الجمعة، 5 سبتمبر 2025

طائـران فـوق عـرش النار ـ قصةٌ قصـــــــيرةٌ: لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة




انفتح باب المصعد، وخرجتُ مع أبنتي إلى الممر النظيف ذي الروائح الطبية النفاذة.
استقبلتنا ضجة المرضى المتكدسين في ردهة الإستقبال. حشودٌ من الوجوه المتعبة والقلقة، ومن الملفات والصراخ والسعال.
راحت «بشرى» تلاعب طفلاً، تقرصه قرصة خفيفة، وترفرف بيديها وأذنيها وتهزُ شعرها، غير أنه كان واجماً، مترنحاً وراء ظهر إمرأة، ورقةً صفراء على وشك السقوط.
آخذها من يدها، فتنفلتُ راكضةً، قافزة، متراجعة إليّ فجأة وهي تقهقه.
الممرات الأنيقة، المصاعد الدقيقة، الجدران اللامعة، الممرضات الهنديات، الأطباء العرب الهادئون المشغولون وراء الطاولات وأكداس الورق وعلب الدواء، كلها تبعثُ على القلق والحيرة والخوف.
أحمل قلبي في يدي، أضيع بين الغرف والممرات والوجوه، أسأل عن طبيبي، وتأتيني إجابات  لا أسمعها، وأذهب الى أمكنة لا أريدها، وتطل عليّ ذات الحشود  من المرضى والممرضات، بين أكداس الورق والحقائب والكراسي  البلاستيكية الصفراء المزروعة في البلاط كالتعاويذ الأخيرة عن الموت، و«بشرى» تضيع  بين سيقان الزوار ومعاطف الأطباء البيضاء والأسّرة الحية للمرضى والجثث.
في نهاية الممر، رأيت الغرفة التي كنتُ أتوه عنها.
مقبض الباب البارد، الإنفتاحة السريعة على المكتب، وبروزُ وجه الطبيب وهو يتحسس جبينه في حركةٍ مباغتةٍ متوترة، قطعت قلبي تماماً عن جذوره في الهواء.
مقدمات الأبحاث ترهقني، لكن في مقدمة الطبيب الطويلة الثقيلة، كنت أنشرُ على الكرسي، وأجد إن كتفي لا يخصني ولا يؤلمني.
- أرجوك.. أرجوك.. قل لي الحقيقة.
يتطلع اليّ بابتسامة صغيرة، وهو يخاطب أبنتي:
- ألا يمكنك أن تلعبي قليلاً في الردهة؟
كان طاقةً من الثلج موضوعة لخدمة العذاب.
ثم بدأت الحرائق وراء ظهري وأمام عيني. وكأن أشباحاً جاءت وإنتزعتني من مقعدي، وألقتني في الممر الوحيد المفتوح على الفضاء، وأنا أتدلى، وأرى السيارات تتدفق في الشوارع، وكرات الصياح لا تصل الى الزجاج.
- ماذا.. ماذا.. تقول… إنني لا أفهم!
- دمُ أبنتك ليس على مايرام. كريات الدم البيضاء تلتهم كريات الدم الحمراء، التي لا تتكاثر.. لذا ترى أبنتك شاحبة…
- كانت تريد أن تصوم هذه الطفلة، وأردت أن أمنعها، لكنها أصرت.. فحدث .. تعرف شهر رمضان وحماس الصغار..
- لا! لا! ليس الأمر ذا علاقة بالصوم..
- ماذا تعني؟!!
- إنه مرض نادر. قليلون الذين يُصابون به. إنه داء عميق في العظام. إن العظام تعجز أن تنتج دماً، ولذا علينا أن نعطيها دماً باستمرار.. ينبغي أن نأخذ عينات من دماء الأسرة كلها.. للتبرع..
صمتَ وصمتُ. كنتُ أدخلُ في فراغ غريب. كانت حشائش حامضة تلتهم صدري، وثمة ذئاب تعوي في روحي، وأنا شريد، وحيد، في البرية الثكلى..
خاطبني الطبيبُ بلهجة ودية بدت ختاماً غير متوقع لعرض دموي :
- دكتور حامد أنت أستاذ جامعي، ومؤلف فلسفي معروف، وتدرك إن قضاء الله ومشيئته لا يُردان ..
فتحتُ الباب فوجدتها تلعب. تضربُ «قيساً» وهمياً في مربعات خططتها. ساقها البيضاء الدقيقة الصغيرة ذكرتني بالكريات التي تلتهمها .

2                                    

  في الليل وأنا أبلع الورق والأرق تأتي أمها مرعوبة:
- بشرى سقطت فاقدة الوعي!
نلهث إليها، نحملها في العربة، نتوغل في الحارة ذات الأمعاء الغلاظ، نصدم الظلام والحصى والأشباح، نختنق من الرطوبة والحر والمكيف الساخن، ننطلق في طرق المطبات واللصوص، لا نشعر بشيء، نزيل البعوض الملتصق بدمنا، نخرجُ الى طرق الأسفلت المضاءة عند القصور والمخافر والبنايات الكبرى، نتلفت الى «بشرى»، نتحسس قلبها، نمسك نبضها الخافت المتواري تحت المقعد، نحملها بين الحشود السيارات النائمة في ساحة المستشفى، نجري نحو الموظفين المثرثرين وراء المكاتب،  النعسانين، الغائصين في شجون يومهم. هذا يطلب شاياً ثقيلاً، وآخر يسأل عن وقت إنتهاء النوبة، ثم ينتبهون اليّ، ويحركون الورق بحثاً عن الموظف المسئول، والطبيب المناوب، والشاي قد أتى ويندلع صوت الرشف والإستمتاع، وتبدأ عاصفة من الأبر بالتجول في جسمي، وينمو صراخي، وجريي مع السرير المتحرك، وصلبي في المصعد، ورعب الأم يأكلني أكثر من صمت الأبنة، والممرضات النائمات تحت ضوء المصابيح ينتبهن الى صوت النقالة ذات العجلات المرعبة، ويُدخلن الطفلة الى غرفة ما، وتبدأ أسئلة البحث عن الأوراق، ومعرفة الحالة، ورقم الملف، وصخب إستدعاء الطبيب المناوب المشغول بحالة صعبة، ولعله مختفٍ مع إحدى الممرضات، أو نائماً، لكن صرخاتي لا تفلح في تحريك سلكٍ من مشاعرالممرضات الهنديات، اللاتي تحولن الى ساحرات قادمات من الريف المهجور والبحر الغارق بالأسماك، مشعثات الشعر، مدمدمات بين البخور والتعاويذ.
ثم جاء كيس الدم وتسلل الى ذلك الساعد الرقيق النحيف الشاحب، الغافي على اللحاف. وكانت الشمس قد بزغت وراء القضبان والدخان وروائح الحريق الكوني..
أيها الليل الغامض الصاعدُ فوق جسدي بالسكاكين، لا تزال ظلمتك تنزف على الشراشف البيضاء، ومساميرك تأكل عيوني!

                                    

آخذها بعيداً عن الأبنية والدخان والضوضاء، الى الشواطىء والجزر المسالمة وسط المياه والنخيل والينابيع . نمشي على القواقع، نأكل الأسماك القافزة الى الشباك، نصنع بيوتاً كبيرة من الرمل بلا إيجار، أحضر الأعشاش الخالية من البيض والماضي، نسبح وسط نبعٍ أزرق، ونقرأ خطوط الأحجار وتعاويذها السرية للماء والهواء.
نتلحف الليل معاً، أضم ساعدي وصدري الى عروقها، أود أن أدخل الجمر والضوء الى خلاياها المتوارية. أمسك ذلك العظم المعادي وأدس حبري ودمي الى كهوفه الوحشية.
لكن الصغيرة تصحو فزعة، وتتأوه، أحضنها وأرفعها وأجري نحو الشاطىء والطرق، تدمدم المحركات وتتفجر خيوط الماء والخوف، أطيرُ الى تلك الممرات النظيفة، والأسّرة الغافية، الشاخبة بالدم.
أجري إلى الطبيب. أصل إليه وهو وراء التليفونات النقالة والمقاعد وكتل المنتظرين المنتفخة أوراماً وأوجاعاً.
لا يزال في جزيرته النائية الهادئة وسط بحار الدم والجماجم، غير ملوثٍ بقطرة من الهم. يقول :
- إن الفحوص وعينات الدم أثبتت ما توقعناه..
- .. لكن.. ماذا بعد.. أبنتي تذوب.. افعلوا شيئاً!
- أنت لديك متبرع وهو أبنك ودمه مطابق لمواصفات الزرع. كل ما يلزمك هو النقود الكافية والسفر، من جهتنا سنجهز لك كل شيء: الأوراق، ونتصل بالمستشفى، ونأخذ موعداً للعلاج.. كل ما عليك هو توفير المال.. الذي هو..
وُصدمت بالرقم، كل هذه الأصفار! لو أنني عملتُ خمسين سنة وبعتُ أعضائي، وزحفت على سجاجيد القصور، لم أجمع بعضه..
ركضتُ الى البنوك وشركات التأمين على الحياة والأصدقاء. لم أعثر على شيء. فضت الخزائن فجأة أمامي.
أيها المقاولون على أعضائي، أيها المشترون لعقلي، قضيت حياتي كلها بين الورق، أرمم عقلاً عند المعتزلة، وأكشف الجنون عند المتصوفة، والحديد الصلد عند الأشاعرة، والآن عليّ أن أطارد كريات بيضاء تلتهم أيامي..
أصدم بشجرة على الطريق. أتلقى لعنات وصرخات زوجتي. أسبح في بحر من الكريات الملونة المتشاجرة المتشظية..
أجلس فجأة لأكتب رسالة الى الملك. طوال عمري لم أهنئه بعيد ميلاده وأيام تتويجه وختان أولاده.
قضيت عمري أراسل الجاحظ والفارابي وأبن سينا، وأدخل مجالسهم ورسائلهم بلا إستئذان. أعرف كيف أخاطبهم وأستل منهم الضؤ والبراعم.
بعثرت كثيراً من الوقت والجلد والخلايا لأصل الى قلب الملك. تخيلت إنني أدخل على هذا الرجل، وأنا  أحمل أبنتي  بين كتفي، وأريه غرزات الأبر، ومواقع سحب الدم، والبقع الغريبة الصارخة بالصفار الذي يأكل العمود الفقري .
هنا ياسيدي الشبح الملعون الذي يستل من أبنتي الحياة! سأزحف يا ملكي طوال عمري على سجاجيدك الباذخة، وأضيء قصورك الوفيرة بحبري وأيامي ودموعي، سأضع عقلي في خدمة خيولك وأبلك..
أتخيل الملك يقول:
- ماهذا يادكتور حامد، إنني أجلك عن كل ذلك، أنت نبراس في هذا الوطن. قوافل كثيرة تخرجت من خيمة علمك..
أنام قرب ساعد خافت من الحياة، وقد كبرت أبنتي في المرض، إستطالت، تبدلت تلك الطفلة، غدت أكثر طولاً، لكنه طول مرعب، هيكل عظمي طويل يُلحق به لحافٌ رقيق من الجلد. سكة حديد  صفراء  ترسل النور الى جهة مجهولة.
كل ليلة تدوي صفارة سيارة الإسعاف. تهز الصمت الكثيف والنوم اللذيذ، وأنا معلق بخيوط النجوم، أضع  يدي كل صباح على أبراجها، أستل حظاً مشرقاً وفرجةً في  كهف السرطان.
أتخيل مكالمة ترنُ في صحراء الشظف وقفار الصمت والرعب، وأرى حبلاً يتدلى من العرش. أرى ماءً من الرحمة وحمامات من الحب ترفرف حول وجهي:
أيها الإله العظيم، أيها الملك الرحيم، أيها الأنبياء المقدسون، يا جبرائيل، أيتها الملائكة، أيها العقل الفعال، يا أعضاء اللجنة المركزية لحزبنا المكافح، أيها الأخوة في العقل والجنون، يا صناديق الدم، يا بنوك الأعضاء، أيها السحرة، أيها المشعوذون، يا خزائن الروح، يا صناع النور والحياة، أنت أيتها الأفلاك التي سبحت إليك الأرواح والأشباح وعقول الفارابي والرازي والكندي...
قطرةً واحدة من الروح، قطرة واحدة من الدم الأبدي، تسقط فوق هذا الجسد الرهيف المسجى وحيداً ذابلاً في الليل، والنهار، في ضجيج الحياة الصاخب وراء الجدران، قطرة واحدة من الأزل في هذه العظام الطويلة البارزة، لهذه الطفلة العجوز المرعوبة التي يحتضنها أب مفلس، خاو من الروح والمادة، باع الكثير من أشيائه.. ليمضي الى مستشفى هائلة  قريبة من بلده.
كل شيء هنا بالأزرار. طوابقٌ تمتد الى السماء. ووراءها الصحراء العربية بقوافلها وخيامها البعيدة. هنا تطارد الأجهزة والشاشات كل نملة مندسة في الجسد.
أجثم طويلاً على المقاعد. أجري من غرفة الى غرفة.
يقف طابور طويل من المنتظرين لدخول عمليات الزرع. هياكل من الخشب يشدها بريق أخير الى الحياة.
في كل لحظة تخرج روح. في كل عزفة لموسيقى المصاعد المصقولة، وفي كل ومضة من الأزرار الملونة، وفي كل إنتباهة من أجهزة الحاسب وشاشاتها الهائلة؛ توضع جثة في الرمال العربية العطشى الى النخاع والدم والعقل.
طابور طويل من الصبية والصبايا توقف كلياً عن اللعب، وتحجر قرب الآلات.
وضعت طفلتي على قائمة الإنتظار المروعة.
هنا يغدو للوساطة معنى الميلاد والبعث. هنا تصير للمكالمات المهمة دوي الروح وهي تنفجر في الأعضاء اليابسة. هنا يجيء المسيح في كلمة شيخ أو أمير. هنا الحد الفاصل بين الملكوت والتابوت.
وأنا.. من أعرف سوى صف طويل من الزنادقة والشعراء الضائعين وسط الصحراء، والعناوين الذائبة في القفار..
ياسيدي، يا ألهي، يا شفيعي، كن معي في هذه الرمضاء الحارقة، وليتعطف قلب صلد، ولتتفجر صخرة بالماء، ولتتحول هذه الوجوه البدوية الألكترونية الى رحمة..
حممٌ من البروق والأصوات أنقلها عبر الأسلاك والآلات الى مدن بعيدة، الى وجوه أحبها أو لا أعرفها. أنتزع شخصيات من اجتماعاتها، من أسّرتها، من معانقاتها، من شوارعها المزدحمة بالمال والدخان، أنقلها الى هذه الغرفة القصية في عمارة عملاقة تحدق في الرمال الصفراء الزاحفة على الشجر والزهر، آخذها الى سرير أبنتي، أضع السماعة على خلاياها التي تنطفئ واحدة واحدة، مثل مصابيح آخر الليل.. فتنفجر كلمة من هذا، ويحل صمت مروع عند آخر، وتتصادم الشفاه والجدران والخطوط وتذوي الشيكات والآهات، ثم يحل سكون مطبق..
آخذ أبنتي وأحضنها عائداً.غدت خفيفة جداً، لكن ثمة  ذبالة أخيرة من الضوء في الرماد.

                                    

 بين أكداس الورق والحقائب والحقائق تصرخ زوجتي:
- ماذا فعلت طوال عمرك؟ ماذا أفادتنا شهادتك وأبحاثك..؟ تركت أبنتنا تموت..ولم تفعل أي شيء؟!
عيناها متورمتان بالدموع. وصدرها الناهد المتفجر رحلت عصافيره. لم يعُد بين أصابعها سوى الرصاص :
- حتى أبننا أدخلناه مستشفى الأعصاب من خوفه.. ماذا بقى بيننا؟ لماذا لا ننفصل الآن؟!
فوجئت بتفاقم الرعب في ولدي. هذا الذي جهزناه كي يعطي أخته بعضاً من دمه. هذا الزارع الصغير للحياة.
أقول له:
- لا يجب أن تخشى شيئاً، هي مجرد قطرات تُؤخذ منك. أنت الوحيد الذي يمكنه إنقاذها. دمك مثل دمها. وحين يدخل عظامها سيستقر هناك ويبعث الحياة. ستعود أختك الى العيش معك..
لم أدرِ أن هذا الكلام سوف يسبب له أعظم القلق والخوف. رأيناه فجأة يحطم الصحون، ويترنح على الأرض، ويرتجف.
يتعلق بعنقي:
- أبي.. سوف تأخذون دمي.. سأموت.. سيظهر المرض فيّ..!
كان يرى ساعد أخته المثقوب بالحفر وذلك الجثوم الطويل على الأسرة، والأشباح التي تأكلها، والسماء، والجدران، والأب، والأم، والملك، والشوارع، التي تدعها للإفتراس الغريب..
أفكر على نحو غريب: إنني لا يجب أن أخسر الأبنة والأبن معاً، ليبقى واحد.. على الأقل!
أرتعب وأستسلم.
أحاول شد الأم الى قلبي وروحي، نتبعثر بين المقاعد، وبين زجاجات الأدوية، والمخاوف، والأحلام، نلتحم مثل عصفورين مبللين بالقار، أدفن رأسي في حديقة صدرها، موقناً أن العصافير ستعود.
نجمع شجاعتينا المفتتين، وأعضاءنا المسلوقة في المستشفيات والردهات، ونهمس في روح ولدنا، في كهفه، في شظايا جرأته، ونأخذه فينا..
يرن التليفون وأسمع صوتاً معدنياً:
- إن الملك قد قرأ رسالتك وقد أمر بمعونة.
أخيراً هطل المطر والفرح. نبتت أعشاب في تربة الحصى.
أندفع إلى ذلك المبنى الشامخ. أوقف سيارتي بعيداً عن أسواره وحراسه ونقاط تفتيشه. لا أقيم وزناً للشمس والحراب والأيدي التي تعبث بجيوبي وجلدي. أنتظر طويلاً، أقاد في دهاليز وممرات ومصاعد. يتناولني حارس ويسلمني إلى موظف، ثم يأخذني شرطي ويقذفني في غرفة كاتب. يضع دفتراً وأرى جداول وأسماء وعطايا وأرقاماً هائلة، وأبحث عن أسمي ومعونتي فأذهل. مجرد وريقات قليلة لاتملأ أنبوباً زجاجياً بالماء ولاعظماً بالدم.
أنزل من الطوابق فوق الأسفلت الحارق .
كانت السماء منفية، ممتلئة بالأقمار والحديد، كان المطر من الرذاذ الزجاجي المشتعل. كانت الكريات البيضاء تلتهم الكريات الحمراء. كانت طوابير من البشر الصغار الذين يختفون في الدخان والجدران. كان البياض يأكل الأطفال والتفاح والدفاتر.
أيها الرفاق دعوني أشرب الى الفجر. أتحلل إلى ذرات من اليأس. أكلم الخنافس. البياض يتسع وينتشر على الورق.
أصطدم بأحدهم وأنا أطارد طبيب أبنتي المتواري. يقول:
- خطاب واحد منه وأبنتك تطير حالاً الى روما!
أركض، أصطدم بكثيرين، أحتل سلك تليفونه النقال، المشغول دوماً، ألقاه  في خضم طوفان المرضى، أجري وراءه، يندس بين الأسّرة والبراميل والشراشف. أزحف إليه، أطيح بالأعضاء المقطوعة، أستعيد أدعيته لكي يصير وزيراً، أطالع جثث الأطفال المكدسة في المشرحة. أرى الدم الرخيص الذي يُباع، وعربات الفحم التي تمضي بالصغار الى الآخرة .
- مواردنا شحيحة.. حالات كثيرة..
ونهمُ النمل لا يتوقف لالتهام سكر النبات. ممرٌ طويل. بلاطٌ بارد.

                                    
  
للموت تقاليده اليومية الغريبة. عليك أن تتأكد من إستلام جثة أبنتك عبر الورق وبرؤية وجهها وكشف غطائها.. كل هذه الشراشف والروائح أكلت عظمي!
يوم الجمعة مبروك كما تقول ثلة الملتحين. يريدون أن أضع نعشها حتى موعد صلاة الظهر. يقولون إن الصلاة ستمحي آثامها..
أبكي بحرقة: يا ليتها ملأت الدنيا آثاماً! لم يعرف ذلك العود طعم الكذب وزبد البيرة وعصف القبل..
كان صراخ أمها وراء ظهري. كأنه هزة أرضية دكت المكان. لم أرها تتشقق هكذا.
حشد من الأصدقاء حولي في هدوء المقبرة. أعشاب وغبار وطيور قليلة. أبني يضع رأسه قرب صدري. و«بشرى» نزلت في التراب.. وداعاً يا أبنتي، وداعاً يا روحي!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 
7 – سيد الضريح «قصص»، 2003.

«القصص: طائران فوق عرش النار – وراء الجبال – ثنائية القتل المتخفي – البركان– سيد الضريح – وتر في الليل المقطوع – أطياف – رؤيا – محاكمة على بابا – الحارس».
المقالات العامة

العناوين المميّزة

الدرب ـ قصةٌ قصـــــــيرةٌ: لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة

إلى أين يسيرُ هذا الطابورُ الدامي الأقدام ؟  لا أثر للقرية أو القصر أو البحر أو الحدائق أو النسمات الشمالية ، تلالٌ من الرملِ وحقلٌ من النخي...