الجمعة، 5 سبتمبر 2025

الكســـــيحُ ينــــــهض ـ قصةٌ قصـــــــيرةٌ: لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة

 تندفعُ عربتهُ وسطَ السوق، سيلٌ بشري، رثاثُ خلقٍ جاءوا من نفاياتِ القارات، هياكلٌ عظميةٌ تصيرُ حصالات، الخادمُ رفيق وراءه، يضغط على العربة ويَهشُ البشرَ من حولهِ:

      ـــ وسعْ . . وسعْ  قليلاً! ما هذا؟ ما بكم؟ متهافتون على الفلوس الصغيرة التافهة؟ تأتون من أقصى الأراضي الخضراء الغنية لتتهالكوا هنا في هذه الشوارع الكريهة؟ قفْ، قفْ قليلاً يا رفيق، يبدو إن مصطفى تهربَ اليوم كذلك! ماذا نفعل مع هذا الملعون؟ قال إنه سيكون موجوداً وأن الإيجار جاهز! سيقتلني هذا المثقف المدعي!

رفيق تنغرزُ قدماه في أرضيةِ الرصيف الصلبة، أصابعه تبرزُ من الحذاء المهترئ . هيكلُ حامد الأيوبي هائل، رغم أنه تقلص في السنة الأخيرة. ينتظرُ رفيق سماعَ الأوامرِ، وحامد يخرجُ تليفونه ويتصل لكن لا أحد يرد، ووجهه الممتلئ ينتفخ، إنه يتشنج وتصيبهُ رعداتٌ كهربائية، يحمر، ويدهُ تأمرُ بالسير.

يهدأ وهو يتأملُ المقهى وروائحُ الشوي والخبز الطازج الطالع من التنور تقتله، كم جلسَ هنا وهو شاب؟ كم أكلتْ هذه الدروبُ من عمرهِ وأعطاها الكثير، يروح يتكلم مع رفيق وهو يطالع السلع المبهرة والفاترينات البراقة:

      ـــ هل أحدٌ يضحي من أجلِ هؤلاء البشر البقر؟ ألم يكلْ مصطفى؟ هل هناك رجلٌ عاقلٌ يفتحُ مكتبةً الآن وفي السوق؟

يتذكرُ بولهٍ كيف كان ينحدرُ في الشارع الرئيسي المسفلت بين الأكواخ، بنطلونٌ وقميصٌ وكرشٌ متدلٍ تحت الحزام، وشاربٌ عريض، وتحت أبطهِ بضعة كتب، يدخلُ النادي ويضعُ الكتبَ على الطاولة بين جمعٍ من الفتية الذين بصقتُهم الأزقةُ الحجريةُ الرثةُ التي أُنشئتْ وسطَ غاباتِ السعفِ الملتهبة المتراقصةِ ناراً بين حين وآخر، ويشيرُ إلى الأقلفةِ ويصرخُ بالعناوين: عُبيد الجبار! الفولاذ سقيناه! الحارثيات! أقرأوا أيها الشباب، أنتم عدة المستقبل ، صوت المساكين! ولكن المساكين نائمون، يحبون الدخانَ والصبيةَ على الشطآن والأعراسَ والبنات.

كل يومٍ كان يَحضرُ نازلاً من ذلك الشارع وهو يرى العبيدَ السابقين يتلاشون بزجاجاتِ الكولونيا ، عيونُهم الحمراء مثل شراراتٍ تحرقُ جلودَ رفاقهم ، يطفئون شهواتهم في أكواخِ اللذةِ الليلية المعتمة، أو يطيرون مثل فراشاتٍ محترقةٍ في الفضاء! هناك في النادي رأى مصطفى ولداً من عظامٍ مجردةٍ من اللحم، نفثتهُ تلك البيوتُ الحجريةُ الصغيرة، بقيتْ الكتبُ على الطاولة، والأولادُ راحوا يلعبون الورقَ، ثم إختفتْ الكتبُ فأصيبَ بالجنون! راحَ يصيح: سرقتم الكتب يا أولادَ الكلب، هذه ثمرةُ تعبٍ كبير، هناك أناسٌ خلاقون وراء الجدران، وأنتم (بعصاكيلكم) الموحلةِ العرقة لا تكفون عن لعب الكرة في الظهائر ودائماً مغلوبون!

أبوهُ الشيخُ إمام المسجد لم يرضَ عنه، لكنه في ذلك الزمنِ الجميلِ، كان مفعماً بالحياة، كان يأتي إلى هذه القهوة ويأكلُ عدةَ قطع من الخبزِ وطبقين من مرقِ اللحم، ويتكلم مع طوفانِ الشباب المتدفق: هل قرأتَ هذا الكتابَ ..؟ ما رأيك في مقالة رفيقنا ..؟ الأمورُ تنحدرُ لكارثةٍ في الوطن .. المسئولون غير مسئولين . . غاباتُ النخيلِ زالتْ . . يتدفقُ بالكلماتِ والحواراتِ، ويجدُ إنه يمشي وسطَ السوق بين الفتيةِ، ويَحضرُ مهرجاناً أو عرساً أو جنازةً وهو بنفسِ الصوتِ الهادر المرح  الغاضب، تظهرُ الأوراقُ والكتبُ والجرائدُ مثل العصافير وروافدِ الماءِ وغناءِ الشجر، يدعونهُ لحانةٍ لكنه لا يشرب، ليس تديناً كما يقول بل من أجل الصحة!

ثم عرفَ أن مصطفى هو الذي أخذَ الكتبَ ثم أعادها. تلك الهَضبةُ الورقيةُ طحنَها رأسُ ذلك الفتى، وراحَ يسخرُ منه: تزعم إنك قرأتَ كلَ هذه الكتب؟ ماذا عن رأسِ المال؟ هذا يحتاجُ إلى مخٍ كبيرٍ يا حمار!

ثم يلتفتُ إلى آخرين:

      ـــ من هذا الصبي المدعي؟

      ـــ  إنه ابن الخياطة مريوم!

 لكن الصبي المتوترَ المنزعجَ أجابَ على أسئلتهِ بتدفقٍٍ عجيب، وصدمتْ حامدَ الجملُ التي لم يفهمها، تجمدَ حائراً، ثمة مصطلحاتٌ تناوشُ رأسَهُ ، ليس هو بأقلِ إدراكاً من هذا الفتى، وبشَّ وجههُ فجأةً وصاح:

      ـــ  هذا ما أريدكم أن تفعلوه، أن تكونوا مثل مصطفى، إنه يحفظُ الأشياءَ صماً، ولكن هذا جيد في البداية فقط، فأنتبه يا مصطفى لذلك!

كان الفتى لقياهُ في هذا المستنقع، وإنتقاداتُ الرفاقِِ الحادةِ له، بعدمِ فعلِ شيء حقيقي أخترقَها، بعرضِ هذا الموديل المشع، وكرَّسَ جزءً من وقتهِ للبحثِ عن الفتى الغائبِ دوماً، المتوحد مع البحر، النائم تحت القواربِ المقلوبةِ، القارئ في الليل على مصابيح الشوارع.

قالها له مصطفى مباغتاً متوتراً:

      ـــ لدي مسرحية يا أستاذ إسمها الكسيح!

      ـــ أنت تكتبُ مسرحيات؟ دعْ عنكَ هذا الهراء!

وحين قرأها إشتدَّ حماسهُ لإخراجِها، فيقف هناك وسطَ حوش النادي، موجهاً بصرَهُ وحواسَهُ وأياديهِ الكثيرةَ للمسرح المرتفع، مُحَركاً المجموعات من بين التلالِ الرمليةِ ومجمعاتِ السمادِ وأسرابِ الذباب، مُخرجاً النسوةَ وهن يلتقطنَ الدودَ والحشرات من كوماتِ الأرز المحنية، مُجَّمِداً ذلك الرجلَ الأسمرَ البطلَ في دكانهِ الوضيعِ شبهِ الخاوي، مُسلطاً عليه الأضواءَ والأرزاءَ، وتتفجرُّ القصصُ من فمهِ، وتعصفُ به الأنواءُ وتتدفقُ الذكرياتُ، ويشتعلُ السعفُ اليابسُ من سياطِ الشمسِ ومن القناديلِ العمياءِ ومن السجائرِ المشبوهةِ، ويتدفق الناسُ هاربين من النار، ويتمزقون بين الهواءِ النافدِ وحلاوةِ الروح، وشيئاً فشيئاً تنمو الحياةُ في ساقي الكسيح، إنه يتحرك، إن القناديلَ تضطربُ، إن العواصفَ تهاجمُهُ، لكنه يتحرك، وينهضُ بقوة، وتمتدُ أياديهِ الكثيرةُ للصغار والعباءات الهاربة والشيوخ شبه المحترقين!

لم يكد حامد ينام قبل العرض، ليال عديدة وهو مرهقٌ أرِقٌ، يغفو في لحظاتٍ حادة، يرى فيها الجبالَ تتحرك، وموجُ البحرِ يصيرُ بشراً، وتلك الكتلُ من الرمادِ والفحم البشرية تتوهج، والحشائشُ الخضراءُ تملأُ الحقولَ المجدبةَ وتغزو القلاع!

لكن القادمات الكثيرات من الأكواخِ والبيوتِ الصغيرة، الحاضناتِ لأطفالهِن المزعجين الذين إنتهزوها فرصةً للبكاءِ والأحتجاج على غيابِ الحليبِ والحلوى، وهؤلاء الرجال الأزكرت المضمخين بالعطور الرخيصة تدفقوا وأعدوا حلقوهم للضحكِ النازفِ الذي لم يجدوه في كهفِ الظلام والصراخ، لم يلتفتْ أحدٌ منهم لتشنجاتِ عضلاتِ الممثلين، ولهذا الديكور الهائل الذي إستنزفَ ميزانية النادي الشحيحة، وبدلاً من أن ينهضَ الكسيحُ سقطَ على كرسيهِ الضعيف وحطمهُ وكانت الفرصةُ الوحيدةُ للضحك!  

تأملَ حامدٌ السوقَ الهائلةَ وغمغم: أين ذهبتْ كلُ تلك التضحيات؟! حين جاءوا إليه في بيتِهم وجدوا أوراقاً كثيرة، وعرفَ الطريقَ لما وراء الأسوار، وإنكشفتْ خريطةٌ كبيرةٌ من الشباب والآلام والعذابات، ولكن أباه الإمام كان يخطب في الجامع الكبير وعرف الكثيرين، فطلبَ منه التعهد والتخلي عن طريق المشكلات والتضحيات، فوَّقعَ، وخرجَ إلى بلدٍ ناهضٍ تواً وجار في الخليج، وإستبدلَّ بنطلونَهُ بثوبٍ رصين، ورأسَهُ الحاسرةَ بعقالٍ مكين، وأطلقَ لسانَهُ في مدحِ الشيوخِ وعظمتهم، ودخلَ المجالسَ وفاضَ بمعرفتهِ المكتنزة أمام شخصيات بعدها لم تفك الخطوطَ، فعرفوا قيمتَهُ وأعطوه الكثير!

وهو هناك مثله هنا كان يتحسسُ الأوراقَ وغبارَها وأشباحَها، تطوفُ على مخزنهِ المحترقِ وجوهٌ يراها تصيرُ رماداً، يسمع تأوهاتها ، فيتدفقُ لسانُهُ بالخطب في محاضرات غيره، يشاكسُ في كلِ وقت، يتعثر، وهو لا يكفُ عن الأكل والتضخم، من كلِ نادٍ يُطردُ، من كلِ جريدةٍ يُبعدُ، يحاكمُ لسانَهُ ويحاولُ أن يلقي القبضَ عليه لكن لسانَهُ يخرجُ في الليالي مرتدياً نفسَ البنطلون والقميص القديمين ويسيرُ في الأزقة، يُلقي حجراً، أو يخطبُ في الجموع يحثُها على التمردِ، يدخلُ الوزارات ويسرقُ أوراقاً مهمةً ويعرضها في جريدة، أحذيةٌ قاسيةٌ تُقذفُ عليه، شتائمٌ ناريةٌ تنهالُ فوقه، ولكن لسانَهُ ينزلقُ، يظهرُ في كلِ مكان، ساخراً، مُعْرِضَاً،  مَادحاً، يقهقهُ الناسُ منه، تضجُ الشكاوى حولهُ، وفي المساء أو الصباح تأتي الإنذاراتُ والدعاوى عليه.

أخيراً جاءَ مصطفى ، طويلاً مثل حربة، يدفعُ عربةً. رغم كل شيء هو بصحةٍ جيدة، بعد أن جاءَ حامدٌ إلى البلدِ ودخلَ في تضاريسِ أزقتِها، فوجئ بالعتماتِ الكبيرةِ التي ظللتْ الأزقة، حبسَ حامدٌ نفسَهُ شهوراً في المنزل الكبير الذي إشتراه، والذي لم تكن هندستهُ موفقة، فهو أشبه بمجموعةٍ من الأنفاق، لكنه كان معروضاً بسعرٍ بخس، وحين يخرج منه يذهب للمساجد، ويظهرُ بوضوحٍ في خطبِ الجمعة يحدقُ في أبيه بورع، ويملأ الآذانَ بكراهيتهِ للملحدين، ويتغضنُ وجههُ، ويوجه أصابعَهُ الضخمةَ لأشباحٍ متوارية، وكان يتخيلُ مصطفى، ويندهشُ بأنه لم يره أبداً بعد ذلك العرض المسرحي العظيم، يسمعُ شيئاً عنه، ثم يسمعُ الكثير، ثم تدوي سيرةُ مصطفى حوله مثل بحرٍ متأججٍ بالمد!

لم يقم حامد بزيارةِ الحي الذي تغير، وقالوا له عن مريوم الخياطة التي ظلت تنتظرُ ابنَها سنوات طويلة وهو قابعٌ وراءَ الجدران، تلك المرأة صنعتْ ثياباً كثيرة للنساء، حافظتْ على بصرِها بتلك العوينات المُكبرة، فأحسَّ وهو يعبرُ البحرَ بالطائرةِ ويجثمُ في المجالس العامرة بالأسى الشديد، لكنه بعد أن خرج مصطفى من السجن، وعمَّر الحيَّ بالأولاد، ظلَّ خائفاً منه، يتجنبُ المرورَ بتلك المناطق الموبؤة، حتى وهو في البيت ظل خائفاً، ربما قفز عليه ونحره!

لكنه ذات يوم فوجئ به! تقابلا وجهاً لوجه! غيومٌ سوداء نزلتْ في الشارع، إنحنى وهو يضعُ رزمةَ النقود في جيبه، الصرافُ الآلي لا يزالُ يحدثهُ بحسابه، ولم ير سوى أقدام مصطفى التي تتقدم منه.

جاء أخيراً!

كان يدفعُ عربةً، يتقدمُ بصعوبةٍ بين الحشدِ الذي ملأ الرصيفَ، ظهرتْ عربتهُ المليئةُ بالكتب والأجهزة، رآه فجأة، مثلما رآه هو سابقاً وخاف، بعد تلك السنين المرعبة ربما يطعنهُ، وأجرّهُ المعرضَ وهو يكادُ يختنق، ثم تقلّبَ كثيراً على فراشهِ بإنتظارِ الإيجارات المتأخرة دائماً، ولحسن الحظ كان مصطفى يدفعُ رغمَ كل شيء!

2010

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

8 – الكسيحُ ينهض «قصص»، 2017.

«القصص: الشاهدُ.. على اليمين – الكسيحُ ينهض – جزيرة الموتى – مكي الجني – عرضٌ في الظلام – حفار القبور – شراء روح – كابوس – ليلة صوفية – الخنفساء– بائع الموسيقى– الجنة – الطائرالأصفر – موت سعاد – زينب والعصافير – شريفة والأشباح – موزة والزيت – حمامات فوق سطح قلبي – سقوط اللون – الطريق إلى الحج – حادثة تحت المطر – قمرٌ ولصوص وشحاذون – مقامة التلفزيون – موتٌ في سوق مزدحمٍ – نهاياتُ أغسطس – المغني والأميرة».

المقالات العامة

العناوين المميّزة

الدرب ـ قصةٌ قصـــــــيرةٌ: لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة

إلى أين يسيرُ هذا الطابورُ الدامي الأقدام ؟  لا أثر للقرية أو القصر أو البحر أو الحدائق أو النسمات الشمالية ، تلالٌ من الرملِ وحقلٌ من النخي...