الاثنين، 8 سبتمبر 2025

أنشودة الصقر ـ قصةٌ قصـــــــيرةٌ: لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة

حلقْ...

حشودٌ جبارة تملأ المطار، كأن الطائرةَ حطتْ على القلوب. الدكتور سلمان الطيب بقامتهِ القصيرة واكتنازه ووجهه الصارم أحتضنهُ بود ولكن لم يُجلسه معه على المقعد، دعا عبدالرحيم إلى ذلك الجلوس وهو أُوقف خارج السيارة، خارج الوجود!

مشت السيارة بصعوبة بين الكتلة الحديدية البطيئة الصادحة النابتة أغصاناً وأعلاماً وصرخات.

شعرَ بطعنة غريبة، جثم في سيارة صديق أخذه صدفة، الذي أحتض علماً وراح يزغرد، والرؤوس تتدلى من بين الزجاج والأزقة والريح والقضبان.

تنطلق في موكب وفيضان وأقمار متلألئة وكلمات نارية، تخرج من الدروب الضيقة، من تلك السطوح التي طار فوقها، ونزلَ في حظائر بقرها، وضربت رأسه حبالُ غسيلها، فأخترق تسبيحات المطاوعة لصلاةِ الفجر، وعيونَ العسس ومثاقيبهم وأخذتُهُ الريحُ لغابة البيوت والهروب في مصائد الحجر والصرخات وراءه تتغلغل في ذاكرته وجلده.

الموكب ينطلق.

منذ متى انطلقَ هذا الموكب؟

حين رأى الدكتور سلمان في صالة النادي لم يكن دكتوراً بل طالباً يستعد للسفر، للطيران خارج الحدود والدخول في عالم الدارسة العليا، فرخان سقطا من عش، أو هيكلان عظميان نحيلان من نتاجِ الأحياء الذابلة في سدرة عجوز.

لا يعرف لماذا أسرهُ الدكتور؟ ابن القبيلة الثرية طلقَ القصرَ والحظرة والحظيرة وكانت كلماته تصدح وتأسره، تخدره، تشعله.

القميص والبنطلون داسا الثوب والغترة والعقال والمجلس وتقبيل الأنوف ورقص السيوف الصدئة وإطلاق الرصاص الفارغ، تركا الحضور وجثما معاً في زقاق طويل يمتد من المحرق للشام، لبيروت، للحرائق الكثيفة التي ستلتهم المصائد والحظائر وسير عنترة والظاهر.

سلمَ أضلاعَه لذلك الشاب المسافر، أعطاه كشوفَ الحرفيين في المدينة القديمة، وسجلات عظامهم المحروقة، وسيرته وهو يخترق الأسطح ورؤوس الحرس وبنادقه التي تطلق النار على العصافير وتماثيل الطيور المتجمدة على السطوح. سيرتُهُ هناك حيث الجزيرة التي طلعت فتاةً خضراء من المياه عصفت بالصخور الجبال وصيرتها حدائق، كونتها قمماً من تماثيل تتدلى بين السحب وقيعاناً  وأفلاجاً تسير بين الصخور.

الدكتور سلمان ملكهُ عبر الورق والهاتف والصواعق التي تنزل على رؤوس الشياطين وتحيل حيوات الأحياء المسكينة المستكينة إلى فيضانات تتدفق طمىً وأعاصير.

تطاردهُ الجواميسُ والنواطير والعقبان في الأزقة والأقبية فيحضنه، يضعهُ في عشة بعيدة في قمة من المرايا والأصوات، يعيده إلى الحظيرة والبلدة الراقدة ليوقظها، ليحرق جلدها اليابس..

المدينة التي أستيقظ على أصواتها لا تزال تهزه، المدينة التي أسستها القبائلُ القادمة من جوفِ البحر، التي تقاسمت بقعها عبر الخيام وروائح القهوة ودم السيوف، صارت بحارةً ومجاديف وأهازيج، حولت صخور المياه عبر الأيدي والأظافر وقفف الحمير إلى بيوت متلاصقة تخشى الطيران في الهواء، تزرعها حكاياتُ السفر والحربِ عبر المياه، تحيلها إلى متاهات من الحجر يتوه فيها الغزاةُ وإلى أقنعةٍ للنساء وحفر عميقة للرقص السري في الليل الشتوي، تطلقها أرجلاً في الشوارع وصخوراً تبحث عن الهامات المذلة، وقماشاً ملوناً صادحاً، وسباحين بين المدن والحيتان والصخور والنجوم وأطفالاً يشقون عباب السبورات والكلمات وينشدون.

المدينة التي أكلت قدميه والعتبات التي استقبلتْ مصائدَهُ وكلماته وأسره لحلم الصبية وإطلاقهم نسوراً في السماء، الدكتور يصنع الكلمات في الجامعة وهو يوزعه خبزاً ساخناً في الصباح.

الدكتور سلمان شبحٌ بعيد، وحلم لا يلتقيه الشباب إلا في السفر والرحيل والمنافي، تستقبله الأمهاتُ ويعزيهن بعد سنوات، هو يتعلم هناك، أظافره نظيفة، وسكينه باردة، وحين يأتي إليه مسافراً يضلل العسس وراءه ويكادُ يخبأه في إحدى غرف فلته.

ينام على فراش وثير، ويضع رأسه على وسادة باردة لا يقلقه هجوم في الفجر، ولا أن لا يدفع الايجار، أنشأ له خطوط من دم الأحياء الفقيرة هناك، وقد ذهل إنه سيبقى في الغربة:

- الرفيق الدكتور سلمان هل ستبقى هنا وتترك الأرض؟

- رفيق راشد هل يمكن أن تكون الرأس الكبيرة تحت رحمة العدو تخضع لضربة حذاء في الفجر؟

غدت الفيلا في حمى الجبل والحدائق والخيط الدموي المالي القادم من الأرض، لكن هل عليه أن يخبئك في غرفة داخلية ولا يجلسك مع محدثيه؟

كانت ابنته فداء في المطار أيضاً وأخذتها سيارة خاصة للاحتفال. فداء كانت نبتة الجبل صارت وردة بين صخوره وسكاكينه وأسرته التي تقطع الأرجل والألسنة الزائدة، مشى معها ليال تحت النجوم وذكريات الأرض، جمعهما نبيذ واحد وسمع غضب الدكتور لخروجها معه، صار هو(مكشوف وخطر)، فداء لم تعد تراه صار يحلم بها، هل للكهل من زواج آخر يصعد فيه لذروة؟

زواجه الأول لأم ظافر تفجر هناك في المدينة الصاخبة التي طلعت ساحرة عملاقة من البحر، سحبت المراكب ودور الطرب الغاضبة ودكاكين الحرف للمشي فوق الجسور وقطف النجوم، كونت من نتف الجزر مدينة كبرى وصواعق من نار وحركت المغاصات والقيعان وحولت القرى لنسيج بحري بري يصعد للغيوم.

حين تفجرت زغاريد عرسه وجد نفسه مقيداً يأكل خبزاً يابساً وعدساً نارياً مفجراً للأمعاء وتحيط به أجساد السجناء ذات العضلات التي تصهر الحديد، وتحمل الخزائن في النهارات هاربة بها للأحياء الفقيرة ثم تخرج من السجون صامتة محطمة تبيع السمك العفن المحاط بالثلج، ويبقى هو يعبر الزنزانات والسنين لا يتحول، والدكتور جاثم في فلته يخرجُ الأولاد والبنات المهندسين والأطباء..

من له هو غير ظافر ولطيفة اللذين تمردا على أرادته؟

يقول ظافر ساخراً:

- هل كنا نراك لكي نتعلم؟ من لنا غير الأتراب القذرين الذين علمونا لعب الورق على القطع النقدية الصغيرة والسجائر المشبوهة وأدخلوا أعضاءهم في أجسامنا، وأنت كنت تكلم الحشود والجدران ..

- تتعلمان الأفعال القبيحة وأجيء لكي أخرجك من السجن بتهمة الاحتيال والسرقة ولا أستطيع أن أخرج أختك لطيفة من زواج تاجر مخدرات؟

- ماذا تريد منا الآن؟ ليس لك حتى بيت، لم تحصل على مسكن كبقية الآباء، تتوه في الأزقة والحانات وتتعارك..! وبيتي هذا الذي اسكنت فيه أمي لم يعد يسعك ويسع مغامراتك..

   - سكنك لا يعيب ولكن تعيب أفعالك..

«أيتها الريح كلي من يدي، أشربي دمي فهو يتدفق منذ كنتُ صبياً كالبحر، مأسورٌ بين المصائد وسيوف قروش البر، أجثم في هذه الحانة تفزعني روائحها العطنة، وتمايلات أجساد روادها المخنثين والمعتوهين، أكاد أشتبك مع النادلات على فلوس صغيرة أضعنها من حسابي، ولا أجد موقع سيارتي.».

يفاجئه الدكتور باسمٍ باهتٍ يضعهُ على رأس الجماعة كنائب عنه.

- هذا الموظف الطيع في الوزارة لم يجابه أدنى شيء مما جابهناه!

- الزمن تغير ونريد وجوهاً هادئة!

حلقْ وأعبر المستنقعات!


بالصدفة، بالكهرباء، بالنار نلتقي ثلةٌ تصطادها الكلمات، أقول لهم لا قتلَ مجرد صفعة لذلك الكاتب الهادئ الساذج الذي يلعن دولةَ سكاكينٍ وغازات سامة، لكن الشباب يتحمس، يسن سكيناً ويغرزها، يقول الدكتور سلمان؛ أزحه، يقول الموظفُ العربي الأجنبي المربع السمين ووراء لوحة رئيس أفقه أخضر أسود يمتد في الدخان، أزحه، يلتقطني الرجلُ الأمني ويضعني في شواية، أدور، أدور فيها لبضع سنين، قبو، أو علبة حجرية تنفث عقارب، عارياً معلقاً، ينتزعونني دماً وجلداً، لم أقتل، لم تمتد يدي لضرب جار، كل هذا الصراخ والحدة لا تنتج عنها شوكة، أتوحد والجموع العادية الغافية في جزيرة السجناء، حيث الضابط الأجنبي فارس يصارع السجين ويمنع الشرطة من التدخل، الرجال يحبون مدير السجن، ألتحمُ بالسجناء، أضع جهاز راديو صغير في حذائي، يقبع هناك ليخرج في الليل وتظهر بعده نشرة أخبار، أطير من جزيرة لصحراء ذات صناديق مشتعلة في النهار جليدية في الليل، أصنع من الزيتون مسابيح، يقول ظافر لا نريد أن نراك مرة أخرى وأمي زوجناها لرجل يخشى الله وأنت قاتل!

في الخمارة أنهش لحمي، الندمان بعيدون عن لهبي، أتخفى عن مالك شقتي، أتسلل إليها في الليل، أغازل رفيقة وأعيش معها بضعة أشهر، تغضب عليّ:

- إنني لا أراك، أنت دائم السكر والغياب!

هربتْ، وظلتْ الشقة سكرى، أقول للدكتور سلمان:

- لا يمكنك أن تسلم حياتنا لابن أغنياء لم يذق ليلة سجن واحدة!

- هل أنت الذي تصلح وصارت شجاراتك في الحانات معروفة؟

من دمرني وأنا المخلص الأمين؟

قال بغضب غريب:

قلتَ أقتلوه هذا الصحفي المزعج وقالها موظفُ السفارة الرجل المربوع الجلف وأنا بلعتها!

 جلبت الشباب من قراهم، ثرثرت معهم طويلاً، أقنعتهم بقتله وهي أوامرك!

تمزقت روايات الشباب ولم تعطي الشرطة دليلاً مادياً على دوري القذر!

ضعت، من هناك وأنا بين جزيرة وعناكب خشبية في الصحراء وقلعة قديمة تنث نورتها وحصاها علينا، وأنت في المنفى الذي لم ينفكَ إليه أحد، في السنوات الأخيرة جاء إلينا ملتحون، ينظفون حبل الغسيل من كفرنا؛ "أصبت بقرحة المعدة وشقوا جسمي من الصدر حتى المصران الأعور، في كل زنزانة أتقلب، أصحو في عمق الليل وأحترق.".

دعاه الدكتور لرحلة تيه أخرى في الخارج، حضر فوجد رجلاً معمماً، يمسك مسبحة وذو مسحة  قدسية ترابية، قال له الدكتور:

- هذا هو الفيض الجديد، سنفتح به القلاع..

منه يفيضُ الريف عباءات وبخانق سوداء وأولاداً للحجارة، ستأتي شقشقة القرآن وفوائض الأنصار وغنائم حنين وأدعية المهاجرين المفلسين، ستظهر آبارُ العسل وحجارة المنجنيق تضربُ الكعبة، وزمن الجواري، وستنسى أمَ ظافر ذات الأظافر، لا يا دكتور لم تعد الرؤية خادعة، وهذا الشيخ خزعل لديه قلعة مماثلة لبيتك في المنفى، حولها خنادق محفورة بالضلوع، وأساور ذهبية من بيع البنات، وأخماس وأسداس من نزيف العيون..

لن أعلم عباس ضريبة الملح، وأجري خلف قذائفه، سأمضي للمدينة معلماً، لدي مشروع ورق يتكلم، يسرد سيرتنا التي ذوبتموها في الدخان.

هذه جدتي تتكلم..

اشتغلت في معسكرات الجيش البريطاني، كانت تصعد الشاحنة العسكرية وهي تتغطى بالعباءة.

وهذه فداء تُخطبُ لعباس المتزوج من امرأة أخرى. فداء تتحجب.

تقول لها:

- كنتُ أتمنى أن أكون مثل هذا الخطيب.

- لا زلت وسيماً ومرحاً رغم كل أمطار العذابات التي أنصبت فوق رأسك.. وأحياناً عدة كنتُ أميل إليك!

- ألا تتذكرين مشينا في الغوطة والحانة التي جلسنا فيها على قاسيون؟ كنتِ منطلقة وشعرك وروحك وأصابعك أحرار!

- عباس رغم تدينه الشديد إلا أنه يعامل زوجاته معاملة إسلامية راقية.

- ألا يضرك إنه يكره الفنون؟

كل شيء يعودُ للوراء، التاريخ يتراجع ويلتف على أعناقنا بحبل قوي وسخ، الجمع في الاحتفال بعودة الدكتور سلمان كله من أولئك الذين اعترفوا وسحبوا الأصدقاء من أحضان زوجاتهم، ومن الفئران التي اختبأت وراحت تجمع المال، والذين ينهضون لصلاة الفجر لكي يتبرأوا من إلحادهم، الريف يمشي في قلب الأحياء، الحشد يطالعك بتوتر، جمل أجرب، يحاصرك في حيك، الإطارات مشتعلة، النسوة المتغطيات بالسواد يزرنك في الليل.

قوافل تمشي في الصحراء، هوادجها تشتعل.

تتقلب في شواية الغرفة التي خمدت فيها الكهرباء في عمق القيظ.

أثنان سمينان ملتحيان يحاصرانك في شريط أسمنتي بين البيوت.

يفحان ناراً:

- رائحتك كريهة من الخمر!

- لماذا لا تترك هذا المنكر؟

- لماذا تتدخلان في حريتي؟

- هذا من كتاب الله؟

- لا كتب أبدية!

يدفعهما بقوة ويضربهما على مؤخرتيهما السمينتين فيدهش من سقوطهما وصراخهما الطفولي.

حرارة شديدة في الغرفة، عرقه يغسله، صوت انكسار للنافذة، ثم ضوء غامر مخيف. إنها زجاجة حارقة تتقلب قرب فراشه!

صاحب العمارة يصرخ في وجهه:

- لا إيجار وحريق، أخرج يا ملعون!

ذوو الثياب القصيرة واللحى ينتشرون، مجموعات ملتصقة بغار حراء والمذنبات والمعوذات، أناس يتجولون في الشوارع للهداية، يحاصرونه يحصرونه، معلق في ضلع الشقة، يتدلى بحبل، يقفز إلى الحانة فرحاً ويشقشق الكلام عصافير وأغنيات، ويتدفق الموت البشري، كتل هائلة من العظام والعبوس والصراخ.

ظافر ولطيفة يتناقشان على سورتي المعوذتين:

- لماذا الجن لا يروون؟

- لأنهما من نار!

- لكننا نبصر النار؟

- هذه قدرة الله سبحانه وتعالى.

يتجادلان على اللحم ربما فيه طعم لحم الخنزير، يلقيان به.

تحجبت والتحى وانضما لجماعة هادرة. 

يمضي بسيارته على الجسر، هنا كانت جوع تشق الدروب. ها هو البحر يهدر تحته. يتمنى أن يأخذه لأعماقه، يتحد والسمك والعشب والقواقع.

هاتف لطيفة ينفجر في سمعه:

- ابي خذني أليك!

- ماذا حدث؟ لماذا تبكين؟

- أحببت شاباً واختليننا ببعض والآن يريدون تطبيق الحد عليّ!

- وما هو الحد؟

- الرجم!

- أي جنون؟!

- ها هم يقبضون عليّ.. أنقذني يا أبي!

ثلة قوية يقودهم ظافر وثمة تل من الحصى ينتظر سكون لطيفة من العويل والشغب!

- لا تستطيعون أن تخدشوا أبنتي أيها المجانين!

لكن الأيدي تتحرك، ولطيفة تُربط والحجارة تتقلقل!

في أي كابوس لم يتخيل أن ثمة حصاة تنطلق لتضرب ذلك الجسد الرهيف اللطيف.

لكن الحصى أنطلق وضرب الصدر الذي أهتز. لم يعط فرصة ليكون الحليب. لم يدغدغهُ طفل!

والرأس ذو الشعر الأسود الكثيف الفاحم يُثقب، تتكسر عظمة فيه، ينبثق الدم كشلال.

تقبض عليه الأيدي وهو يضربها ويعضها كحيوان فقد إنسانيته في وجر ذئاب.

يمسكها كتلاً مفتتة، الدم يتصبب عليه.

تركوها ليدفنها أيضاً.

يحفر ويبكي ويلملم أجزاءها.

هذا الرأسُ يتدحرج عنه.

يتقلب في الكهف، يحملها وهو نائم، يمسكها صبية عروسة للسوق جدائلها تطير وتصل للنجوم.

واقف على الجسر يتطلع لمياه البحر المتدفقة. يحن للغياب.

يمضي ويطرق باب الدكتور سلمان.

يصرخُ به الدكتور سلمان:

- ألا تريد حكم الإسلام؟

- .......

- ألستَ مسلماً هذا حكم الشرع الحقيقي!

يتكور حول نفسه كحشرة، يمضغ ذاته، يأكل أجزاءه، يضحك، يدغدغ أبنته، يُصفع: (قد ينطبق عليك هذا الحكم يا ملحد!)، يختبئ في الظلام، حجارة تنهال عليه، يتجنب واحدة، وتضرب رأسه أخرى، يصرخ في الفراش.

يمسك الدكتور بقوة:

- هذا ما لم نريده! جئنا لنغير..

كان يلم هيكلاً عظمياً في المقبرة.

الهيكل يتفتت ويضحك عليه.

يتقلب في الظلام، الأرجل تضرب الأرض، النعال تتوجه للمسجد بكثافة، تضرب بابه بقوة، يخرج بثوبه الباهت، يلتف حول جسده، يصطف مع المصلين، يسقط على البلاط مراراً.

يرى المصلين في دائرة يدورون، يدخل الحومة، يدور رأسه.

يقولون له: كيف دخلت معنا؟ أتعرف التصوف؟

- أجل أبي كان مطوعاً. وقد كسرت عصيه وحررت الأولاد من الحفظ!

كانوا يأخذونه في طريق المقبرة، مربوطاً، وراءه حشائش كثيفة وثعابين، تنهال عليه الحجارة، ينهض في العتمة والصراخ.

ينام على جمر.

ثمة شبح يتقلقلُ حوله.

يقترب ويبتعد، يقرب يديه المفتوحتين من عنقه ثم يتجمد.

ابنه ظافر يريد خنقه لكنه عاجز.

- لماذا تريد قتلي؟

- لأنك كافر..

- بل قلْ ملحد، لا أؤمن بكرسي العرش الخشبي ولا بجمر القيامة وهذه الكائنات الخنثى التي هي ليست رجالاً و لا نساءً!

- أستغفر ربك!

- تعال طالع درب الحرية والكلمات الذي مشينا فيه. كيف جمعنا المعرفة من الأقبية وقطع الورق في البراميل ومن كتب النار..

- لا بد أن تـُقتل .. يا أبي من يردد هذه الكلمات الفظيعة..

- لقد أعطيتك حرية الإيمان بالشعوذة والخرافة فأعطني حقي في معرفة العلوم..

- سوف أقتلك حقاً!

يتقلقل، يتلوى، يجثم على مقعد وهو مشتت.

- كيف جاءت الأرض من الشمس، كيف تكونا من النار، كيف طرنا بالأساطير ثم سقطنا على الوحل..

- بل كيف قتلت أختي؟ بأي ذنب قُتلت؟

يصمت مطولاً مخنوق العبرة.

- أبحث عنها. أضرب الطرق والحارات، ولا أجدها. اختفت كلياً!

- توقظني، تصحيني في عمق الليل، وأبكي معها. أبي، أعطني لحظة منها، شعرة من جدائلها!

يدخل الدكتور، يحملق غاضباً:

- إن لم تصمت عن تحريضك هذا فسوف تـُقتل!

يهجم عليه، يلقي عليه شوك المقبرة، هيكلٌ عظمي يدفعه نحو حفرة، يهيل عليه التراب، عذاب الملكين.

يتقلب في حفرة طولية شوكية. أحد الرجلين كان على اليمين، يقلب صفحات دفتره ويغمغم:

- يا إلهي ليس ثمة شهادة بلا إله إلا الله، ولا نعال متجهة لمسجد، ولا أمانة في رمضان!

الملاك الذي على اليسار يصرخ:

- هذا رجل كافر زقوه في أعماق الجحيم!

يتقلب في حفرة طولية، بل هو فراشه المثخن بالجراح والعرق والمني، يسمع ضربات على الباب فيدهش وكانت الظهيرة وكان الجوع، لكن من ظهر على الباب هي جارته أمينة التي ساعدها في الحصول على مكافأة زوجها من الشركة والتأمينات بواسطة أصدقائه في النقابات.

قدمت له طبقاً من أرز وسمك مشوي يحبه فأنهال عليه ضرباً.

في أمسيات تخترق المحرمات وتجلس معه، يثرثران ويدخنان ويعقدان خيوط زيجة.

يصرخ فيه أبنه ظافر:

- تتزوج وأنت في هذه السنة؟ أنسيت المرحومة أمي؟

- مضت سنوات طويلة على ذكرى أمك يا ظافر.

- لم يعد اسمي ظافر ولا قاهر ولست صاروخاً بل اسمي هو أحمد الآن!

- من حقي أن أتزوج وهو مطلب الشرع الذي تؤمن به.

- ولكن ليس بعد أن تدخل على المرأة وتتلاعب بجسدها وحرمتها! سوف تعاقب بشدة إذا أقدمت على مثل هذه الخطوة المنكرة!

- أفعل ما يحل لك.

قبل أن تنطلق الزغاريد وتجيء فرقة الفرح ويتعالى صوت الطبول فوجئ بهجوم جوي أمني يقتحم الدار ويجد قطعة حشيش كبيرة.

تلعثم وتراكضت الكلمات في كل درب، لكن جسده دخل عمق زنزانة صغيرة في مركز شرطة مشغول بالقبض وملء الزنزانات بالحشاشين والمسطولين واللصوص.

ثم في جزيرة فارغة إلا من الجبال وأخاديد المطر الخضراء وراح يكسر الصخور ويقدم فتافيت منها للمنازل والشاحنات والفضاء، تعبر النسور والصقور ويتساقط زبلها على أكتافه فكأنه يطير معها ويحتضن الغيوم.

(آه ماذا فعلت؟ كيف ربيت حية في بيتي؟ يا لي من ساذج).

راح يجمع الورق، ينظفه، يعده لكي يكون كتاباً، يخط في الليل والظلمات وعلى خطى أنفاس الفجر، تنمو سيرته في مشاعل وشهب عديدة.

يقبض عليها الضابط ويفح:

- ماذا تفعل أيها السجين؟ أتكتب؟ وما هذه الكتابة الغريبة الغامضة، من يفهمها؟ لكن فيها عبارات خطيرة!

يجيء ابنه حزيناً:

- يا أبي لم أكن أنا الذي القيت بك في هذه الداهية بل شخص آخر تسلل إلى روحي! هو هذا الدين الذي تلبسني وصرخ بي: أجلد، أضرب.. أمرني العفريت الذي ظهر منه أن أضع قطعة الحشيش واعترفت للضابط بها! أحترت وتعذبت وصرخت روحي في النوم. جئت إليك أعتذر وأحل محلك!

لم تضع تلك الأيام، تشكل الكتاب، والنسخة التي حرقها الضابط لم تكن الأخيرة، لكنها في قعر الحذاء الذي لا يراه ابنه.

10/8/2014

_________________________________

10 – إنهم يهزون الأرض! «قصص»، 2017.

«القصص: رسالةٌ من بـينِ الأظافر – الأسود – عاليةٌ – جلسةٌ سادسةٌ للألمِ – غيابٌ – عودةٌ للمهاجرِ – دائرةُ السعفِ – الضمير – المحارب الذي لم يحارب – الموتُ حُبـَأً – إنهم يهزون الأرض! – حـُلمٌ في الغسق – رحلة الرماد – أعلامٌ على الماء – گبگب الخليج الأخير – المنتمي إلى جبريل – البق – رغيفُ العسلِ والجمر – عوليس أو إدريس – المفازة – قضايا هاشم المختار –أنشودة الصقر – غليانُ المياه».












المقالات العامة

العناوين المميّزة

الدرب ـ قصةٌ قصـــــــيرةٌ: لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة

إلى أين يسيرُ هذا الطابورُ الدامي الأقدام ؟  لا أثر للقرية أو القصر أو البحر أو الحدائق أو النسمات الشمالية ، تلالٌ من الرملِ وحقلٌ من النخي...