السبت، 6 سبتمبر 2025

مكي الجني ـ قصةٌ قصـــــــيرةٌ: لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة


الطريقُ أخذ عفاف إلى منعطفاتٍ غريبة مفاجئة ، رأتْ دروباً معتمة وضربتْ الأغصانُ بشكلٍ مفاجئ وسريع وحاد زجاجَ السيارة الجانبي ، وبدا كأن أصواتاً تناديها من أمكنةٍ لا مرئية ، وثمة عيون ذات شرر ، ورؤوس حمراء تخرج من الجداول الملأى بالورق.

وغمغمتْ بوجل؛ (عليّ أن أصل بسرعة ، أي حفلة هذه التي تـُقام في قرية الرمان!).

وغمغتْ بوماتٌ في غابة الشجر ، وردت غربانٌ بغضب.

وتوقفتْ السيارةُ فجأة ، وتدفق بخارٌ على شكل عفاريت من الحديد الساخن.

هدأتْ ضجةُ المحركِ لكن ضجة الغابة لم تتوقف. ربما هو سكونٌ عميقٌ أشبه بانفجارات. والأرضُ الآن ، الشريط الأسفلتي ، والتربة الملأى بالشجر والأوراق والجداول ، تغمغمُ بصوتٍ عال.

تجمدتْ على المقعد، المفتاح يدور ودواسة البنزين تنزل بقوة مراراً، لكن الحديدَ يمشي في الفراغ.

وفجأة سمعتْ صوتاً ، ثمة أقدامٌ تتقدم ، وراحتْ شفتاها الرقيقتان اليابستان الآن ، تتدفق بآياتٍ من سورة الكرسي ، الألفاظُ تتكسر ولا تنبعث بهدوء ووضوح ، همستْ:

      ـــ سبحان . . الذي . . على العرش . . . أستوى . .

الضرباتُ تقوى ، وثمة ضياءٌ خافتٌ أصفر وأبيض ، وتكسرٌ لأعناقِ الورق وتأوهاتها القوية ، واللغة القرآنية تتصاعد ، وزاوية عينها تنحرف قليلاً ، والأبواب تـُغلق بحركة آلية حادة.

ثم عمَّ السكونُ ولكن النور لم ينقطع عن الأرض ، وبدا لها أن سفينةَ نوح تستوي على جبلٍ ، وأسرابٌ من الطيور تظهرُ من بين الغيم الذائب ، وحيوانات مستأنسة تخرجُ إلى الشواطئ.

سمعتْ شيئاً ، رأت أصبعاً ، وصرختْ ، كانت رأسٌ بشعةٌ غريبةٌ تحدقُ فيها من وراء الزجاج!

(يا أمي . . يا أمي . . آه الحقيني!)

الكائنُ الغريبُ الذي كان قريباً ، تراجعَ للوراء واهتزَّ القنديل ، فترجرجَ الضوءُ وكادت السفينةُ أن تنقلب ، ولكن الطيورَ تدفقتْ من بين الخشب والصواري ، والمياهُ سالتْ من بين الصلبِ والترائب ، وهي امرأةٌ شابةٌ في الخريف ، وحانَ موعدُ موتهِا.

القنديلُ تتقدمُ للزجاج ، وظهرَ وجهُ رجلٍ مبتسم ، وحركَ أصابعَهُ طالباً إنزال الزجاج ، وجاء صوتهُ خافتاً سائلاً.

استعادتْ شيئاً من أعصابها ، تلفتتْ ، رأتْ بين أعماق الشجر بيتاً صغيراً يضيءُ بخفوتٍ من بين شقوقه الكثيرة ، وكأنه يتنفس نوراً ، والغابةُ كلهُا هادئة ، ورحلتْ القنافذُ والطيور.

أنزلتْ الزجاج ، حافظتْ على جمود وجهها. قال الرجلُ الغريب:

       ـــ أثمة عطل في السيارة؟ يمكنني أن أساعدك ، أفتحي غطاء المقدمة.

لم تجب ، بل أطاعت الأوامر. راحتْ تطالعُ الرجلَ الذي كان لوحةً يملأها الاضطرابُ والغموضُ والقبح ، رأسهُ كومةُ حشائشٍ ، وجههُ بريةٌ قاحلةٌ ذات جبل أشم ضخم ، ملابسهُ خرقٌ متجمعةٌ بفعلِ فنان مجنون.

الآن رأسهُ الكبيرة شَعراً دخلتْ الآلةَ الحارةَ التي لا تزال تنبضُ بخاراً ، دخلتْ يداه في الأسلاك ، ثم ركضَ إلى البيت وأحضرَ ماءً وأشياءً ، وأحدثَّ بلبلةً معدنية.

كان أمرهُ الأخير لها قد جعل الحياة تعود. السفينةُ الحديديةُ لم تكن فيها طيورٌ تمضي للشواطئ. كانت آلة التصوير السينمائية وعلب الأفلام السوداء مترنحة في العتمة. وقلبُ عفاف كان مفتتاً على الحواشي.

قالت:

      ـــ أنا لا أعرف الطريق. هل يمكن أن تصفه لي؟

      ـــ سوف تضيعين بالكلام. سأحضرُ معك.

      ـــ أليس فيها إضاعة لوقتك؟

      ـــ نعم، ولكنني قلقٌ على سلامتك.

سارتْ معه إلى بيته ليبدل ملابسه ويضعُ أشياءَه. التربةُ يابسة ، تطلعتْ إلى جذوع الأشجار المتشققة بقلق. كوماتٌ من الأوراقِ ربضتْ في الجداول كنيامٍ مضطربين. حوشُ البيتِ الذي ضنتهُ نوراً كان حشوداً من الآلات والصناديق والمضخات ، والحجرات كانت ضيقة ومضيئة ، ومليئة بالكتب والخرائط ، والرجلُ كان جاثماً قبل قليل قرب طاولة ربضتْ عليها ورقةٌ كبيرةٌ ذاتَ حشودٍ من الخطوط والكلمات.

      ـــ أنت تعيشُ هنا؟!

      ـــ أعملُ وأعيش.

توارى في الداخل ، سمعتْ هديرَ الماء ، تطلعتْ في أنحاء الحجرة ، لم تجدْ صورةً له ، ولا منفضة سجائر ، وأصص النبتاتات كثيرة وغريبة ، وتفوحُ من الغرفِ روائحُ عطرٍ آخاذ. والملابسُ مرتبة بدقة.

وهو يغتسلُ كان يحُلق ، وعدهُ طائرُ الحلمِ بجنة ، وفي الصباح رآها تحترق ، دائماً كان يجدفُ في المياه ، العكرة ، سوف ينزفُ المشروعُ وتموتُ الغابةُ ، ليس ثمة ماء ولا مال ، لكن الحلمَ رسمَ صورة امرأة جميلة رآها الآن في الظلام ، وتمنى لليلِ أن يطول ، ذهلَ من عينيها العميقتين كشمسين سوداوين في البرية ، ورأى شيئاً آلياً حميماً ينام في المقعد الخلفي.

وهو يدوسُ الورقَ الأصفرَ معها راجعين للسيارة التي استعادتْ عافيتها ، سقطتْ عليها أشياءٌ فصرختْ مذعورة! 

كان عصفوراً وبضعَ فراشاتٍ يابسة.

راحَ يضحك.

      ـــ كان منظرك رهيباً وأنت في السيارة.

      ـــ أي غابة هذه التي تـُسقطُ طيورَها في الليل؟!

بدأتْ الطرقُ تـُضاء.

      ـــ غابة غادرة ، عشتُ سنيناً هنا وأنا أرممُ عروقَها وينابيعَها ، وكان عليّ أيضاً أن أكتبَ لكي أمنعَ رياحَ المزابل الكيميائية من أن تخنقها ، غدتْ مثل زوجة تحتضر.

      ـــ بودي لو أقف قليلاً هنا. أشعرُ بالحاجة إلى هذا الهدوء ، هذا العمق في الألوان ، أتنصتُ على أنفاسِ الغابة وهي تموت.

كان بوده لو تنام على صدره ، طالتْ الليالي الشاحبة ، وبعد برهةٍ من الزمنِ الخانقِ سوف يلملمُ أدواتَهُ ويخلي صدرَهُ من الورق الأخضر ، ويُسجن في أقبية المدينة ، هل ضاع العمرُ هباءً ؟!

هل يمكن أن يعود للمدينة ومعه امرأة؟

كانت هي تلملمُ زجاجَها المتناثر في حوشِ العمر الترابي ، تبحثُ عن مشروعات فنية كلها تـُوضع في توابيت ، قدمتْ أفلاماً غريبةً موحشةَ الصالاتِ ثم أفلامَ رعبٍ وامتلأت القاعات. نزفتْ في فشلِها ونجاحها.

      ـــ ما أسمكَ . . ؟

      ـــ مكي . .

      وأردفَ أسماءً تمتدُ إلى آدم.

      ـــ وباختصار يسمونني الأهالي هنا؛ مكي الجني!

      ضحكتْ.

      ـــ ثمة شبه كبير بينك وبين الأدغال هنا.

      ـــ نعم أبدو لهم غريباً ، اخترقُ القرى بالأنابيب ، والأفلام ، أزرعُ في المدارس حشائشاً وحشيةً تلتهمُ البعوض ، أعطي النساءَ الحوامل بخوراً طيباً حتى لا يأكلن الأغصان ، أظهرُ إليهم من وسط المقابر الأثرية معفراً وورائي حشدٌ من العفاريت.

      ـــ أخفتني أولَ ما ظهرتَ!

      ـــ يبدو إنني رأيت صوراً لك. كأنك مخرجة محبطة.

      ـــ آه! يا للناس كيف تلتقط الأخبار! أسكتْ عن الأحباط. كان عليّ هذه الليلة أن أصورَ مشاهد عدة   في قرية الرمان حيث هناك أكبر مقبرة. وصمتتْ كلُ الهواتف ، وتهت.

      ـــ أهو فيلم رعب آخر؟!

      ـــ ومليءٌ بالغموض كذلك!

      ـــ حيث الجثث تتطايرُ وتخرجُ من الجدران والطيورُ تتحولُ إلى إفاعٍ وسكاكين ، ويا لبحيرات الدم والأجزاء المقطعة التي تهذي!

      ـــ نعم. يبدو إن السيارة تتحرك أو تتكلم!

      ـــ لا، دعينا هنا حتى الصباح. سترين أن الغابةَ في الفجر مذهلة. تشقُ خيوطُ النورِ الورقَ الأصفر وتسمعين العروقَ تئن.             

    2 ديسمبر 2008

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


8 – الكسيحُ ينهض «قصص»، 2017.

«القصص: الشاهدُ.. على اليمين – الكسيحُ ينهض – جزيرة الموتى – مكي الجني – عرضٌ في الظلام – حفار القبور – شراء روح – كابوس – ليلة صوفية – الخنفساء– بائع الموسيقى– الجنة – الطائرالأصفر – موت سعاد – زينب والعصافير – شريفة والأشباح – موزة والزيت – حمامات فوق سطح قلبي – سقوط اللون – الطريق إلى الحج – حادثة تحت المطر – قمرٌ ولصوص وشحاذون – مقامة التلفزيون – موتٌ في سوق مزدحمٍ – نهاياتُ أغسطس – المغني والأميرة».

المقالات العامة

العناوين المميّزة

الدرب ـ قصةٌ قصـــــــيرةٌ: لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة

إلى أين يسيرُ هذا الطابورُ الدامي الأقدام ؟  لا أثر للقرية أو القصر أو البحر أو الحدائق أو النسمات الشمالية ، تلالٌ من الرملِ وحقلٌ من النخي...