السبت، 15 نوفمبر 2025

رحــــــــــلةُ الرمـــادِ ـ قصةٌ قصـــــــيرةٌ: عبـــــــدالله خلــــــــيفة

علي النجار يبحث عن مشرب وصديق. المدينة خائبة الأحلام. والصديق لم يأت. المشربُ غرباءٌ، والعتمة والأنوار الخافتة لا تسمح بالقراءة.

كم لي من السنوات لم أر علياً، وإذا رأيته كنا أشبه بغرباء؟ كيف حدث ذلك وهو الذي كان جاري فيما وراء الأسوار؟

ثمة شيءٌ ظلَّ متقلقلاً في حنجرةِ العلاقة.

كيف يمكن أن تضيع كلُ سنوات البحث والعزم والوجود الحي؟

حاولتُ أن أفهمه كثيراً.

 

꧁꧂

 

 

عليٌّ يتقدمُ على الرصيف.

الأمطارُ تسقطُ بشدةٍ في روحه، تتكسرُ الأشياءُ والشظايا، وهو يخرجُ من بيتِ أبيهِ الواسع ليحتضن السراب.

من له الآن غير العائلة العادية التي خرجَ منها وعادَ إليها؟ من له الآن في الحقل الأسود، حيث تهطلُ السماءُ غباراً ورماداً؟

خرجَ من هناك، من حي اللآلئ حيث العوائل تضعُ الدررَ في المخملِ والحرير، والمسجدُ الكبيرُ لم يحضن قدميه الصغيرتين، وتعبتْ منهما السراطينُ واللخمُ في البحار، ووضعَ أبوهُ الورقَ الناري بين أصابعهِ وغابَ في المدار!

يَخرجُ على الأشياءِ كالأعصار، الشارعُ المتربُ أستقبله، والخلايا، ولم يذهبْ لمصيدةِ المحار، يطالعُ وجوهَ التجارِ ذاتِ الظلالِ والهدايا البخيلة ورؤوسُها في قممِ القواربِ المتقلقةِ بين الموج، ويحلمُ بالساحاتِ المفتوحةِ على النجومِ والمناجم الحرة.

(سيدتي، هذا أنا لم أُجربْ الحبَ طويلاً، حين خرجتُ من المصيدة الطويلة والمسيرةِ المريرةِ سألتُ أختي أن تبحثَ لي عن عروس!

لألقي نظرةً على الماضي.

خرجتُ من بيتِ الطواشين الكبارِ، الرحلِ في البحار، وصرخَ أبي في وجهي كيف تسقطُ من منجمِ الفضةِ لأكواخِ العبيدِ؟ لن أعرفكَ بعد اليوم حتى تتوب.

فأكرمتني الخلايا والمطعمُ البلدي قرب السينما الحمراء والمقبرة، حيث تتلألأُ النجومُ وجاءتْ السفنُ من الشطِ الآخر للبحر بغرباء وفتيةٍ شجعان وبأصابع تشحذُ الورقَ وتحيلُهُ درراً وأشعةَ النهارِ، هناك كنتُ أدرسُ، وأصيرُ نسراً يطيرُ في الأعالى، يشدني أبي للحُفرِ، ويتعبُ ويمرضُ ويمسكُ ريشي المحترق بين يديه، ويقولُ: أأنتَ ابنُ الطواشين تنتحرُ في الحواري؟ تصيرُ من هؤلاء أبناء التراب؟!

يأخذني الحراسُ للمطار، يسلمونني جوازَ السفرِ وأمضي في معبرٍ طويل فأسقطُ في الفضاءِ البهيم، تستقلبني الصخرةُ الشوهاءُ في الحمراء، وغرفُ السطوح، والمطابعُ الفقيرة، وأصيرُ موسوعةَ الكلام في السهرات.).

أيها القائدُ الكبيرُ، هذه الوفودُ تأتيكَ من كلِ الدروب، وتكونُ عيناً للجزرِ المنسية، تدققُ في كَلِ حرف وفي كلِ وجرٍ، وتترصدُ الثعابينَ الزاحفة في الأسرة.

يأتون أسراباً من بلد جزائر اللؤلؤ ليضعوا النجومَ على أكتافهم.

 

 

꧁꧂

 

 

عليٌ يعود لشيخوخةٍ مثل جدارٍ عتيق أهترأ. تضخمَّ في قصره، وتكورّ وجهُهُ، وإنطفأتْ عيناهُ. لا يكادُ أن يبتسمَ أو يُسلم إلا بكبرياءِ ملكٍ.

ثمة رجلٌ يُحدقُ فيه في المشرب. أينما يذهبُ يرى هذه الوجوهَ تثقبُ ورقَ الجرائدِ وتطالعه، قربَ فيلتهِ ثمة ذلك البائعُ الذي لا يتبدل.

شركتُهُ محاصرةٌ على الرمالِ المتوهجة.

العلبةُ بعد الأخرى، وكأن الرجلَ يتحرك ليضعَ سماً في كأسه، يشربُ علي ويذهبُ لدورةِ المياهِ ثم يطلبُ كأساً نظيفة آخرى، وعلبةً لم تُفتح، إلا تحت نظره.

هناك في الذاكرة طيورٌ تحلق، لم يعرفْ جلدَ المرأةِ الرقيق، ولم يأكلْ كثيراً في الشتاء، يطالعُ ورقَ الرفاق القادم من وراء السلاسل والمصائب والقيعان، ينظرُ إليه القادمون ويقدمون كسراتَ الخبزِ والريالات القليلة ويصيحون صرت خيالاً!

هناك في الغربة في الأيام المتوهجةِ يأكلُهُ البردُ والثلجُ والأزقةُ الفارغةُ إلا من قراطيسٍ متطايرة، يرقدُ في علبةٍ، يهربُ نحو سطوح الحمام، يملأُ الزبلُ خياشيمَهُ بالظلال، يكادُ يضعُ إصبعَهُ في نظارة الرفيقة الضاحكة الهازئة بالأسمال، والقوافلُ تأتيهِ ويسربُها لبلادِ الثلوجِ وإلى جامعة باتريس لوممبا حيث تحبو كتبُ الفقراءِ والشهاداتُ المريبة، ويعودون ليعلمهم أسرارَ التراب والكون والمصائدِ النافقة.

أبوُهُ يراسلُهُ، يكتبُ بخطِ الحُجاجِ وبماءِ زمزم، يريدُ أن يحرسه من العيون، والعيونُ تثقبُ جلدَهُ في كل مكان، يُشوى من المُلاك في الحمراء وفي أزقتها الجانبية وإجتماعات الوفود القادمة من الخنادق والبنادق والحقول المتعبة نخلاً وحفراً، كبرتْ عيناهُ حتى غدتْ بإتساعِ شمس، كلُ نملةٍ مرصودة، والسطورُ في القراطيس والصحفِ المنشورة تتحولُ لأسئلةٍ وثقب في الجماجم والحصون والأسلائك الشائكة وتُظهر فتيةً أقوياء مردةً في بلاد الخيول الطائرة فوق البشر وأرض الأقزام.

أبوهُ يحضنهُ في الحلم، حتى يكاد يخنقه، صار ممتلئاً قصيراً وهو الذي بدا شامخاً.

يعودُ للمطارِ ولأرضهِ وللحقولِ المحتضرة، مطرٌ من الأوراق فوقه، وينغمرُ في الهمسِ والصمتِ والعتمة، ويجدُ بيتَهم صار قلعةً أثرية، يسكنها بسطاءٌ غرباء كحشدٍ من جيش الأسمال، وأنابيبُ الغازِ والثيابُ الرطبةُ المعلقة، أبوهُ يحضنه وهو في السرير، صار حطاماً، والفوائد جبالٌ في المصارف، والأخوةُ إنتشروا مؤسساتٍ ومصانعَ ومتاجر وفللاً وحدائق، وهو لم يجد بيتاً يأويه سوى العرق الأجنبي.

أبوه وراء غلالة الدموع، يهمس: ماذا فعلتَ بنفسك؟

يصرخُ في المسرح الفارغِ من الجمهور:

- أنظرْ إليَّ غدوتُ جبلاً شامخاً!

جاء متأخراً لبيعِ اللؤلؤ الكاسد، أخذوهُ مرةً أخرى لوراء الأسوار، أعتزل الناسَ وخيوطُهم بين أصابعه، زنزانةٌ ضيقةٌ ومجرمون ومهووسون ورفاقٌ سذج وخبثاء والأكلات المقننة، والذكريات تنهال، والعيونُ تحدقُ فيه، وكلُ كلمةٍ مرصودة، وجسده وثيابه وأغراضه تُفحص كل يوم، الثلل تتعشى بكلماته، يكتشفُ الخيوطَ السرية بين الضرباتِ والفجائع وعيون الأصدقاء، كثيرون يمضون وهو باق بين الجدران، رحلَ في بقش السجناءِ وأريافهم القصية، ركبَ حميرَهم البيضاء النافقة بين الحقول الهرمة، سافر للهند مراراً وهو يسهرُ مع مشردين، أكتشفَ السرطانَ في الخلايا، الوشاةُ في كلِ مكان، من صفعةٍ يستسلمون، من أرضٍ يختفون، من بيتٍ يتلوثون، وهو باق وراء الجدران والزمان المتجمد القاتل، أصدقاؤه الكبار رأى فيهم الجراثيمَ الغريبة، رأى على ظهورِهم خرائطَ الصمتِ والتنصت.

أحد أخوته يهذي باكياً ويزوره:

- أبونا مات! في آخر كلمة وهو يمضي للرفيق الأعلى نطق باسمك!

صار يلوذ بالعتمة، ويحدق في القادمين والراحلين، جسدُهُ توحدَ مع قشورِ الجدران وتنكات البول العطنة، ورأى أباه يصرخ ويلوذ بحضنه.

 

꧁꧂

 

 

يجلس في المشرب وحيداً، لماذا تدققُ هذه النادلةُ في ملامحه؟ لماذا تتحدثُ في الهاتف كلما رأته؟!

بعد كل هذه السنين صار له ابن، يصلي ويتعبد ويكونُ لحيةً، أين ذهبت أوراقُهُ ورمادهُ وجثثُهُ الكثيرةُ المنتشرةُ في الحقول والمسالخ؟ زوجتُهُ علمتْ ولدَه الصلاةَ والصوم وغدت السجادة مراده، والجسمُ الجميلُ الصغير الذي حضنه ورباه غدا صلداً مليئاً بالحراشف.

يصرخ ابنُهُ فيه:

- لماذا تفتشُ مكتبي؟ لماذا تقتحمُ غرفتي؟ لماذا تتنصتُ على مكالماتي؟

يضحك، يبتسم، يرفرفُ بروحهِ في فضاءِ الحانة والغرفة، ويتفجر فجأة بضحكاتٍ صاعقة، زوجتُهُ تسألهُ لماذا هو مثل تابوت؟ منغلق، ومنعزل، يقرأُ كثيراً كأنه يهربُ من الأسئلة، ولا إجابات، يرى خيوطَ الرفاق تدبُ على الرمال الحارقة، مثل خنافسٍ تُشوى، وتظهرُ قنافذٌ مليئةٌ بالشوك والوحل، لكن ثمة كلماتٌ تنبض، ثمة أرواحٌ ترفرفُ بضوءٍ فوق مستنقعات الزيت والدماء.

يرى صاحبَهُ يعقوب يأتي، لماذا يصرُّ على صحبتهِ كل هذه السنوات الضائعة بين الحانات المغلقة، يبحثان عن مكان جديد كل بضعة سنين، ويجدان شبكاتٍ من العيونِ والهراء حولهما؟

صاحبُهُ يأتي من زقاق ضيق، دفنَ أمَهُ وذكرياته ونبضه، وحصل على غرفةٍ مجانية في بيت أهله، والصغار كبروا، وهو تحول لهيكلٍ عظمي، يخفي الثوب والغترة والعقال عقوداً من التخفي والكِبر، يراه دائماً داخل ذلك الزقاق الضيق.

هناك في القلعةِ الرثة كان علياً، على رأسِ ثلةٍ تقفُ وراء الباب، والغرفة ملتهبة، والأنسام شحيحة لا تنفذُ من مسام الخشب، صراخهُ هز القلعة وقلقل الحصى والنهار والليل وجاء حشدٌ من الرجال البداة، تلمس الضابطُ من مدينة الزرقاءِ صوتَه، أخذه للصناديق المعلبة في الصحراء، في الليل تصيرُ ثلاجةً وفي النهار تنوراً.

في المنافي، في الجلساتِ المتوهجةِ بثمار العقول، في الحانات، كان سيدُ القولِ، روحُهُ صاخبةٌ تحب الحياة، الآن السأمُ هائل، يدفن نفسه في الركض وراء الايجارات والأرباح، مطرٌ من النقود، يختنق، يذهبُ للمشربِ متأخراً، يخرجُ من مصارين المدينةِ الملوثة بالدخان والزحام، الغريبة، إمتلأ، لم يمشِ منذ مدة، قد يتفجرُ عرقٌ فيه كما جرى مرة.

يُذهل من ماضيه، أهو الذي فعلَ كلَ ذاك؟ أين كان عقله؟ يرى قطعاً من الماضي تمشي حوله، أصدقاء قدامى يثرثرون بالألفاظ الصاخبة الغبية، أشباح، يرفعُ يدَهُ ويمضي بسرعة، تخترقه نظراتُهم وهمساتهم، وتتساقط تحت نعليه.

يعقوب سبقه للمشرب. يخترقان الأزقة، وغابات السيارات، والمناطق التجارية، هواتفهما تضجُ كل يوم، خطوط هادئة باردة، تشتعلُ في آخر الليل.

يعقوب في الأحداث التي هزت المدينةَ هرب وتاه في سيارة في الصحراء ووجدوهُ يكادُ يختنق من الرمال وقضى في مستشفى الأعصاب زمناً.

الآن يبتسم ويتكلم بحكمة.

كلٌ يدفعُ حسابَهُ، في المشرب، وفي نهاية العمر، شاخا بسرعة رهيبة. كيف يمكن أن يستثمرَ يعقوب مكتبَهُ الجديد وهو في هذه الكهولة ولا زوجة ولا ابن؟ أعطاه شقةً بإيجار مخفض. وربما يحتاج لسيارة جديدة بدلاً من تلك التي غرقت في الرمال.

كان..

لا أحدَ يستطيع أن يتكلم أمامه، يعترض على الطقس والأخبار والهمس والكلمات، وينهض في ساعة متأخرة في الصباح وفي الليل يقرأُ كتباً ضخمة، يرى المسجلات المدسوسةَ في جلود الرفاق، يسمع التنصتَ ويلمح الانهيارات في العيون، كلما عرى صديقاً طلع عدو، الرفاقُ يذوبون من السياط والخوف والعري والغضب، أبوه يضحكُ عليه، يقول له: نحن عائلة النجار جئنا من البادية، بعنا التمورَ في زمن الجوع بأسعار عالية، وكان الذباب والدود فيها، وأنت تطير بالورق؟

حدقَّ في ورق ورثتهِ، لم يظلمه أبوه، ترك له نصيباً مثل أخوته، لكنهم تاجروا منذ وقت مبكر وأصبحت لهم شركات كبرى وفنادق، وهو يحبو نملةً بينهم.

يتأمل سيارته ويبعد عامل الغسيل الأجنبي، ويتطلع فيه بريبة، والرجل الرث ينظر فيه خائفاً، صرخَ:

- ماذا وضعتَ تحت السيارة؟

- غسلتها جيداً يا سيدي!

يتأملُ في الأسفل. لا شيء.

 

     

                                                                     27مارس 2012

-------------------------------------------------

10 – إنهم يهزون الأرض! «قصص»، 2017.

«القصص: رسالةٌ من بـينِ الأظافرالأسودعاليةٌجلسةٌ سادسةٌ للألمِغيابٌعودةٌ للمهاجرِدائرةُ السعفِالضميرالمحارب الذي لم يحاربالموتُ حُبـَأًإنهم يهزون الأرض!حـُلمٌ في الغسقرحلة الرمادأعلامٌ على الماءگبگب الخليج الأخيرالمنتمي إلى جبريلالبقرغيفُ العسلِ والجمرعوليس أو إدريسالمفازةقضايا هاشم المختارأنشودة الصقرغليانُ المياه». 


المقالات العامة

 

العناوين المميّزة

رابط : You Tube

https://www.youtube.com/@AbdullaKhalifaAlbuflasa