الجمعة، 5 سبتمبر 2025

طائـران فـوق عـرش النار ـ قصةٌ قصـــــــيرةٌ: لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة




انفتح باب المصعد، وخرجتُ مع أبنتي إلى الممر النظيف ذي الروائح الطبية النفاذة.
استقبلتنا ضجة المرضى المتكدسين في ردهة الإستقبال. حشودٌ من الوجوه المتعبة والقلقة، ومن الملفات والصراخ والسعال.
راحت «بشرى» تلاعب طفلاً، تقرصه قرصة خفيفة، وترفرف بيديها وأذنيها وتهزُ شعرها، غير أنه كان واجماً، مترنحاً وراء ظهر إمرأة، ورقةً صفراء على وشك السقوط.
آخذها من يدها، فتنفلتُ راكضةً، قافزة، متراجعة إليّ فجأة وهي تقهقه.
الممرات الأنيقة، المصاعد الدقيقة، الجدران اللامعة، الممرضات الهنديات، الأطباء العرب الهادئون المشغولون وراء الطاولات وأكداس الورق وعلب الدواء، كلها تبعثُ على القلق والحيرة والخوف.
أحمل قلبي في يدي، أضيع بين الغرف والممرات والوجوه، أسأل عن طبيبي، وتأتيني إجابات  لا أسمعها، وأذهب الى أمكنة لا أريدها، وتطل عليّ ذات الحشود  من المرضى والممرضات، بين أكداس الورق والحقائب والكراسي  البلاستيكية الصفراء المزروعة في البلاط كالتعاويذ الأخيرة عن الموت، و«بشرى» تضيع  بين سيقان الزوار ومعاطف الأطباء البيضاء والأسّرة الحية للمرضى والجثث.
في نهاية الممر، رأيت الغرفة التي كنتُ أتوه عنها.
مقبض الباب البارد، الإنفتاحة السريعة على المكتب، وبروزُ وجه الطبيب وهو يتحسس جبينه في حركةٍ مباغتةٍ متوترة، قطعت قلبي تماماً عن جذوره في الهواء.
مقدمات الأبحاث ترهقني، لكن في مقدمة الطبيب الطويلة الثقيلة، كنت أنشرُ على الكرسي، وأجد إن كتفي لا يخصني ولا يؤلمني.
- أرجوك.. أرجوك.. قل لي الحقيقة.
يتطلع اليّ بابتسامة صغيرة، وهو يخاطب أبنتي:
- ألا يمكنك أن تلعبي قليلاً في الردهة؟
كان طاقةً من الثلج موضوعة لخدمة العذاب.
ثم بدأت الحرائق وراء ظهري وأمام عيني. وكأن أشباحاً جاءت وإنتزعتني من مقعدي، وألقتني في الممر الوحيد المفتوح على الفضاء، وأنا أتدلى، وأرى السيارات تتدفق في الشوارع، وكرات الصياح لا تصل الى الزجاج.
- ماذا.. ماذا.. تقول… إنني لا أفهم!
- دمُ أبنتك ليس على مايرام. كريات الدم البيضاء تلتهم كريات الدم الحمراء، التي لا تتكاثر.. لذا ترى أبنتك شاحبة…
- كانت تريد أن تصوم هذه الطفلة، وأردت أن أمنعها، لكنها أصرت.. فحدث .. تعرف شهر رمضان وحماس الصغار..
- لا! لا! ليس الأمر ذا علاقة بالصوم..
- ماذا تعني؟!!
- إنه مرض نادر. قليلون الذين يُصابون به. إنه داء عميق في العظام. إن العظام تعجز أن تنتج دماً، ولذا علينا أن نعطيها دماً باستمرار.. ينبغي أن نأخذ عينات من دماء الأسرة كلها.. للتبرع..
صمتَ وصمتُ. كنتُ أدخلُ في فراغ غريب. كانت حشائش حامضة تلتهم صدري، وثمة ذئاب تعوي في روحي، وأنا شريد، وحيد، في البرية الثكلى..
خاطبني الطبيبُ بلهجة ودية بدت ختاماً غير متوقع لعرض دموي :
- دكتور حامد أنت أستاذ جامعي، ومؤلف فلسفي معروف، وتدرك إن قضاء الله ومشيئته لا يُردان ..
فتحتُ الباب فوجدتها تلعب. تضربُ «قيساً» وهمياً في مربعات خططتها. ساقها البيضاء الدقيقة الصغيرة ذكرتني بالكريات التي تلتهمها .

2                                    

  في الليل وأنا أبلع الورق والأرق تأتي أمها مرعوبة:
- بشرى سقطت فاقدة الوعي!
نلهث إليها، نحملها في العربة، نتوغل في الحارة ذات الأمعاء الغلاظ، نصدم الظلام والحصى والأشباح، نختنق من الرطوبة والحر والمكيف الساخن، ننطلق في طرق المطبات واللصوص، لا نشعر بشيء، نزيل البعوض الملتصق بدمنا، نخرجُ الى طرق الأسفلت المضاءة عند القصور والمخافر والبنايات الكبرى، نتلفت الى «بشرى»، نتحسس قلبها، نمسك نبضها الخافت المتواري تحت المقعد، نحملها بين الحشود السيارات النائمة في ساحة المستشفى، نجري نحو الموظفين المثرثرين وراء المكاتب،  النعسانين، الغائصين في شجون يومهم. هذا يطلب شاياً ثقيلاً، وآخر يسأل عن وقت إنتهاء النوبة، ثم ينتبهون اليّ، ويحركون الورق بحثاً عن الموظف المسئول، والطبيب المناوب، والشاي قد أتى ويندلع صوت الرشف والإستمتاع، وتبدأ عاصفة من الأبر بالتجول في جسمي، وينمو صراخي، وجريي مع السرير المتحرك، وصلبي في المصعد، ورعب الأم يأكلني أكثر من صمت الأبنة، والممرضات النائمات تحت ضوء المصابيح ينتبهن الى صوت النقالة ذات العجلات المرعبة، ويُدخلن الطفلة الى غرفة ما، وتبدأ أسئلة البحث عن الأوراق، ومعرفة الحالة، ورقم الملف، وصخب إستدعاء الطبيب المناوب المشغول بحالة صعبة، ولعله مختفٍ مع إحدى الممرضات، أو نائماً، لكن صرخاتي لا تفلح في تحريك سلكٍ من مشاعرالممرضات الهنديات، اللاتي تحولن الى ساحرات قادمات من الريف المهجور والبحر الغارق بالأسماك، مشعثات الشعر، مدمدمات بين البخور والتعاويذ.
ثم جاء كيس الدم وتسلل الى ذلك الساعد الرقيق النحيف الشاحب، الغافي على اللحاف. وكانت الشمس قد بزغت وراء القضبان والدخان وروائح الحريق الكوني..
أيها الليل الغامض الصاعدُ فوق جسدي بالسكاكين، لا تزال ظلمتك تنزف على الشراشف البيضاء، ومساميرك تأكل عيوني!

                                    

آخذها بعيداً عن الأبنية والدخان والضوضاء، الى الشواطىء والجزر المسالمة وسط المياه والنخيل والينابيع . نمشي على القواقع، نأكل الأسماك القافزة الى الشباك، نصنع بيوتاً كبيرة من الرمل بلا إيجار، أحضر الأعشاش الخالية من البيض والماضي، نسبح وسط نبعٍ أزرق، ونقرأ خطوط الأحجار وتعاويذها السرية للماء والهواء.
نتلحف الليل معاً، أضم ساعدي وصدري الى عروقها، أود أن أدخل الجمر والضوء الى خلاياها المتوارية. أمسك ذلك العظم المعادي وأدس حبري ودمي الى كهوفه الوحشية.
لكن الصغيرة تصحو فزعة، وتتأوه، أحضنها وأرفعها وأجري نحو الشاطىء والطرق، تدمدم المحركات وتتفجر خيوط الماء والخوف، أطيرُ الى تلك الممرات النظيفة، والأسّرة الغافية، الشاخبة بالدم.
أجري إلى الطبيب. أصل إليه وهو وراء التليفونات النقالة والمقاعد وكتل المنتظرين المنتفخة أوراماً وأوجاعاً.
لا يزال في جزيرته النائية الهادئة وسط بحار الدم والجماجم، غير ملوثٍ بقطرة من الهم. يقول :
- إن الفحوص وعينات الدم أثبتت ما توقعناه..
- .. لكن.. ماذا بعد.. أبنتي تذوب.. افعلوا شيئاً!
- أنت لديك متبرع وهو أبنك ودمه مطابق لمواصفات الزرع. كل ما يلزمك هو النقود الكافية والسفر، من جهتنا سنجهز لك كل شيء: الأوراق، ونتصل بالمستشفى، ونأخذ موعداً للعلاج.. كل ما عليك هو توفير المال.. الذي هو..
وُصدمت بالرقم، كل هذه الأصفار! لو أنني عملتُ خمسين سنة وبعتُ أعضائي، وزحفت على سجاجيد القصور، لم أجمع بعضه..
ركضتُ الى البنوك وشركات التأمين على الحياة والأصدقاء. لم أعثر على شيء. فضت الخزائن فجأة أمامي.
أيها المقاولون على أعضائي، أيها المشترون لعقلي، قضيت حياتي كلها بين الورق، أرمم عقلاً عند المعتزلة، وأكشف الجنون عند المتصوفة، والحديد الصلد عند الأشاعرة، والآن عليّ أن أطارد كريات بيضاء تلتهم أيامي..
أصدم بشجرة على الطريق. أتلقى لعنات وصرخات زوجتي. أسبح في بحر من الكريات الملونة المتشاجرة المتشظية..
أجلس فجأة لأكتب رسالة الى الملك. طوال عمري لم أهنئه بعيد ميلاده وأيام تتويجه وختان أولاده.
قضيت عمري أراسل الجاحظ والفارابي وأبن سينا، وأدخل مجالسهم ورسائلهم بلا إستئذان. أعرف كيف أخاطبهم وأستل منهم الضؤ والبراعم.
بعثرت كثيراً من الوقت والجلد والخلايا لأصل الى قلب الملك. تخيلت إنني أدخل على هذا الرجل، وأنا  أحمل أبنتي  بين كتفي، وأريه غرزات الأبر، ومواقع سحب الدم، والبقع الغريبة الصارخة بالصفار الذي يأكل العمود الفقري .
هنا ياسيدي الشبح الملعون الذي يستل من أبنتي الحياة! سأزحف يا ملكي طوال عمري على سجاجيدك الباذخة، وأضيء قصورك الوفيرة بحبري وأيامي ودموعي، سأضع عقلي في خدمة خيولك وأبلك..
أتخيل الملك يقول:
- ماهذا يادكتور حامد، إنني أجلك عن كل ذلك، أنت نبراس في هذا الوطن. قوافل كثيرة تخرجت من خيمة علمك..
أنام قرب ساعد خافت من الحياة، وقد كبرت أبنتي في المرض، إستطالت، تبدلت تلك الطفلة، غدت أكثر طولاً، لكنه طول مرعب، هيكل عظمي طويل يُلحق به لحافٌ رقيق من الجلد. سكة حديد  صفراء  ترسل النور الى جهة مجهولة.
كل ليلة تدوي صفارة سيارة الإسعاف. تهز الصمت الكثيف والنوم اللذيذ، وأنا معلق بخيوط النجوم، أضع  يدي كل صباح على أبراجها، أستل حظاً مشرقاً وفرجةً في  كهف السرطان.
أتخيل مكالمة ترنُ في صحراء الشظف وقفار الصمت والرعب، وأرى حبلاً يتدلى من العرش. أرى ماءً من الرحمة وحمامات من الحب ترفرف حول وجهي:
أيها الإله العظيم، أيها الملك الرحيم، أيها الأنبياء المقدسون، يا جبرائيل، أيتها الملائكة، أيها العقل الفعال، يا أعضاء اللجنة المركزية لحزبنا المكافح، أيها الأخوة في العقل والجنون، يا صناديق الدم، يا بنوك الأعضاء، أيها السحرة، أيها المشعوذون، يا خزائن الروح، يا صناع النور والحياة، أنت أيتها الأفلاك التي سبحت إليك الأرواح والأشباح وعقول الفارابي والرازي والكندي...
قطرةً واحدة من الروح، قطرة واحدة من الدم الأبدي، تسقط فوق هذا الجسد الرهيف المسجى وحيداً ذابلاً في الليل، والنهار، في ضجيج الحياة الصاخب وراء الجدران، قطرة واحدة من الأزل في هذه العظام الطويلة البارزة، لهذه الطفلة العجوز المرعوبة التي يحتضنها أب مفلس، خاو من الروح والمادة، باع الكثير من أشيائه.. ليمضي الى مستشفى هائلة  قريبة من بلده.
كل شيء هنا بالأزرار. طوابقٌ تمتد الى السماء. ووراءها الصحراء العربية بقوافلها وخيامها البعيدة. هنا تطارد الأجهزة والشاشات كل نملة مندسة في الجسد.
أجثم طويلاً على المقاعد. أجري من غرفة الى غرفة.
يقف طابور طويل من المنتظرين لدخول عمليات الزرع. هياكل من الخشب يشدها بريق أخير الى الحياة.
في كل لحظة تخرج روح. في كل عزفة لموسيقى المصاعد المصقولة، وفي كل ومضة من الأزرار الملونة، وفي كل إنتباهة من أجهزة الحاسب وشاشاتها الهائلة؛ توضع جثة في الرمال العربية العطشى الى النخاع والدم والعقل.
طابور طويل من الصبية والصبايا توقف كلياً عن اللعب، وتحجر قرب الآلات.
وضعت طفلتي على قائمة الإنتظار المروعة.
هنا يغدو للوساطة معنى الميلاد والبعث. هنا تصير للمكالمات المهمة دوي الروح وهي تنفجر في الأعضاء اليابسة. هنا يجيء المسيح في كلمة شيخ أو أمير. هنا الحد الفاصل بين الملكوت والتابوت.
وأنا.. من أعرف سوى صف طويل من الزنادقة والشعراء الضائعين وسط الصحراء، والعناوين الذائبة في القفار..
ياسيدي، يا ألهي، يا شفيعي، كن معي في هذه الرمضاء الحارقة، وليتعطف قلب صلد، ولتتفجر صخرة بالماء، ولتتحول هذه الوجوه البدوية الألكترونية الى رحمة..
حممٌ من البروق والأصوات أنقلها عبر الأسلاك والآلات الى مدن بعيدة، الى وجوه أحبها أو لا أعرفها. أنتزع شخصيات من اجتماعاتها، من أسّرتها، من معانقاتها، من شوارعها المزدحمة بالمال والدخان، أنقلها الى هذه الغرفة القصية في عمارة عملاقة تحدق في الرمال الصفراء الزاحفة على الشجر والزهر، آخذها الى سرير أبنتي، أضع السماعة على خلاياها التي تنطفئ واحدة واحدة، مثل مصابيح آخر الليل.. فتنفجر كلمة من هذا، ويحل صمت مروع عند آخر، وتتصادم الشفاه والجدران والخطوط وتذوي الشيكات والآهات، ثم يحل سكون مطبق..
آخذ أبنتي وأحضنها عائداً.غدت خفيفة جداً، لكن ثمة  ذبالة أخيرة من الضوء في الرماد.

                                    

 بين أكداس الورق والحقائب والحقائق تصرخ زوجتي:
- ماذا فعلت طوال عمرك؟ ماذا أفادتنا شهادتك وأبحاثك..؟ تركت أبنتنا تموت..ولم تفعل أي شيء؟!
عيناها متورمتان بالدموع. وصدرها الناهد المتفجر رحلت عصافيره. لم يعُد بين أصابعها سوى الرصاص :
- حتى أبننا أدخلناه مستشفى الأعصاب من خوفه.. ماذا بقى بيننا؟ لماذا لا ننفصل الآن؟!
فوجئت بتفاقم الرعب في ولدي. هذا الذي جهزناه كي يعطي أخته بعضاً من دمه. هذا الزارع الصغير للحياة.
أقول له:
- لا يجب أن تخشى شيئاً، هي مجرد قطرات تُؤخذ منك. أنت الوحيد الذي يمكنه إنقاذها. دمك مثل دمها. وحين يدخل عظامها سيستقر هناك ويبعث الحياة. ستعود أختك الى العيش معك..
لم أدرِ أن هذا الكلام سوف يسبب له أعظم القلق والخوف. رأيناه فجأة يحطم الصحون، ويترنح على الأرض، ويرتجف.
يتعلق بعنقي:
- أبي.. سوف تأخذون دمي.. سأموت.. سيظهر المرض فيّ..!
كان يرى ساعد أخته المثقوب بالحفر وذلك الجثوم الطويل على الأسرة، والأشباح التي تأكلها، والسماء، والجدران، والأب، والأم، والملك، والشوارع، التي تدعها للإفتراس الغريب..
أفكر على نحو غريب: إنني لا يجب أن أخسر الأبنة والأبن معاً، ليبقى واحد.. على الأقل!
أرتعب وأستسلم.
أحاول شد الأم الى قلبي وروحي، نتبعثر بين المقاعد، وبين زجاجات الأدوية، والمخاوف، والأحلام، نلتحم مثل عصفورين مبللين بالقار، أدفن رأسي في حديقة صدرها، موقناً أن العصافير ستعود.
نجمع شجاعتينا المفتتين، وأعضاءنا المسلوقة في المستشفيات والردهات، ونهمس في روح ولدنا، في كهفه، في شظايا جرأته، ونأخذه فينا..
يرن التليفون وأسمع صوتاً معدنياً:
- إن الملك قد قرأ رسالتك وقد أمر بمعونة.
أخيراً هطل المطر والفرح. نبتت أعشاب في تربة الحصى.
أندفع إلى ذلك المبنى الشامخ. أوقف سيارتي بعيداً عن أسواره وحراسه ونقاط تفتيشه. لا أقيم وزناً للشمس والحراب والأيدي التي تعبث بجيوبي وجلدي. أنتظر طويلاً، أقاد في دهاليز وممرات ومصاعد. يتناولني حارس ويسلمني إلى موظف، ثم يأخذني شرطي ويقذفني في غرفة كاتب. يضع دفتراً وأرى جداول وأسماء وعطايا وأرقاماً هائلة، وأبحث عن أسمي ومعونتي فأذهل. مجرد وريقات قليلة لاتملأ أنبوباً زجاجياً بالماء ولاعظماً بالدم.
أنزل من الطوابق فوق الأسفلت الحارق .
كانت السماء منفية، ممتلئة بالأقمار والحديد، كان المطر من الرذاذ الزجاجي المشتعل. كانت الكريات البيضاء تلتهم الكريات الحمراء. كانت طوابير من البشر الصغار الذين يختفون في الدخان والجدران. كان البياض يأكل الأطفال والتفاح والدفاتر.
أيها الرفاق دعوني أشرب الى الفجر. أتحلل إلى ذرات من اليأس. أكلم الخنافس. البياض يتسع وينتشر على الورق.
أصطدم بأحدهم وأنا أطارد طبيب أبنتي المتواري. يقول:
- خطاب واحد منه وأبنتك تطير حالاً الى روما!
أركض، أصطدم بكثيرين، أحتل سلك تليفونه النقال، المشغول دوماً، ألقاه  في خضم طوفان المرضى، أجري وراءه، يندس بين الأسّرة والبراميل والشراشف. أزحف إليه، أطيح بالأعضاء المقطوعة، أستعيد أدعيته لكي يصير وزيراً، أطالع جثث الأطفال المكدسة في المشرحة. أرى الدم الرخيص الذي يُباع، وعربات الفحم التي تمضي بالصغار الى الآخرة .
- مواردنا شحيحة.. حالات كثيرة..
ونهمُ النمل لا يتوقف لالتهام سكر النبات. ممرٌ طويل. بلاطٌ بارد.

                                    
  
للموت تقاليده اليومية الغريبة. عليك أن تتأكد من إستلام جثة أبنتك عبر الورق وبرؤية وجهها وكشف غطائها.. كل هذه الشراشف والروائح أكلت عظمي!
يوم الجمعة مبروك كما تقول ثلة الملتحين. يريدون أن أضع نعشها حتى موعد صلاة الظهر. يقولون إن الصلاة ستمحي آثامها..
أبكي بحرقة: يا ليتها ملأت الدنيا آثاماً! لم يعرف ذلك العود طعم الكذب وزبد البيرة وعصف القبل..
كان صراخ أمها وراء ظهري. كأنه هزة أرضية دكت المكان. لم أرها تتشقق هكذا.
حشد من الأصدقاء حولي في هدوء المقبرة. أعشاب وغبار وطيور قليلة. أبني يضع رأسه قرب صدري. و«بشرى» نزلت في التراب.. وداعاً يا أبنتي، وداعاً يا روحي!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 
7 – سيد الضريح «قصص»، 2003.

«القصص: طائران فوق عرش النار – وراء الجبال – ثنائية القتل المتخفي – البركان– سيد الضريح – وتر في الليل المقطوع – أطياف – رؤيا – محاكمة على بابا – الحارس».
المقالات العامة

الخميس، 4 سبتمبر 2025

جماليات المكان في مجموعة «سيد الضريح»

جلولي زينب *


قصة «سيد الضريح» من المجموعة التي تحمل نفس العنوان لــ عبدالله خليفة:

   يعالج القاص عبدالله خليفة  في هذه القصة مسألة اختفاء سيد الضريح ، والذي خرج من قبره لأنه ما عاد يحتمل ما يجري من مظاهر وطقوس مثيرة للاستغراب والاشمئزاز، فيجد خارج هذا الضريح حياة مغايرة لتلك التي يعرفها والتي عاشها في الضريح، ومن ثم تبدأ مهمة البحث عن هذا الكهل التي تتولاها السلطة في البلد، ولكن هذا الكهل هو مجهول الملامح. والصفات التي وُجدت في اللوحة التي صورها الرسام ، والصفات تنطبق على العديد من الأشخاص، وقد اهتمت السلطة بإلقاء القبض عليه لأنه في نظرهم خارج عن القانون ، ذلك لأنه خرج من مقره دون إشعار ... والملفت للغرابة أن نفس الظاهرة تحدث في أضرحة أخرى في البلاد ، وينتشر الخبر المرعب كالصاعقة في جميع الأنحاء ، مما يجعل مهمة الإمام مستحيلة في إقناع الناس بوهمية وجود سيد الضريح .

   ومما يزيد العرقلة لعملية البحث هو ادعاء كثيرين أنهم سادة الضريح، مما يجعل السلطة تستقر عند حل واحد، هو الإتيان بذلك الكهل الذي زعم أنه خرج من الضريح وإعادته إلى الضريح وإعادة بنائه كما كان ، وأن يشاع خبر إيجاده حتى تسترجع البلاد عافيتها من هذا الجنون، في حين يبقى البحث عن سيد الضريح الحقيقي مستمراً في ظل احتمال استحالة العثور عليه.


سيمياء العنوان

   إن التساؤل الذي يشرع لنا طرحه في هذا المضمار، هو هل كان الكاتب عبدالله خليفة موفقاً في اختيار ( سيد الضريح ) عنواناً للقصة؟ أو بعبارة أخرى، هل قام العنوان بوظيفته البنائية المتمثلة في استفزاز واستدراج القارئ إلى الولوج  إلى عمق النص؟

   فأول مدخل للنص يكون عن طريق العنوان الذي ألفيته من حيث تركيبته اللغوية يتكون من أسمين، الثاني منهما مسند إلى الأول، وبذلك يكتمل تعريف الأول (سيد) بإضافة الثاني (الضريح)، أي (سيد الضريح). وكلمة (سيد) كما هو شائع تطلق عادةً أو تستعمل تسميةً لأشخاص معينين تخصيصاً لمكانتهم سواء كانت اجتماعية ، سياسية، ... كما أن الضريح هو المكان الذي يحتوي الإنسان ، بعد مماته وهو قبرٌ لكن ليس عادياً ، فهو متميزٌ بارتفاعه وشكله وأحياناً تعلوه قبة، وذلك لمكانة صاحبه في النفوس ، ولهذا نجد هذه الإضافة بين سيد والضريح متلائمة ومتناسبة، وهي في عمقها تؤكد لنا إمكانية إضافة الإنسان للمكان بعد أن أضحى المكان في علاقة جدلية مع الإنسان، فهو يحتويه منذ أن يتخذه من رحم أمه مكاناً وفي حياته اليومية إلى قبره الذي هو مكانه الأخير في الدنيا.

   ومن جهة أخرى فقد أصبحت هذه العلاقة، في القصة، علاقة فاعلية أي أن لضريح أضحى مؤثراً في الشخصية، بحيث يلفظها لتنتقل إلى خارجه وبهذا يتشكل الحدث في القصة وينتهي عنده .

   فالقصة إذن تنطلق بدايةً من عنوان يحملُ دلالةً مكانية متنوعة وبلغة مكانية، ويمتدُ هذا التركيز المكاني إلى القصة وأحداثها وحركة شخصياتها وبهذا يصبحُ العنوانُ بوابة النص.


شعرية القص في قصة «سيد الضريح» 

   إذا كان (تفاعل العناصر المكانية وتضادها يشكلان بعداً جمالياً من أبعاد النص الأدبي) (1)، فالجمالية هي (بحث عن نسق العناصر المكونة للظاهرة لبيان الوظيفة التي تقوم بها داخل العمل الأدبي بشكل عام) (2).

والشعرية ببساطة هي رؤيا تعتمد فلسفة متداخلة بالجمال وهي تلك التي ينتجها المتلقي في تعامله الجاد مع عناصر العمل الأدبي ، بحيث تصبح اللغة وسيلة وغاية في حد ذاتها .

   كما أنه بعد تعمق في بنية، القصة لاحظنا اشتراك عناصرها وتداخلها وتفاعلها وهذا ما أضفى على النص شاعرية ومن أولى هذه العناصر:

شعرية المكان

   الأمكنة عموماً في «سيد الضريح»، عناق بين الواقع والأسطورة والطابع الخرافي ، حيث يتأرجح القاصُ في وصفه للمكان بين الواقعية والعجائبية ثم أمكنة واقعية وهذا امتثالاً لتكسير رتابة الأحداث المكانية كما هو معروف في القصة الكلاسيكية، فنجد القاصَ يضفي على الضريح أبعاداً أسطورية جعلته يسمو إلى مستوى شاعري فني، حيث يبدأ بوصف الضريح كما في الواقع ليشوش أبعاده فيما بعد بأوصاف أسطورية وبلغة مراوغة ستوقف حيرة القارئ .

   وهذا ماثل في قوله :

   "أجسادٌ متلاصقة، أطفالٌ وشيوخٌ ونساء ورجال هم شبه عراة والضريح بقبته الكبيرة يحدق بهم ، بأطره الذهبية الواسعة وعيونه الخرزية الكثيفة المثيرة ".

   وهو وصفٌ ينمُ عن جوٍ محزن يسودهُ صمتٌ رهيب وهو أشبه بمشهد كارثي إنساني، جاء بلغة عادية بسيطة لعلها تمهيد لتخفيف صدمة القارئ بذلك الوصف العجائبي فيما بعد ، حين يغوصُ بنا في اللاواقع الذي يستفزنا:

   "بغتة تنشقُ القبة، المعدنُ الصلب انصهر أولاً، وأخذت الأحجارُ التي تكلست منذ قرون تتصدع وانهارت كتلةٌ ... ومن الغبار والعتمة والنار وظهر رجلٌ كهلٌ تطلع بخوفٍ إلى زواره .. نزل بهدوء وغياب وحزن". وهي عبارةٌ تحيلنا إلى أسطورة البعث تفنن القاصُ في تشكيلها وتوظيفها، حيث يعيدُ تكوين هذا الكهل من الغبار والعتمة والنار ويبعثه من جديد، وقد تسنى للقاص هذا الوصفَ الغرائبي عن طريق الألفاظ والاستعارات (التي تقوم لدى الأديب مقام الألوان لدى الرسام والنغم لدى الموسيقي) .

   كذلك في وصف القاص لمكان شعري آخر لا يقل عن سابقه في قوله: 

   "صاح طفلٌ قرب قدمه. مضغةٌ صغيرة من لحم متوارٍ وعظم بارز".  وأيضاً "يبكي من هذا الخلود في حمم البشر، يسبح في برك الأعضاء والعيون إلى ما لا نهاية له من اللحم والنار"، فهناك أمكنةٌ أسطورية ابتدعها خيالُ القاص جعلتنا  أمام مشاهد ميتافيزيقية سريالية، بصيغة درامية تبعث الأسى والذي تعانيه الشخصية ذاتها .

   ولتعميق الصدمة في نفس القارئ، فالقاص يتجهُ إلى تفاصيل هذا المكان الذي أضحى أسطورياً:

   "في العتمة الطويلة . . إلى النهر الصاخب من الدموع . . كتل من العظم الأنثوي الذي تــُغرز فيه الحممُ. . قطعٌ من أكباد الأطفال تشوى تحت أنفه . . ولا تستطيع سحبُ البخور أن تدهس رائحة اللحم البشري المحروق . . وأثداء النسوة التي تنغرزُ فيه السجائر والأسنان والإبر . . ".

   فهذه الأوصاف التي أضفاها القاصُ على المكان أي الضريح مثيرة للغرابة والدهشة لدى القارئ الموهوم بالواقع والتاريخ وذلك بمعناها أولاً، وبالتركيب اللغوي ثانياً، والذي تخلخلت فيه العلاقة بين الألفاظ ومدلولاتها، والأسماء بأفعالها، وهذه هي عدة الشعرية.

   وفي تكسير لمحدودية المكان، نجد القاصَ ينتقل بالشخصية «سيد الضريح» إلى الشارع:

   "كان الشارع المعتم البارد ينفجر فيه دوي السيارات المندفعة . . حدق في الأجساد الحديدية الضوئية بذهول".    وهذا الانتقال في الأمكنة أدى إلى تكسير نمطية الحدث فيما بعد. وهذا كان ظاهراً حتى من حيث شكل القصة على مستوى ترتيب المقاطع الذي سببه اللاتسلسل في الأحداث وهو سمة القصة الجديدة.

   ونلاحظ أن القاص يتجنب المباشرة في وصف ملامح المدينة ومقتضيات العصر، هذا العصر الذي طغت فيه الماديات. . وكأن القاصَ من خلال أسلوبه هذا في الوصف مستاء من الوضع هناك. وقد تكرر ذلك في كثير من المقاطع "يتنازعون القطع الصفراء . ."، و"رآه يتحدث في شيء صغير أسود"، و"كانت الباصات المشحونة تقذف بشراً كالنمل في الميدان وتطلق سحابات من دخان موجع . . نزل رجالٌ بملابس متشابهة يصفرون ويحدقون بأضواء طويلة حادة . . ويضربون بعصي طويلة، ووجد نفسه يتسلل إلى أزقة طويلة كجحور الفئران والأرانب . . ". وكأن القاصَ في تعبيراته هذه عن خصوصيات المدينة يتجاهلها بعدم ذكر أسمائها المتداولة في هذا العصر . ومن جهة أخرى فقد كان لهذا الأسلوب أثر على اللغة بحيث اتسعت الدلالة وتركت أثراً جمالياً على النص . وهذا النشوز من المدينة المعاصرة الذي نلتمسه عند عبدالله خليفة يعلق أحد النقاد بأن (عبدالله خليفة يسترسل في تأمل مجتمع ما قبل النفط ويقارنه بالتطورات الحاصلة بعد اكتشافه ويربط ذلك كله بأزمة القيم الأصيلة في هذا المجتمع المتغير)(3). 

   وقد ورد في القصة تسميات الشارع، المكتبة، الباصات، الأزقة، الحواري، الجدران . . استطاع القاصُ توظيفها بطريقة فنية هادفة في صيرورة الأحداث وحركة الشخصيات كما (أن التعبير بأطر المكان عن هندسة المدينة (شوارع، جدران) هو تعبير عن  إشكالية حضارية صميميه ووجودية مؤلمة تضربُ بأطنابها في صميم الواقع النفسي والمادي للإنسان المعاصر، فتخلخل علاقته بالمكان ويصبح أكثر مأساوية).

   وهذا ما يجعل القاص – في محاولة الابتعاد عن السطحي – يتجاهل أشياء المدينة وأطرها بإعطائها أوصافها دون أسمائها. وتعميقاً لمأساوية الواقع بأبعاده المختلفة، قام القاص باستعارة تاريخية تمثلت في توظيف شخصية لا تبت بصلة لهذا العصر بزمانه ومكانه، وتتجلى هذه المأساة اكثر حين تدرك الشخصيةُ المستعارةُ هذه التناقضات من حولها، فالقاصُ يتعمدُ في تحميل هذه الشخصية حالة نفسية صعبة على أثر انتقالها إلى مكان آخر وزمان آخرين.

   وفي هذا النص تبرز قيمة التقاطبات المكانية – كما اسماها «يوري لوتمان» – بشكل واضح، فهي تقنية يوظفها القاصُ في الكشف عن الدلالات المتعددة في النص الذي يتعامل مع المكان، وهي تساعد القارئ في مهمة البحث عن شاعريته (المكان) وجماليته المستترة وراء اللغة.

   فالملاحظ أن هذه التقاطبات تــُضفي مسحة جمالية على النص الذي بات لا يستغني عنها لتوضيح أهمية المكان فيه ووظيفته.

   ومن خلال حركية هذه المتناقضات المكانية نستطيع التعرف إلى كيفية بناء المبدع للنص، وكذلك فهو لا يصوغها اعتباطاً وإنما هي مقصودة لتحيلنا إلى أبعاد دلالية لا حصر لها وبالتالي تدفعنا إلى إعادة تأويل المكان، ونجد في النص أمثلة كثيرة:

ثنائية الانغلاق / الانفتاح

   الانغلاق في الحيز المكاني يبرزُ في:

   الضريح: وهو مكان منغلق أشبه بالسجن وهو يقيدُ حرية الشخصية «سيد الضريح» ويحدد حركته بجدرانه، وبذلك يصبح مكاناً لا يشجع على البقاء والاستقرار. وهذا ماثل في قوله: "أرجوك هد هذا الضريح عليّ، دعني أموتُ ولو مرة واحدة . .".

   وأيضاً في: "وهو محبوس بين الجدران والظلمات كان يتعفنُ وينشرهُ الحزن ُ. . ". وبذلك فالضريح مكان منغلق ومن هذا المنحى – تظهر العلاقةُ بين الإنسان والمكان بوصفها علاقة جدلية بين المكان والحرية، لأن الحرية (هي مجموع الأفعال التي يستطيعُ الإنسان أن يقوم بها دون أن يصطدم بحواجز أو عقبات، أي يقوم بقوى ناتجة عن الوسط الخارجي من لا يقدر على قهرها أو تجاوزها)، (4). 

   فهو مكان مثير للقلق والضجر وهذا ما يظهر جلياً في قوله: "لا أعرف كيف سجنتموني بين هذه الجدران . .  "، وبالتالي يصبح الضريح سجناً – كما سبق الإشارة إليه – مقيداً لحركة البطل وقمعاً لرغباته .

   القاعة البلاطية: وهي مكان منغلق يحملُ في طياته الداخل الذي يحيل إلى الخارج وهي ذات السقوف الواسعة اللامعة والأعمدة الهائلة، وهي تضم مجموعةَ البشر على اختلافهم (نساء، أطفال، رجال . .) وهي تدل على الاتساع لاحتوائها ما سبق ذكره .

   البوابة: وهي تحملُ جدل الداخل / الخارج، أي المكان المغلق الذي يحيل على المكان المنفتح، وقد تجلى دورها في القصة كونها الوسيط الذي ولجت من خلاله الشخصية «سيد الضريح» إلى العالم الخارجي إلى الشارع .

   الشارع: وهو مكان منفتح، تكثرُ فيه الحركة، وهو رمز للحرية والانفراج "والآن يعود للحرية ويشعر بطاقة عظيمة قادرة على الفعل وانفتاح كبير على الفرح"، فالشارع مضاد تماماً للضريح، بحيث يطلق العنان للشخصية في حرية تحركها وانفراج أزمتها النفسية التي عانتها في ذلك المكان، بحيث يشعرُ بالفرح بعدما كان يغمرها الحزنُ والضجر من سوء المصير.

   الرصيف: وقد ورد ذكره في النص بطريقة وصف غير مباشر "ثمة طريق مبلط يمشي عليه المارةُ، سار هو عليه أيضاً . ."،  لم يكن له دور فعال في القصة، وإن كان من ناحية أخرى يرمزُ إلى ضياع الشخصية في عالم لا تعرف عنه الكثير، وهو بذلك مجال مفتوح تنبعثُ من الحرية .

   الظلام / النور: هذه الثنائية كانت الطابع السائد في القصة منذ بدايتها إلى نهايتها وقد ورد ذكرها صراحة في كثير من المواقف.

   فالظلام: يستقطب جميع تلك المناظر والظواهر المثيرة للحزن والاشمئزاز والتي صنعتها الأمكنة المنغلقة كالضريح، الذي تملؤه العتمة والظلام – والكهف الذي يملأه الدم والأسمال والدموع والأرواح المعذبة وجثث البحارة الغرقى والعمال المحروقين . .

   ودلالات الظلام تتمثل في تلك المظاهر التي تحمل في طياتها معاني الموت (حمم البشر، الجنازات، الأنين، الدمع، الروائح، الحزن . .) ومعاني المرض والغضب والألم والمصير المجهول الذي عرفته الشخصية «سيد الضريح» ومعاناته طوال أحداث القصة، وفي مقابل ذلك نجد:

   النور: الذي يستقطب كل مظاهر ومعاني الانفراج والحرية والحياة والانبعاث والميلاد والضوء والسعادة وقد تجلى بوضوح في القصة (الذهب المتناثر، النار، اللؤلؤ، النهار، الاستمتاع بضوء الشتاء، القلوب الوردية، المياه، الكنوز، الراحة، الهدوء، الصلوات بين الأضواء والتلال . .) وهذه الثنائيات المكانية المتضادة لم تلغ بعضها وإنما تكاملت فيما بينها لكي تقدم لنا المفاهيم العامة التي تساعدنا على فهم كيفية تنظيم واستغلال المادة المكانية في القصة . وبذلك يظهر دور المكان واضحاً في تجسيد الصراع والتناقضات داخل الشخصية.

العلو / التدني:

القبة: وهي تمثل الارتفاع، فقد وضعت على الضريح تميزاً له، وهي ترمز للسمو والترفع الأخلاقي والاجتماعي، في مقابل هذا نجد معاني التدني والانحطاط الذي جسده القاصُ في أماكن الانبساط والانخفاض أي في الشارع والذي هو جزء من المدينة، والتي تبدلت فيها القيمُ الإنسانية كما نقلت لنا ذلك شخصية «سيد الضريح».

   علاقة المكان بالشخصية:

   نجد من خلال تلك الأوصاف التي خلعها القاصُ على الأمكنة خاصة الرئيسية منها للحدث، فقد كان لا يهدف من ورائها إلى تصوير المكان وتقريبه إلى ذهن القارئ، بل كان يقصدُ إلى تجسيد الحالة النفسية المتأزمة غالباً للشخصية الرئيسية وهذا الاهتمام جعل القاص يصوغُ المكنة وفقاً لهذه الحالة، وذلك بما احتواه هذا المكان من أشياء وظواهر تنمُ عن أحاسيس الشخصية ومشاعرها التي تنوعت بين الحزن والغربة والخوف والفرح والاستغراب أحياناً والدهشة. .

   فالمكان كان مؤثراً أساسياً في الشخصية حيث نجدهُ يحدد حركته ويطوق حريته في الضريح ويبعثُ على إثارة مشاعر الحزن و الاشمئزاز والضجر مما يجري هناك من طقوس. . إلى الشارع الذي يشعرها بالفرح والحرية والانفتاح.

   والملاحظ أن تواجد الشخصية في مكان غير مكانها وزمان غير زمانها وذلك بسبب الاستعارة التاريخية التي التجأ إليها القاص حيث بعث هذه الشخصية من جديد بجميع أبعادها وجوانبها، إلى عالم آخر شبيه بعالمنا الحالي. 

   ولهذا نشأت تناقضات نفسية داخل الشخصية أفرزتها تلك التناقضات بين عالمها الماضي والعالم الحاضر.

ويظهر أن القاصَ يميلُ إلى التجريب في رؤية المرحلة التاريخية، وحركة الواقع مما يؤثر أحياناً على وحدة التأثير، واتساق الدلالة، غير أنه يعوض عن نزعة التجريب ونهج التبسيط بشاعرية لطيفة ولغة تعبيرية عذبة، لصالح نبض إنساني دافئ لا يخفى على القارئ.

   الخوف من المكان: لأن الشخصية الرئيسية وخاصة أنها من زمن ومكان آخرين تعاين المكان باستغراب، وشعور خوف حاد، ربما لهذا مبررات منها سذاجة البيئة التي تعرفها وبساطتها، وعجائبية المكان الآخر، وغرابته وطرافته أحياناً، وهذا ما يظهر في القصة: "نظر في الأجساد الحديدية بذهول، سمع كلاماً غريباً وراءه . . التفت فوجد إنساناً ذا ملابس غريبة، ثمة قطع حديدية على كتفه . . الآخر يحدق فيه كذلك باندهاش".  وغيرها من الأمثلة التي تثبت أن المكان كان مؤثراً رئيسياً في الشخصيات وتناقضاته أدت إلى تناقضات داخله فأصبحت واقعة تحت صدمة واقع مدهش وغريب، ولذلك فحس الضياع بقى ملازماً له ما دامت ملازمة لهذا المكان، الذي تجهل معالمه، وما دامت غير مدركة له سواءاً كان ذلك في الضريح أو خارجه (الشوارع والأزقة)، وكل ما يحيط بالبطل غريب عنه، وتجلى حسُ الضياع في ذلك الحوار الداخلي، الذي أجرته الشخصية مع ذاتها: "ماذا فعلت بنفسك؟ لا سكن ولا طعام ولا لباس، عار كذاتك، كروحك المباعة عبر القرون . . كنت في العزلة الحجرية ملكاً والآن عليك أن تبحث عن كسرة خبز"،  وفي قوله أيضاً: "فوجد نفسه يتسلل إلى أزقة كجحور الفئران والأرانب وقد امتلأت بمياه المطر، ووجد المسجد مغلقاً". وهذا دليل على أهمية المكان بالنسبة للإنسان كما أنه هو الذي رسم ملامح الشخصية، وبرر سلوكها، فكونها لا تعرف المكان الجديد عليها أي المدينة أصبحت غريبة وتخلخلت علاقتها به، فأصبحت أكثر مأساوية، وكبرت هذه المأساة عندما تجد الشخصية ذات الأصول القديمة نفسها متورطة في عالم آخر، كل ما فيه مخالف لعالمها الأول، "ووقف تحت عمارة كبيرة، رأى سلعاً غريبة . .". وهكذا نلاحظ أنه يعاني الاغتراب في هذا العالم الجديد، ويحاول القاصُ أن يوسع الهوة بين الشخصية وهذا العالم بذكر تفاصيله: "نزل رجالٌ بملابس متشابهة ويصفرون ويحدقون بأضواء طويلة حادة . . ".

   مكان الحضور والغياب (الهنا والهناك)

   يتجسد استحضار شخصية البطل لماضيه وهو في الصحراء، وهو مكان يبدو أكثر تغلغلاً في بواطنه، وهذا الاستدعاء لمكان (الهناك) نتيجة الحالة النفسية المتأزمة بسبب مكان (الهنا) الذي هن الضريح. ولهذا نجد الهناك وهو مكان الذكريات التي استدعاها البطل كمخلص تلتجئ إليه الذات للهروب من أزمتها.

   والملاحظ أن انتقال الشخصية من مكان إلى آخر، يرافقه تغير في الأحاسيس والمشاعر، كما أن المكان عموماً هو الذي أكسبه أبعاده المختلفة. وقد تجلى مكان الذكريات (الهناك) في كثير من المقاطع "طفولته التي عانى فيها كثيراً من رعي الأغنام وضرب الأولاد . . ومسيرته في الصحراء يقود جماعة مهلهلة . . حضر كل جنازة صعبة، وشارك في الحروب المريرة . . يحتمل كل شيء سوى أجساد الأطفال التي تحشر قرب قدميه مشوهة بالفحم والأسنان". . رغم معاناة الشخصية في زمانها ومكانها السابقين  إلا أنه لا يفوق معاناته في المكان الحالي الذي تعيش فيه ومن هنا تجلى الزمن باعتباره تاريخ الشخصية، ثم يظهر مرتبطاً بالتطور الذي عرفته المدينة فيما بعد، "ما هذه الملابس العجيبة هل تمثل ، لكنني لا أرى آلات تصوير؟".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* المركز الجامع يبشار ــ معهد اللغة العربية وآدابها

الجزائر

(1): من مقدمة كتاب جماليات المكان ، ص 03 ) .

(2): أحمد طاهر حسنين، جمالية المكان، جماعة من الباحثين، عيون المقالات، الدار البيضاء، ط2، 1988، ص 21 .

(3):عبدالله أبوهيف ، مجلة الراوي ، ص 13.

(4):سيزا قاسم دراز، المكان ودلالته، ص 59 نقلاًعن حبيب مونسي، فلسفة المكان في الشعر المعاصر ص 94– 95).


لحن الشتاء وآفاق ربيع مفعم بالشجن


فريدة النقاش*

   

حالة كابوسيه للعالم تتكرر في اعمال القصاصين العرب من المحيط الى الخليج وتكتسب في كل بلد سمة خصوصية. تدخل في حالات تحول غير بشرية. وحيث تتشوه صورة العالم وتنقلب راسا على عقب في اعمال الجيل الجديد من القصاصين ويتأسس الكابوس في الواقع لا في الحلم ويتخذ صورة الاحتجاج البارد على التحول الوحشي في شكل الحياة.

   اما الكابوس في قصص عبدالله خليفة فهو بوليسي الملامح مختزل الى مفردات شاسعة تدخل في سياق القصة ببراعة، وتصبح جزءا من نسيجها الحي، تضيء جنبات الحياة الصاخبة وتتبدى جزءا اصيلا من الصراع الضاري في كل تفصيلاتها.. الصراع الذي لا يهدأ ابدا.

   من مجموعته «لحن الشتاء» سوف نلاحظ ان اختياره لعناوين قصصه التي تحمل هذه الاسماء «الغرباء» «الكلاب» «اغتيال»، «الملاذ»، «الصدى»، «الوحل»، «لحن الشتاء»، «القبر الكبير».. هو اخيار واع للغاية يحمل في ذاته رأيا وخلاصة.. في مواجهته مجموعة اخرى من الاسماء تحمل بدورها رأيا وخلاصة «حامل البرق»، «نجمة الخليج»، «السندباد»، «الطائر».. ولم تكن عناوين هذه القصص لتستوقفنا طويلا لولا ان صميم بنائها يقوم على ذلك التركيز التلغرافي الذي يكاد يحملها الى ساحة التجريد، ويفتح الباب واسعا للمقاربة بينها وبين قصص محمد المخزنجي ومصطفى حجاب ومحسن يونس في مصر حيث التشابه بين القصر والتكثيف البالغ للقصة من جهة، والغنى الداخلي الذي ينبثق من تركيب الجملة واختيار الكلمات ومركزية الواقعة من جهة اخرى. 

   قصة «الغرباء» تقع في ثلاث صفحات وتسقط من معمارها الاف التفاصيل ليحتشد موضوعها كله في تلك الواقعة المركزية وهي اغتصاب الغرباء لبيت الرجل وتواطؤ بعض اهله في تثبيت هذا الاغتصاب ومن قهر صاحب البيت وجره الى السجن، ويتم ذلك كله في مشهد كابوس يحيلنا مباشرة الى الواقع (الاغتصاب) في اوطاننا والى تواطؤ بعض ابناء جلدتنا في تمهيد الارض له دون ان يسوق الكاتب هذا المعنى من موعظة او اشارة مباشرة للواقع او تعليق منه.. ولكنه يسوق تعبيرا يبدو بريئا وعرضيا للغاية حين يقول: "بعد لحظات كان عدة اطفال صغار يتدافعون الى منزلي، اقصد المنزل". يحمل هذا التصميم والتعريف للمنزل المعنى الابعد والاعمق من الاغتصاب الاني ومن الحدوته، ويستكمل هذا المعنى بعده وعقبه حين يتواصل المقطع قائلا:" وقفوا امامي بدت الدهشة على وجوههم. كأنهم يشاهدون هنديا احمر".

   يستدعي مشهد الهندي الاحمر في صلته الوثيقة (بتعميم)، (المنزل) وتعريفه كل اشكال الاستئصال التي عرفها التاريخ وعمليات الابادة التي تعرض لها البشر من قبل وما زالوا يتعرضون لها. وذلك دون ان يستخدم الكاتب مفردات محددة تحمل هذه المعاني او تدل عليها ويستكمل هذا المشهد المعنى الاكثر شمولا لفكرة الاغتصاب التي تدل عليها الواقعة.. اذ يتجاوز حدود الوطن ليحظى بعالميته دون ان يقدم خطبة سياسية.. حيث يقف صاحب الدار رمزا بريئا لكل المضطهدين والمهانين والذين اغتصبت ارضهم.

   يتسع عالم عبدالله خليفة لمحنة الطليعة التي تنطح رأسها في صخر الوعي الزائف وغيبة الجماهير وبؤسها والحصار المضروب حولها.

   كانت باريس رائعة، عرض عليه العمل فيها، لكنه رفض وشرح لهم عن ارضه الصغيرة. ضحكوا عليه لانهم لم يروها عندما بحثوا عنها طويلا، وعندما حدثهم عن قراها واطفالها ونسائها تحولت الضحكات الى وجوم حزن عميقين.

   هكذا يقول الفتى العائد الذي اختار بؤس شعبه بديلا لألق العاصمة العالمية وافاقها التي لا تحد.. ليقف رغم كل شيء مع هؤلاء الذين "يغطون في سبات عميق" في هذه القصة «هكذا تكلم عبدالمولى» نتبين طبيعة القوى الرجعية التي تسوق الناس الى الوراء ورنة الاسى العميق والشجن الخالص وفقدان الصبر الرومانتيكي لدى هؤلاء الذين يسعون لكي يفتحوا للناس باب التقدم الطويل..

   يقول الصديق لصديقه القادم من باريس بعد ان اصطدم المرة تلو المرة بجدار الزيف والصمت "انهم لا يرفضوننا ولكن هناك اصحاب مصلحة يدفعونهم لرفضنا. خلفان وعبدالمولى يدفعان لذلك. هل تحسب تغيير الواقع نزهة خلوية..؟".

   ورغم ان مهنة المثقف الطليعي الذي عرف الحضارة الاوربية وتملك جوهرها وعاد مع ذلك الى وطنه المتخلف تأتي هنا في سياق جديد. يتسق مع الحساسية المعاصرة عامة التي تحمل طابع الحدة والتمايز الشديد في الخطوط والمواقف فأنها تعيد الى الاذهان على التوحيدة طبيب «قنديل ام هاشم» ليحيى حقي الذي عاد بدوره من اوربا واسئلة بطل «عصفور من الشرق» لتوفيق الحكيم، وومضات خاطفة من تجربة بطل «الحي اللاتيني» لسهيل ادريس، رغم ان عودة حسين بطل هذه القصة الى وطنه هي عودة حاسمة لا رجعة فيها فأننا نشعر كأنه قدم مختصرا لإجابة واحدة حاسمة مركزة..

   "كان امامهما منعطف، قال الآخر:

   ــ الى اللقاء.

   ــ لا تيأس يا صديقي.

   ثم يدور حوار داخلي بين الصديق ونفسه على النحو التالي:

   "ها هم الاصدقاء في بداية الطريق ييأسون. سوف يستمر عملنا عشرات السنين. سنسير في درب الآلام غارقين في برك الدم والوحل. كيف سيظلون معنا؟".

   فجأة غاصت الدنيا في عينيه وسقط على الارض. تبين بعض الرجال. انطلقوا ينهشونه. احس بلحية عبدالمولى الخشنة. ثم بأسنانه الحادة تقطع لحمه في لذة ونشوة.

   قال في حزن واسى:

   ــ كونوا مع الفقراء أيها الفقراء".

   ويا لها من مهمة.

   ورغم القضايا الجوهرية التي تثيرها هذه القصة فان بعض مقاطعها تسقط في الانشائية والمباشرة وان كنا سوف نجد لها تبريرا قويا في طبيعة المكان الذي تدور فيه الواقعة المركزية في القرية وهو النادي الذي يريد «حسين» العائد من باريس ان يحوله الى منارة للوعي.. ويستغله الرجعيون لحماية المصالح القائمة.

   لا يقدم خليفة في قصص المقاومة التي يشبعها انسانية وعذوبة ـــ لا يقدم سوى انتصارات معنوية ينسج عناصرها بدأب. في قصة «الصدى» يقوم النائب العام بإصدار حكم بالسجن لعشر سنوات على طالب صغير ضبط البوليس لديه الة كتابة واسم البطل الصغير «مهدي» وحين يسأله هل تريد ان تقول شيئا.

   يقول:

   "ــ حضرة القاضي . انا اعترف بملكية هذه الالة، وقد كتبت هذه الاوراق حتى يعرف الناس كيف يعيشون ويعملوا لتغيير حياتهم نحو الاحسن، الشعب ينبغي ان يعيش بارتياح، يأكل اللقمة الهنيئة، ويربي الاطفال الممتلئين صحة وعافية، وينام والاحلام الحلوة تداعب اجفانه.

   انا لا اخشى هذه السنوات العشر فأمامي الحياة طويلة، واستطيع ان اتعلم في السجن واغدوا رجلا كالصخرة".

   واينما اتجه النائب العام يجد ان كلمات الفتى الذي ساقه الى السجن قد شاعت كالريح رغم ان الجلسة كانت سرية.. ووجد تعاطفا شاملا مع الفتى الصغير واعجابا بجرأته.

   "حلم بالفتى الصغير يكسر الاحجار على شاطئ جزيرة صغيرة بعيدة. عندما اقترب منه شاهد الصخور تتفتت بين يديه. وقف الفتى فجأة وراح يصرخ بشدة وعنف، ومضى يقذف الاحجار عليه فأصابه واحد في رأسه.

   صحى مذعورا وجد الدماء تبلل قميصه وسريره وزوجته وجدران الغرفة..".

   انه انتصار الفتى السجين.. الذي سيظل سجينا لعشر سنوات من شبابه.

   تقدم مجموعة «لحن الشتاء» كاتبها ليشغل مكانا مرموقا ومتميزا بين كتاب القصة القصيرة في الوطن العربي واجدني مدينة له باعتذار انني لم اعرفه الا حين زرت الخليج. وحين يتأمل المرء هذه المسألة سوف يجد ان مهمة اضافية تقع على عاتق المثقف العربي اذ عليه ان يسعى بنفسه الى بلدان وطنه حتى يعرفها على نحو صحيح ما دامت القيود على تبادل المطبوعات صارمة كصرامة البوليس والقوانين المقيدة للحريات التي تمتد على الساحة من المحيط الى الخليج.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

* رئيس التحرير لمجلة أدب ونقد المصرية



قراءة في أعمال الأديب عبدالله خليفة


د. باربارا ميتشالاك*

   نشر عبدالله خليفة في عام 1975 مجموعته القصصية الأولى «لحن الشتاء» التي تلامس موضوعات سياسية تتصل بالكفاح من أجل الاستقلال. وفي نفس العام تم اعتقاله حيث بقي في المعتقل مدة ست سنوات. وفي السنوات التالية حتى يومنا الحالي نشر سلسلة من الكتب تتضمن روايات وقصصاً قصيرة.

   وفي البداية ركز عبدالله في تقديم حياة الأشخاص العاملين في البحر، أمثلة من هذا يمكن أن تجدها في رواية «الهيرات» حيث تتركز الحبكة بأكملها حول البحر الذي يمثل العنصر الرئيسي للعالم المقدّم في القصة. فهو من ناحية أولى يمثل شيئاً هاماً هو منح الحياة بينما على الجانب الآخر يمثل قوة تدميرية. الشخصيات الرئيسية في الرواية هي أربعة. رجال وولد يعملون جميعاً لدى تاجر لؤلؤ ظالم وبارد القلب. 

   حمدان الذي فقد أباه أثناء العمل في البحر هو الذي يروي القصة حيث يأخذنا خلال مصاعب العمل في البحر التي تشتمل على تجديف السفينة واتباع الأوامر. كمراقب دقيق يظهر الراوي قساوة عالمه المحيط الذي يسيطر عليه الجشع والظلم ضد أولئك الضعفاء. 

   يقدم الراوي الاحداث بطريقة ديناميكية جداً حيث العمل في البحر وتجارة اللؤلؤ، فالقارئ لا يصبح فقط متعوداً على العلاقات بل على الهرم الاجتماعي في البحرين أيضاً، يثري ذلك منظور كلي للحيوات الخاصة لجميع الشخصيات الرئيسية ويؤازر كل هذا الأوصاف الكثيرة لشروق الشمس وغروبها، أحداث الارصاد الجوية، والبحر نفسه.

   يواجه القارئ بجرعة كبيرة من المشاعر السلبية منذ الصفحات الأولى في مجموعته القصصية «يوم قائظ» ويتمثل هذا غالباً بالتململ، الغضب، خيبة الأمل والحزن. في قصة «الدرب» التي تفتتح المجموعة يقدم العالم كأنه مبني على أوصاف فنية ديناميكية وعنيفة: "واجهنا حقلٌ من النخل ، جذوعٌ منتصبة بانحناءات مكسورة ، مجموعة من الشيوخ الشحاذين على أبواب الصحراء . . تمدُ أيديها للماءِ ولكن البلدوزر الأصفر يمدُ لها أسنانـَهُ . . تجتاحُ الأعشاب . . يجتاح الأعشابَ والفسائل الصغيرة يقطعها بحدة وقوة ، ننظر إلى الشمس الصاعدة نحو قلبِ السماء ونخفضُ رؤوسنا بسرعةٍ ، إنها تعصرُ القلبَ وتشربُ الدمَ .

يطعنُ البلدوزر النخلة الشامخة ، تلك التي تنتصبُ في عمق الطريق ، يجأر بالغضب وهي تقاوم بصلابة ، يتناثر (الكرب) فوق الأرض وتنتزعُ الأسنانُ تلك القشرة السوداءَ لتصلَ إلى البياض الجميل ، تنحني النخلة قليلاً ، تغوصُ الأسنانُ ، يرهفُ السمعَ إلى الأرض اللامبالية.. تقطع السكينُ الضخمة النخلة فتتهاوى جثتتها بصخبٍ ، ننطلقُ إليها ، نرفعها بسرعةٍ وخفة ونلقيها حيث تجمعت الجذوعُ في مقبرة هائلة".

   ان وصف النخلة وهي تُقتلع يصور العلاقات من ساحة معركة غير متكافئة فالنخلة تنهي مقاومتها للآلة ويصبح الانسان في درجة أدني ويقوم بدور مشغل الآلة حيث يقدم المؤلف صورة عن المعركة التكنولوجيا والطبيعة التي لابد ان تخسر الطبيعة فيها.

   في القصتين المعونتين «أمّاه أين أنت؟» و"الخروج» الشخصيات الرئيسية هي السجناء. ففي القصة الأولى يقدّم العالم واقعاً كئيباً لزنزانة سجن صغيرة: "أفقتُ في الليل . كان الفجرُ وشيكاً . تبينتُ النورَ البازغ في إضاءة شفافةٍ شاحبةٍ تسربتْ غلى النفاذة العاليةِ . الصمتُ ، الهدوءُ ، يشمل زنازينَ السجناءِ والمطبخ وبناية الشرطة العالية المحدقة بالسجن.".

   على الرغم من ذلك حينما نعبر بوابة عقل السجن ندخل إلى عالم أكبر من الذكريات والرغبات التي تمتد على نحو مقرر خلف الاهداف وخلف جدران السجن والجزيرة التي يقع فيها: "أنا كنتُ بلا حلمٍ رائع ، بل ربما رأيتُ فيما يرى النائمُ قبضة تهوى على رأسي . كان فضاءُ الحلمِ ظلاماً شاسعاً ، وكانت ثمة شراراتٌ غريبة تتوهجُ ، كأسماكٍ تتقلبُ في الماء . وكان صوتٌ مألوفٌ يدغدغ ذاكرتي وكنتُ أسبحُ في الظلام بأجنحةٍ وأبكي بصوتٍ خافتٍ.".

   ليس واضحاً من محتوى القصة سبب وجود هذا المعتقل في السجن ونحن حتى لا نعرف أسمه. أفكاره، رغباته وعلى الخصوص معاناته التي يعيشها، ليست جميعاً بسبب ظروف الصرامة لكن بسبب افتقاده لأمه وهو الشيء الأكثر أهمية. سبب الألم هو الوعي بأنها ربما لم تعد هناك حينما يتم الافراج عنه. الراوي الذي هو في نفس الوقت من الشخصيات الرئيسية ينقلنا إلى عالم داخلي عميق. المرور عبر بوابات النفس الانسانية يفتح حقلاً واسعاً للمنظور السري للمؤلف حيث يتوقف عن الاتصال بإطارات المنطق والنتيجة.

   الشخصيات المجهولة التي ترسم صورتها الظلية في عالم بعيد عن الكمال هي كل من الراوي والشخصية الرئيسية في نفس الوقت في كل قصة من قصص هذه المجموعة. كل واقع مطروح هو نوع من السجن لكل واحد من هذه الشخصيات بصورة حقيقية تقريباً. فالمهاجر، في القصة المعنونة بـ«الدرب» يقطع أشجار النخيل من أجل إنشاء طريق جديد في الصحراء، هو سجين مسؤولياته الشخصية تجاه ربّ عمله وعائلته. والشخصية المحورية التي تغادر السجن في قصة «الخروج» يصبح سجيناً للحرية في مدينته الأم التي أصبحت غريبة وغير مألوفة. لم يعد له أصدقاء حميمون أو عائلة وأصبحت التغيرات التي وقعت أثناء وجوده السجن غير مقبولة. إن تقسيم العالم إلي فضاءين، البر والبحر له أهمية. البر جاف وخام وغير لطيف ومحدود كسجن في جزيرة. أما البحر فعلى عكس البر، جميل، أزرق، لا نهائي لكنه غالباً يقدّم كمكان غير قابل للدخول لغالبية الشخصيات المحورية. القصة مليئة بالتشاؤم والايمان بأن الاشخاص الذين كانوا في السجن لديهم صعوبات كبيرة في العودة إلى حالة الحرية الكلية.

   الرواية المعنونة بــ «الضباب» هي محاولة لفهم قلق شخص محاصر بسلسلة من الاحداث المحزنة. الحبكة تعتمد على قصة مأساوية لأحمد ناصر البالغ خمسين عاماً وهو كاتب مثقف مدمن مرضياً على الكتب ويحاول أن يتعامل مع مختلف أنواع المشاكل وهو محكوم عليه بالمعركة المستمرة بين الشدائد التي لن يحفظه قدره المخيف  منها. قصته عبارة عن حادثة محزنة تلو أخرى: جريمة، موت، ألم، فقر، جوع، سجن، تعذيب، عدم وجود قوة مميزة، مرض مستشفى وجنون. يحاول أن يستعيد ذاكرته المفقودة بالرجوع إلى الحقائق المختلفة من الماضي بعد إلقاء القبض عليه متهماً بالاغتصاب وإيداعه السجن. ذكرياته تأخذه إلى الوراء إلى طفولته حيث يتذكر الحياة تحت سقف زوج أمة الذي تحوّل من بيت إلى جحيم للسكن. الشخص الايجابي الوحيد في حياته في ذلك الوقت كان جدّه الذي أخذه ورعاه رعاية فائقة. يحاول أن يتذكر ماذا حدث حقيقة لكنه يفتقد إلى المفتاح لكي يفتح به ذاكرته. يتذكر كيف قضى فترة في مستشفى الامراض العقلية الذي لا يريد أن يتركه منذ أصبح في الواقع لا مكان له للذهاب إليه.

   يترك المستشفى ليذهب ويعيش في شقة متواضعة. يبدأ في غسل السيارات وإزالة المخلفات من البراميل ليكسب عيشه. يقيم علاقة مع مومس محلية حيث تقوم برعايته كأنها أمه. نعرف عن قصتها المأساوية بالإضافة إلى قدر متشردين يمران على شقته بالصدفة. ويوجز المؤلف قصته بجملة مقتضبة مفادها أن العالم ليس له ضمير.

   ذاكرته تعود به إلى الفترة التي عمل فيها كمحرر في دار نشر. هناك قابل حبيبة حياته التي تركته لاحقاً مع ابنتهما بسبب صعوبات مادية. وبينما هما يدخلان السيارة يقتلان في الموقع وبذلك الحدث تنتهي حياته حيث يقول إنه لم يبق شيء هناك في البيت عدا الأشباح.

   عنوان الضباب هو موتيفة متكررة في القصص ويرمز إلى النسيان، الصورة المبهمة منة حياة الشخصية الرئيسية، إنه عنوان بارد، كثيف ومرتبط بالدلالة المنذرة بالموت.

   سوء الطالع تسبب في أن يحصل أصدقاؤه على المال والمكانة الاجتماعية بينما راح هو يغسل سياراتهم الفخمة. إنه يتمرد على هذا الواقع وعلى نفسه ويسخر من حياته بالقول إنها علّمت المجانين بجيوب خالية وحياة قد انتهت كما يكشف عن الحقيقة القاسية بأنه الآن لا شيء سوى حيوان. وكنتيجة لذلك تحضر الشخصية الرئيسية إلى مكان اعدامها وسط هتاف حشد متجمع. مرة أخرى تقدم حقائق حياته, في هذه المرة في اطار حلم سحري غير منطقي وليس من الواضح فيما إذا كان أحمد ناصر مذنباً بارتكاب جريمة أم لا.  

   قصص مجموعة «سهرة» يمكن تقسيمها إلى مجموعتين، الأولى تشمل قصصاً تنتهي برسالة فلسفية وسوداوية كما في قصتي «خميس» و«قبضة تراب». المجموعة الثانية تشمل قصصاً أطول تطرح في نغمة كئيبة ومعظم شخصياتها الرئيسية أطفال تعرضوا للأذى من قبل العالم وأستغلهم البالغون. وعلى سبيل المثال قصص «هذا الجسد لك» و«هذا الجسد لي» و«أنا وأمي». تتصف هذه القصص بالوصف الكامل، الغموض والاشكال الفنية المستخدمة تعطيها لحناً شعرياً.

   تظهر النساء في هذه القصص وهن يخزين شرف عائلاتهن بسلوكهن كما في قصة «أنا وأمي». إن سوء سلوك الأم يصبح عذاباً وهوساً. ذلك يجعل البطل يفقد رشده بالرغم من حقيقة أن أمه تعيش بعيداً عنه ولم تعد تتدخل في حياته. إنه مجنون بالرغبة في قتلها وتخليص نفسه من خزيها فيخضع كل حياته لهذه الرغبة. على إثر ذلك يعذب حياة أخته أيضاً خوفاً من اتباعها خطوات أمها. النتيجة هي مناقضة للمرغوب فيها فتقرر الأخت أن تكون أقرب إلى أمها وتحرر نفسها من استبداد أخيها. وتصل الحبكة إلى ذروتها حينما يضرب البطل أخته لأنه عثر على حمرة شفاه نسائية خاصة بها. "أبحثُ في متاعها ، أجدُ (روجاً) كانت تخفيه في قعر الحقيبة . أوقظها ، تـُذعر ، أصبغُ وجهها بالروج ، وكأني أحفر بالدم ، كأني أكتبُ بالنصل غير المثلوم.

   كانت تصيحُ:

   - أرحمني يا أخي !".

   في قصة «هذا الجسد لي» يعطي المؤلف وصفاً تفصيلياً لأحداث طفل صغير يتم ختانه حيث إنه لم يُخبر سابقاً أو يكون واعياً بما تنطوي عليه عملية الختان، فيشعر بالاستياء تجاه أبيه لعدم تهيئته نفسياً لهذه التجربة. كما يتعرض الطفل أيضاً لعملية اغتصاب بالقوة خلال حفل زواج أخته.

   أعتقد أن هذا الشيء يمكن أن يكون خاضعاً لحكم عامة الناس حول مشكلة الشذوذ الجنسي بالإضافة إلى إرغام الأطفال لدخول عالم البغاء. تجارب الأطفال والجرح المملوء بالأسى فيما يتعلق بالخيانة الزوجية لأحد الأبوين تم تصويرها في قصتي «هذا الجسد لي» و«أنا وأمي».

   "أودُ  أن أصرخ، والرجلُ الأصلع دفن رأسه في صدر أمي، وهي ألقت بنفسها على الكرسي ، دون أن تتفوه بكلمة!".

   يبدو أن الشخصية المحورية في تقديم قصته تبدأ بالصراخ: هذا ليس جسدي.

   وفي العديد من القصص فأن أوصاف الهذيان شبه الواعي والتنبؤات المرضية هي صور لما يراه البطل وهو يبالغ في وصف عقل طفل مريض. وتبدأ حدود الأشياء في أخذ شكل شيطاني فيصبح كل شيء مشوشاً او متعدداً ويرتفع الجسد ويسقط إلى المنحدر. فمن ناحية يكون الرجل واعياً للحرارة المرتفعة والعرق الغزير الذي يغمر جسده بينما من ناحية أخرى يشعر كما لو أن جسده قد انفصل عن عقله وروحه.

هذه الأوصاف معقدة جداً ومملوءة بالاستعارات ويبدو أن المؤلف مفتون بما يحدث للأشخاص حينما يفقدون السيطرة على اجسادهم وعقولهم.

   "امتلئ بالعرق والبخار الساخن ، أمسكُ سريري بأظافري ، ثمة أطيافٌ من النار تتراقصُ حولي . جسدي يدغدغهُ ثعبانٌ كبير ، وأنا أركضُ في العتمة والضباب والعواء ، أعبرُ مستنقعاتٍ من جمرٍ وضفادع وفحيحِ رجال .

   اتقلبُ على الفراش ، أودُ أن أعبر تلك الظهيرة المشتعلة ، أن أتخلصَ من جسمي ، وأذوبَ ، أقفز هذا البيت ، وصراخ الرجال في القاعة ، ضحكات أمي التي تفتقُ ضلوعي ، أصيرُ فراشةً في حقلٍ ، أو ناسكاً في كهف ، أموت ، أتحولُ إلى ظلامٍ أبدي ، أرفرفُ نحو السماء ملاكاً".

   في كثير من الفقرات يتملّك المرء شعور بأن المؤلف يؤكد بصورة متقنة على قبح وعدم توازن الحالة العقلية للشخصيات الرئيسية. "هناك أنا مسجى ، بركة من العرق ، والشعر الغزير، والأصوات الغريبة التي تناديني".

   يبني المؤلف جملاً مملوءة بالاستعارات التي تعرض صورة للجنون.

   وعبدالله خليفة لا يدين شخصياته الرئيسية. وهو لا يعبّر عن رأيه تجاه تصرفاتها وخططها ومشاعرها بالرغم من أن قتل أم إحدى الشخصيات هو أسوأ الجرائم جميعاً. فالأم، مهما كان سلوكها، تحب ابنها وتساعده في الخروج من السجن، وتعتني به وتطعمه حينما يكون مريضاً. السجن كان عقاباً لإشعال النار في البيت وتضرر الأشخاص الموجودين بداخله. يعرف القارئ القصة بأكملها حسب وجهة نظر الشخصية الرئيسية: الاتهامات والجنح الموجهة إلى أمه. نهاية القصة مفاجئة نوعاً ما ففي حين يبدو أن لا خلاص للولد المريض الممتلئة روحه بالحقد وأن هوسه سوف يقوده إلى جريمة شريرة، نجد أن هناك، داخل أعماق روحه، مشاعر وعواطف دافئة تجاه أمه. وأخيراً تأتي لحظة المصالحة: "يتقاربُ رأسانا المهزومان . تختفي في صدري"، هذا بلا شك تأكيد أن المشاعر والعواطف الايجابية، بالإضافة إلى الحب الحقيقي، قادرة على الانتصار على الأذى، الجرح، والحقد وإنه ليس متأخراً أبداً العثور على الحب في ثنايا قلب المرء. وسوف تبقى الأم أماً فوق كل شيء آخر، وسوف يكون الحب تجاهها دائماً اقوى من الكراهية.

   العنصر الرئيسي الذي يظهر في غالبية قصص مجموعة «دهشة الساحر» هو المستقبل الذي ينزع بالفرد تجاه التأملات والبحث المستمر عن الهوية في مواجهة واقع اليوم الحالي فليس من المصادفة أن تفتتح المجموعة بقصة عنوانها «طريق النبع» التي يؤكد فيها المؤلف بوضوح على رأيه في المستقبل. طريق النبع هي ذكرى للطفولة، أيّام التعرّف على العالم وكل ثرواته وأسراره بطريقة مبهجة. يرسم المؤلف لوحة شعرية جميلة للقرية العربية. مكان محدد هو النبع، لا يعطي الحياة فقط لأشجار النخيل المحيطة، بل إلى الناس أيضاً. مناخ التفرّد لكل من المكان والوقت تم التأكيد عليه بواسطة الطقوس التقليدية التي يؤديها والد الشخصية الرئيسية. هذه اللوحة الشاعرية للماضي تصطدم بالوعي بأن كل هذا قد ذهب بلا عودة، كما ذهبت العشرون سنة من حياته حيث يتذكر بألم وحسرة كيف أراد أن يتوقف الوقت في هذا المكان بالتحديد. بصورة نوستالجية للطفولة يصنع تعارضاً واضحاً مع الأوقات المعاصرة حيث لا مجال للسحر أو الأسرار أو الاتصال القريب مع الطبيعة. الناس غير قادرين على التعلّم من الطبيعة والعيش بانسجام معها لكنهم يغلقون أنفسهم داخل حيواتهم المصطنعة. وتربط الشخصية الرئيسية بين ماء النبع القديم وقوة إعطاء الحياة والحكمة. لذلك فإن الطريق إلى النبع يعني الطريق لكي يجد المرء جذوره واستخراج الثروات منها. هذه هي الطريقة التي يحاول بطل قصة "دهشة الساحر» أن يعيش فيها. هذا الرجل كرّس حياته كلها لاكتشاف أسرار الطب الطبيعي. سافر إلى جميع أنحاء العالم وسأل الله والملائكة والنجوم أن يعيدوه إلى ارضه. ما تعلّمه طوال رحلته الطويلة امتد وراء الصورة الملازمة للحقيقة. كان مملوءاً بسائل مضيء يجعله يعيش بين السماء والأرض. استفاد الساحر  من معرفته للخير للآخرين حيث أن في هرمة الاجتماعي يمسك الانسان بالمركز الأعلى. هذا الشيء له علاقة بتاريخ الأطباء البارزين الذين هم في نفس الوقت فلاسفة وسحرة كابن سيناء والرازي.  

   لا تخلو قصص مجموعة «دهشة الساحر» من الاشارات إلى شخصيات معاصرة كالخميني. ويفحص المؤلف هذه الظاهرة في قصة «الترانيم» حيث يقدّم الشخصية الرئيسية كرجل ذي موهبة متميزة في تأليف الترانيم التي تساعد الناس على إيجاد معنى وجودهم.

   هناك شيء ما بداخله يسمح لنا بأن نرى العالم بأكمله في عينيه: الغابات، الأفق، المدن، والخلود. كل واحد ينتظر بتعطش ليسمع ترانيم إضافية رائعة تجعل الواقع المحيط بهم يتغير. من القصة نستطيع أن نرى كيف حدث هذا في إيران حيث أُعطي رجل بسيط ومريض التبجيل الأقصى.

   أما قصة «نجمة الصباح» فتظهر كيف يؤثر الماضي في شخصية الانسان. فالشخصية المحورية وهي رجل عمل صحفيا بجريدة كبرى مدة 32 عاماً يتذكر مناخ العمل الذي ساد قبل وفاة مالكها بحنين إلى الماضي. إنه لا يستطيع أن يجد نفسه في الواقع الجديد تحت إدارة ابن المالك الذي لا يهتم إلا بمصالحه الخاصة. هناك تناقض شديد بين المالك الحالي والمالك السابق للجريدة. إن تغيير النظرة إلى العمل وكذلك إلى الموظفين هو علامة واضحة على مجيء نظام جديد.

   ففي الماضي كان العمل بالنسبة لهذا الصحفي أشبه بالمهنة المقدسة، حيث يمنحه الاحساس بالإنجاز الذاتي. إنه غير قادر الآن على التكيف مع البيئة الجديدة ولذلك يقرر تدمير مصدر المشقّات التي يعانيها. غضبه موجّه نحو المالك الجديد الذي يقتله في نوبة غيظ شديد. وفي الوقت اللاحق، يقف البطل بلا حيلة تجاه الماضي المتصادم مع اللحظة الحالية.

   هذه الموتيفة تستمر في المجموعة القصصية التالية لـ عبدالله خليفة واسمها «جنون النخيل».

   كما يرى القارئ. إنه من الصعب للمؤلف أن يكون على وفاق مع التغيرات الاقتصادية والعمرانية المستمرة. ويبدو هذا جلياً في قصة «النوارس تغادر المدينة» حيث يقول: "الآن هو غريب في المدينة. لا أحد قربه. سوى الطيور والمشترين وركاب الباصات الذين لا يرون وجهه.

   لم تكن ثمة نوارس في الساحة. 

   كانت بشعة، ومملة. المارة الغرباء لا يلتقون إلا للافتراق. الوجوه تتبدل دائماً بسيول من السحنات واللغات.

   كان يحدق في الطيور العابرة، يسأل عن رحلاتها المستمرة في الكون. أسراب بعد أسراب وهو يتآكل ويتأمل، رجله المقطوعة سلسلته في اللعبة الخشبية: بدلاً من جناحي الحلم، فقد المشي".

   حتى النوارس المذكورة في العنوان غير قادرة على التكيّف مع الواقع الجديد. إنها تعاني شحة الفضاء والحرية والبحر المانح للحياة بينما الأشخاص الجالسون في بيوتهم الفخمة، أمام بركة السباحة وهم يشوون اللحم على النار، يطلق عليهم ضحلين ومعاقبين من قبل البحر الذي يفيض ويغمر محطة الكهرباء الساحلية، ففي قصة «جنون النخيل» يقول: "إن الماء يهز الأعمدة والساحل كلّه يتقلقل ويأكل الرمال". كما نقرأ أيضا عن العواقب المأساوية للبيئة الطبيعية كنتيجة لتطوّر المدينة. فالعمال يثبتون الأنابيب وسط البساتين ويرمون عشش الطيور في براميل المخلفات ويقطعون أشجار النخيل التي هي جزء أساسي من طريقة البحرينيين في العيش. ففي نفس هذه القصة يرد ما يلي: "كانت النخيل ذوات وجوه آدمية، متكلمة، متجهمة، تتغلغل جذوعها في مياه البحر، وتبدو كقطيع واسع من المردة المحبوسين".

   على الرغم من ذلك يهتم المؤلف كثيراً بالتقاليد التي لا تدحض تقدّم الحضارة بالكامل وقد انعكس هذا في المجموعة القصصية «سيد الضريح». فلعدة سنوات درج عبدالله خليفة على كتابة ملاحم عن تاريخ البحرين ومنها رواية «الينابيع» التي تعود إلى بداية القرن العشرين حتى الالفية الجديدة. 

   شخصيات تاريخية عديدة ومن بينها حكّام البحرين وكذلك مواطنوها، الحاكمون البريطانيون وآخرون، بالإضافة إلى حقائق من التاريخ المعاصر للبلاد، خصوصاً اكتشاف النفط الخام في الثلاثينات، والتغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي أحاطت بهذا الحدث، كلها يمكن أن نجدها في هذه الرواية.


   العالم المقدّم في قصص وروايات عبدالله خليفة مليء بالتأملات والأفكار الشخصية علاوة على التجارب والمخاوف والأمور المقلقة. الحياة حافلة بالكفاح ضد القدر والنضال من أجل العيش والمشاكل والخلافات الداخلية. الناس يكافحون بصورة مستمرة ضد الحواجز التي هي نتيجة البيئات المحيطة والتي تشكّل النفس والروح. ومهما كان تعقيد خط القصة فإن المؤلف يريدنا أن نفهم أن هناك قيماً أعلى تمنح الانسان القوة للقتال ضد كل الكوارث والظروف المعاكسة التي سيجلبها القدر. هذه القيم هي متع الحياة والقدرة على رؤية الجمال في العالم والعيش بانسجام مع الأشياء المحيطة، واحترام التقاليد، والحرية، والحب والأمل.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

   * في عام 2003 زارت البحرين الدكتورة باربارا ميتشالاك، استاذة الأدب العربي بجامعة جاجيلونيان في بولندا، والمهتمة بالأدب العربي والأدب الخليجي خصوصا، وأجرت لقاءات مع الكثير من الأدباء والشعراء والكتاب البحرينيين وحصلت على معظم مؤلفاتهم تمهيداً لإصدار كتاب عن الأدب البحريني الحديث.

صدر الكتاب المذكور باللغة الانجليزية تحت عنوان «شعر ونثر البحرين الحديث» وقد تضمن معلومات عن أغلب الشعراء والأدباء البحرينيين وقراءات في أعمالهم ويعد أول كتاب جامع يتطرق إلى شعراء وأدباء البحرين المحدثين. وقد حضرت المؤلفة إلى البحرين مرة أخرى وألقت محاضرة حول هذا الكتاب في 17/10/2006.

   والجدير بالذكر إن الدكتورة ميتشالاك سبق لها أن أصدرت كتباً حول الأدب الكويتي والأدب العماني ويسرنا أن نقدم ما ذكرته الدكتورة حول الأديب عبدالله خليفة مع الرجوع إلى النصوص التي استشهدت بها كلما أمكن. 

   ترجمة: مهدي عبدالله

قاص ومترجم من البحرين


العناوين المميّزة

رابط : You Tube

https://www.youtube.com/@AbdullaKhalifaAlbuflasa