيامه زجاجات ممتلئة ففارغة، واعتزم أن يستشير الأطباء فلم يفهموه حتى راح يقدم في الليالي الدامسة النذور والابتهالات إلى النخيل المنزوي والصامت في البحر".
3 ــ أثر اللاوعي المتمثل بـ(الحلم) وتجسيده لما سيحدث عن طريق رموز تستعيدها ذاكرة النص، وتوظفها ضمن نسقية جديدة، غائيتها الكشف عن اللحظة الحديثة، وتتشابك هذه الرموز فيما بينها، ولا تطفو الا من خلال الرموز ذاتها: (الرجل العجوز/الرؤوس المطبوخة/الرؤوس المقطوعة/النسوة الثلاث): "ورأى فيما يرى النائم، الرجل العجوز يتقدم إليه، وهو يحملُ قدراً مليئاً بالرؤوس المطبوخة. صاح به: أنقذني! فلم يهتم به. وراحت الرؤوس المقطوعة تحدق فيه ثم تتكلم. قال العجوز: ستأتيك نذري. وكررها ثلاثاً حتى ذاب في البخار الساخن اللافح".
وتمر على الحلم ايام، حين يخبره المهندس الشاب عن تشقق الأرض، لكنه لم يهتم بكلامه ويصرفه من الخدمة.
وبعدها تحدث هزة عنيفة، ثم تهدأ، وفجأة يتذكر الحلم، ينطلق الى البرية، لكنه "وعندما عاد رأى الرجل العجوز والنسوة الثلاث ذوات الأردية القاتمة، زبائنَ في الفندق، فسجد شاكراً".
4ــ أثر (الحدث) الذي حدث ولم يحدث، وتمثله عناصر (أثر الحلم) التي تحضر بين (الهجس) و(الخوف) كبعد احتمالي يتسرب من الوجود الى الغياب، ومن الغياب الى الوجود مصطدما بقابلية الشهور وبعدم الظهور، نازحا بحركيته تلك الى تكوين خرافي ينتهي به المقطع الثالث: "هناك لحظات من الهجس والخوف والذهول تكتنفه. فالزجاجات صارت هواءً، والشاشات تصاب بالإغماء، وثمة نسوة يمشين في الفضاء، ولا أحد يتكلم من النزلاء، وينزل ثلج في القاعة الكبرى، فيندفع إلى الكشف باحثاً عن اسم الرجل العجوز وهويات نسائه الثلاث، فلا يجد لهم أثراً، وينكر الموظفون وجودهم..!".
وتجتمع هذه الاثار في نقطة اتصال المفارقة الكلية، حيث يعود البناء السردي الى لحظته الحاضرة، والى مكانته الأولى (الفندق) والى (الحدث المحوري) الذي أزاح ضباب الدلالات، ليتحول من حيزه الغائم الى حيزه الواضح، وذلك بعد حدوث الزلزلة وتمرد النخيل والأرض وانبثاق الحلم: "والآن هو في غرفته محاصر بالأشباح والضجة. وانطفأت هواتفه ولم تعد سوى الظلمة والريح مطبقتين على الأشياء، والمصباح اليدوي الذي بحث عنه، لم يجده.
تحسس طريقه وعثر على الباب. نادى الخدم فسمع جرياً وتصادماً، ورأى السيارات في الأسفل كالحشرات تمد خرطومين من الضوء، ثم تفر هاربة.
المصعد توقف، والحرارة خانقة، والريح تصفع الأبنية بالتراب، وعليه أن ينزل سلم الطوارئ بين أكداس الأحذية والمصابين والأشياء".
وتستمر فاعلية الرمز (النخيل) منفتحة على بداية القصة، عن طريق آليتها الفنية صورتين لتركيب العناصر تتداخل وحداتهما كمسننات الحدث الغائب الحاضر: صورة المبنى المتقطع القائم على (المفارقة)، وصورة المبنى التكويري، المبدوءة من خاتمته: "ترنح، ولم يسقط، شاعراً بضربة مؤلمة على ظهره، ثم جاءت هزة مدوية، أخرى، وبحلق في الفضاء مرعوباً، كانت النخيل تنقذف في الريح والغبار والنار وتصطك بالجدران".
هكذا تنبثق انزياحات السرد من ايقاعاها السري تاركة في قصص «جنون النخيل» لحظة ابداعية تكتب حالتها وظلالها في اللامكتوب المتنامي عبر حداثة التشكل والتجريد ومرايا الجمع الاشكالي المتعاكسة في تمفصلات تقنية توظيف الرمز والحلم والذاكرة والمخيلة والأصوات: (صوت الراوي/صوت المونولوغ/صوت الديالوغ/صوت الايقاع المحكي/صوت وصدى المفارقة)، المنبجسة جميعها من أوالية التكثيف الشعري.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* شاعرة سوريا
** دهشة الساحر/قصص/ط 1/عدد الصفحات 93/دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية 1997.
(القصص: طريق النبع ـــ الأصنام ـــ الليل والنهار ـــ الأميرة والصعلوك ـــ الترانيم ـــ دهشة الساحر ـــ الصحراء ـــ الجبل البعيد ـــ الأحفاد ـــ نجمة الصباح).
*** جنون النخيل/قصص/ط 1/عدد الصفحات 126 /دار شرقيات، القاهرة 1998.
(القصص: بعد الانفجار ــ الموت لأكثر من مرة واحدة! ــ الإخوان ــ شهوة الدم ــ ياقوت ــ جنون النخيل ــ النوارس تغادر المدينة ــ رجب وأمينة ــ عند التلال ــ الأم والموت ــ النفق ــ ميلاد) .
المراجع:
(1)ـ د. حميد لحمداني/بنية النص السردي/ط2/ 1993/المركز الثقافي العربي/ص 74.


