السبت، 6 سبتمبر 2025

الخنفساء ـ قصةٌ قصـــــــيرةٌ: لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة


في المساء يتألق شارعُ القصر بالأضواء المبهرة ، ويندلع خط ٌمضيءٌ في جانب ، وأحمر قان كنهر من الدم في الجانب الآخر. خطان متضادان من السيارات التي تحبو على جانبيه. يرمقُ أصحابُها بعضهم بعضاً ، مفتشين عن وجوه الحسان ، التي غالباً ما تحدق في نقطة غامضة أمامية ، وفي بعض الأحيان تلتفتُ باهتمام ومفاجأة !

يمتلئُ الشارعُ بالمحلاتِ الفخمة ذات الواجهات الزجاجية الكبيرة البراقة ، ويتدفقُ على الأرصفة عمالٌ من شتى الألوان والأقطار ، مندفعين نحو غرفهم المزدحمة ، وفي الأزقة الجانبية هناك المحلات الصغيرة الكثيفة وحشود المشترين والمطاعم .

يجلسُ شريف في حنجرة أحد الأزقة الجانبية ، بادياً كتمثال نصفي للانتظار والصبر والدهاء ، جالساً فوق صندوق فواكه فارغ ، حاشراً ساقيه داخله ، مشعلاً سيجارة لا تكاد تنطفئ ، محدقاً في الشارع المضيء بعينٍ ، وفي الزقاق بالعين الأخرى .

لا يستطيع الوقوف ، فقد مرت الأعوامُ الستون بصعوبة فوق عظامه الناتئة ، ولا يزال يدخر سنوات أخرى كثيرة لمجابهة الليالي العجاف القادمة . لم يترك سنة من تلك السنوات تمرُ بهدؤ ، وقد أندفع في الحياة يعبُ من ملذاتِها بنهمٍ مجنونٍ لا يرتوي ، ويعصرُ كلَ ساعة فيها كما لو كانت برتقالة حلوة.

لا يدع سيارة تهربُ من نظراته . هذه تـُنزلُ امرأة قرب زقاق ، وتلك تضع كتلةً كبيرة مغطاة من علب البيرة التي تـُباع في السوق السوداء ، فرمضان قادم ، وثمة شاحنة ورجال غامضون ينزلون في أحد الدروب ، وبعدها ستنزلُ أسعارُ الحشيش !

لا يستطيع أن يشرب ، كما في ربيعهِ الأول ، حيث سكب أنهاراً من الزجاجات ذوات المياه البيضاء الناصعة ، والآن يكتفي بزجاجة واحدة مع دجاجة مشوية .

كان يغدو حمامة ، أو غمامة ، راقصاً ، منتشياً ، مطلقاً النكات ، سابحاً في مياه البحر النقية ، مستلقياً على رمله الأبيض ، شاوياً عدة سمكات في أي مصيدة يسرقها ، أو أي قفص يفتضُ بكارته ، مندفعاً بين الأزقة، قافزاً أي جدار واطئ . .

وما أروع تلك الليلات ! حين يلبسُ ثوبه ، ويضع عقاله الفخم ، مخفياً إطلالات صلعته المهيبة بعدئذ ، ومتعطراً ، وغازياً أحدَ البيوت الغامضة في غابةِ الأكواخ الواسعة ، محدقاً في وجوه الشباب والنسوة . .

تدورُ الكؤوسُ ، ويتصاعدُ الغناءُ كاللهبِ في الأجسادِ المنهكةِ عشقاً ، وتتعانقُ النظراتُ والرغبات ، ويندلعُ الحريقُ قرب الفجر ، فتغدو الأجسادُ النازفة طيوراً تسبحُ في الملكوت !

وما أكثر ما أشتغل في النهار ليوفر ثمن اللذة في الليل . تعب البحرُ من مجاديفه وعرقه وضربات أقدامه . هلكت أسماكٌ لا تحصى من حرابهِ وبطشه . لم يحب البحر ، ولعله لم يحب أحداً أو شيئاً سوى نفسه ، وحتى نفسه كرهها كثيراً ، وأرادَ أن يبطشَ بها ، لولا أنه فضل شاي الصباح وخدود الفتية .

وتعبَ البرُ منه أيضاً ، كلُ قطعةِ حجر رأتْ هذا الجسدَ القصيرَ القوي الباحثَ عن أعشاشِ الطيور منحشراً في المزابل يستخرجُ أي قطعةٍ تــُباع ، ملتقطاً أي صبي يلقيهِ في بيع المسروقات..

ظل سنوات طويلة محني الظهر فوق الملابس المكرمشة. المكواة الساخنة هي صديقتهُ العريقة . رحلتْ كلُ الأيام ولم يجن أي ثروة ، تبخرَ كلُ المال ، رغم حرصهِ الشديد عليه ، يضعهُ في أمكنةٍ لا يستطيع الجنُ الأزرقُ الوصول إليها ، في مروحة ، تحت بلاطة ، في تلفزيون ، في دجاجة متجمدة .

حتى الغرفة الخضراء التي يتجمعُ فيها الرجالُ لم تستطع إعطاءه  ثروة . وكل أولئك الرجال غابوا الآن ، أصبحتْ لهم فللهم الكبيرة ، وصالات القمار الواسعة المكيفة، ويقوم على خدمتهم حشدٌ من الفتيات الجميلات، كي لا تتصدع قلوبُ الخاسرين منهم، وقلما يتذكرون هذا الحي، أو يتذكرونه، ولكنه لم ينسهم، فيذهب إلى أقرب هاتف ويتصل بهم، وهم يصرخون : (لا تحرجنا يا شريف ، سوف نرسل لك مالاً !).

ينهضُ من على صندوقهِ، حاملاً إياه، ماشياً بعرجٍ كأنهُ بطة، وحين فتحَ بابَ الغرفة وجدها فارغة من الحس. كراسى كبيرة وتلفزيونٌ رائعٌ وسجادٌ وخزائن، ولكن كلَ شيءٍ فارغ.

الصبية اختفوا كذلك، لا يظهر من منظر بابهِ المفتوح سوى العمال الأجانب يتدفقون بلا توقف، لغاتٌ غريبة، وأناس لا يحتاجون إلى شيء، لا يقامرون، لا يمرضون، يكنزون الفلوسَ الصغيرة تحت جلودهم ثم يتبخرون في الفضاء.

يفتحُ التلفزيون ويغلقه، يدخن، يبدأ باحتساء زجاجته، كل ليلة يثرثرُ لوحده، سيموتُ من الوحدة، يسمعُ صوتَ الصبية وهو ينهمرُ في الزقاق فينتعش قلبه، ويفكرُ بالرفقة والأحاديث التي سيتدفقُ بها، ولكن الصبية يمرون كالبرق، فيندفع إلى الباب ويلقي برأسه في الظلام والفراغ، فيراهم يحملون أشياءهم الكثيرة ويتحلقون حول بعضهم، فيصرخ منادياً، لكن لا أحد يلتفت إليه.

يترنحُ على الكرسي. لو أنه حاول أن يعصرَ خديه ليقطر دمعة واحدة فإنها لن تظهرَ من بين تلك الصخور. هناك أعشابٌ محترقة، وحفريات وبقايا كائنات لكن لا ماء.

وحتى أصحاب الإبر الذين أدمنوا المجيء إلى غرفتهِ اختفوا. يتذكرهم، إنهم أسوأ الأشقياء، يثقبون الحصى وعظام أمهاتهم للحصول على قطعةِ نقدٍ صغيرة. ماذا حدث لأبناء المدينة، أين هم؟ لماذا هو وحده يدور في هذه المدينة الفارغة؟

دار مرة على كلِ الأزقة والمقاهي والحوانيت ليسمع كلمة صديقة فلم يجد، وكاد ينحني ويأكل التراب.. وحتى أن يبكي، لكن عاد وحيداً إلى غرفته.. حين أحترق أبوه في الكوخ حملَ هيكله المتفحم ولم يبكِ، الآن به صيحة تلوبُ..

كان أفضلهم وأكرمهم . .  مطر! صاحب السيارة الفخمة، رجلُ النزوات الغريبة، الذي لا يعرف كيف توطدت صداقته به إلى تلك الدرجة الكبيرة ثم انفجرت كفقاعة. هو وحده كان سبب عيشه وامتلاء بطنه، فأين هو، وهل غادره إلى الأبد؟

غالباً ما يتسلل مطرٌ من الأزقة الجانبية، فيسمع دقات الباب فجأة، ويرى ابتسامته المطاطية:

      ـــ أحتاج الغرفة لساعةٍ واحدة، أذهبْ وأشربْ!

يعطيه بضع دنانير فينتفخ فرحاً، ويجرجرُ ساقه فوق الأرض، متطلعاً بلهفة إلى السيارة، حيث لا بد أن يرى قمراً منيراً، ولكن المرأة دائماً ما تتغطى بعباءتها، سالبة منه حتى هذه الفرصة، ويظل مختفياً وراء الجدار، فيراها تنزل معه، يدخلان، فيهتف:

      ـــ يا فراشي السعيد!

يقتربُ من الباب والنافذة عله يرى وجهها، فيعرفها ويقيم مودة ما، لكن لا تأتيه سوى تأوهات تقرصُ جلدَهُ، فيندسُ في حانة ملآى بعمال شديدي السمرة والسواد قادمين من بقاع قصية، ذوي روائح فظيعة تعاركَ فيها زيتُ النخيل الحامض بالعرقِ والتجشؤات، ولكنهم يعطونه ظهورهم وهم مندمجون في أحاديثهم التي لا تنقطع حتى لو ترنحوا على الأرض.

ها هو يخرج الآن! يتجه إليه، المرأة لا تزال متدثرة، ولا يبدو إلا شق صغير من وجهها، ولكنه يلمع ببرق ساطع، يأخذ مطر جانباً ويهمس:

      ـــ إنني تعب جداً ومحروم، أنت صديق عزيز وتقدر!

      يكاد مطر يخنقه:

      ــ أبحث لك عن امرأة في مستواك يا جحش!

أحياناً يأتيهِ في منتصف الليل ويوقظهُ ويخرجهُ من الغرفة، ويختلي بالمرأة طويلاً، يرفعُ صوتَ الموسيقى طويلاً ليضن عليه بتأوهاتها.

عاش ساعات وحدة طويلة مع الزجاجة وشبح مطر. إنه غريب ، غريب، ماذا يريد منه؟ يستطيع أن يستأجر شقة. لعله لا يستطيع أن يتحمل مصاريف زوجتيه. أجل ، لديه زوجتان ، ومع هذا يعسعسُ في الأزقة باحثاً عن نساء! مرة غش فتاة بلهاء، وحين أحضرها وقف في وجه دخوله وصاح:

      ـــ أذهب بها بعيداً عني!

لماذا أختفى؟ كم يشتاق إليه؟ لا يعرف كيف صار يحن للناس هكذا؟ لم يكن ضعيفاً أبداً! لعله كان ذا فائدة لمطر حين كان نشيطاً، لعل هذه الغرفة آخر ما ربط بينهما. لعله سيأتي حتماً. أليس هذا ضؤ سيارته؟ اللعنة، ليس سوى  سائق عابر..

نهضَ بغضب:

      ـــ ما هذه العيشة الحقيرة التي تعيشها يا شريف؟ تدبُ على الأرض كخنفساء مسحوقة، وتتآكلُ في هذه الغرفة التافهة المليئة بالمواعين الصدئة والأثاث المستعمل، وتلك الصورة، صورتك وأنت رجل بعقال ضخم كأنه أفعى هائلة، أنها مضحكة مؤلمة!

تناولَ الصورة وضربها بالجدار فتناثرث شعلاً. وتألم في موضع ما من جسده. وتذكر كيف جاءه الملتحون ذوو الثياب القصيرة، ودهش كيف أصبح هؤلاء في كل مكان، وحين كانوا شباباً كان الحي عامر بجلسات الدكاكين والزجاجات وسرعان ما يمتلئ الشارع بالمسامير حالما تدب لوريات الإنكليز المسلحة، وكانت الغرفُ تصخبُ بالأغاني، وسألوه أن يأتي معهم إلى المسجد، وإنه بؤرة الفساد الأخيرة، وأبتسم لهم وغاصَ في جمعهم، والتهم صواني الأرز واللحم بعد جرعات الويسكي، وهناك انتابته حالة من الحيرة والشك والألم، لكن الملتحين قذفوه من المسجد، وهم يصرخون: لن تتوب أبداً!

وفي ليالي الوحدة الطويلة تتدلى من سقفهِ رؤوسُ ضحايا كثيرة، وانتبه للدم الذي يتدفق من يده، وكانت تلك الرؤوسُ تطفحُ غارقة فوق مياهٍ وعيون، وأكثر ما يؤلمهُ الآن صيحات الأطفال الذين كان يغرقهم بالعمل وبخطفِ محافظ النقود، يرى عظامهم خلف القضبان تشتعل بالسياط وتحت سراويل السفاحين. أرواحهم تتساقط طيوراً ميتة حول وجهه، ويسمعُ صرخات أمهاتهم وهي تتحولُ إلى مسامير تثقب أذنه..

كان مطر يجلس فوق المقعد الفاخر الوحيد في الغرفة محدقاً فيه بسخرية ويقول:

      ـــ ما هذه العيشة الحقيرة التي تعيشها يا شريف ..؟!

وتذكر الآن إنها كلمة مطر، وليست كلمته، ولكنها غاصت في روحهِ كسمكةٍ مسمومة، بحراشفِها وأحلامِها النارية، وراح مطر يكملُ تقطيعه:

      ـــ لم تفعل في هذه الدنيا شيئاً، لا ولد ولا تلد ولا مال ولا سمعة .. كل ذلك العصر للحم الأطفال لم تظهرْ منهُ أرضٌ ولا امرأة..

كانت بينهما زجاجة كبيرة، وعندما بدأ قاعها البعيد يلمع، تضخمت العيون وتاهت النظرات في شظايا الأشياء..

      رد:

      ـــ لماذا تقول لي ذلك دائماً؟! تجلس هنا ساعات وأنت تضحك عليَّ؟ لماذا وأنت الكبير، الذي تجالسُ الكبارَ وتركبُ المرسيدس، ولديك بيتان أضيعُ فيهما، ورصيدٌ ضخمٌ في البنك، تحتاجُ إلى شخصٍ وضيع مثلي، شخص هو أشبه بزبالة في هذه الحياة، لماذا تتعبُ نفسك وتعاني وتجلس أمامي؟!

يرمقهُ الآخر بدهشة. ثمة لحظة تأمل صافية بدت تلوح في الأفق، أو ظلال لعاصفة، وغارت ابتسامة مطر في قعر عظامه، وحاول أن يمسك الكأس الذي ترنح..

      ـــ ماذا تريد مني، ولماذا تحتاج إليَّ؟ ألم تسأل نفسك يوماً.. لماذا تحتاجني؟ ألا تشعر بالرغبة في مشاهدتي والحاجة إليّ وأنت تغسل جسم رئيسك في نادي اليخوت أمام مرأى المشاهدين.. وأنت تنظفُ فراشَهُ من البقايا.. وتوصل الفتيات إلى استراحته، وتصبُ الخمرة وتقدمُ المزة وتجمعُ البصاق والإهانات..!

أنتصب مطر كطود، ثمة زلزال في جسمه، ولم يخطر ببال شريف إنه سوف يسقط بغتة. يقبضُ على حافة الطاولة التي تنهار وتسقط الزجاجة وتطير أشباحها، وحاول أن يرفعه لكنه دفعه بغضب، وكان الآخر يصرخ:

      ـــ أستطيع أن أتركك تموت كالكلب هنا.. تتعفن دون أن يسأل أحدٌ عنك..

نهض بصعوبة، لكن لم يستطعْ أن يخرجَ أنصالَ الكلمات المغروزة في لحمه، كان يتفتتُ أمامه، فأشفق عليه، وطلبَ منه المغفرة، وحين غاب ارتعدت فرائصه، لكن دمعة واحدة لم تنزلْ، وجههُ الصخري فاضَ بفسفور حارق..

الدمُ يملأ قميصه، الوجوهُ الملتحية تطلُ في غرفتهِ وتحدقُ في زجاجته.

أشباحُ الأمهات تقتربُ منه، وترفعُ قناديلَ صفراء، فيرى أخاديد وجوههن، ويتذكرُ ضلعاً من صبي رفعهُ حتى السماء وألقاه.

وأطاحَ بزجاجته فجأة، انهارتْ وصبتْ روحَها على البساط الذي أمتصَ كلَ شيء، وبدا أن الفتية يحيطون به من كل جهة، ويروح يتحسس عظامهم البارزة، ويصاب بقشعريرة حادة.

يسمع غمغة الرجال . يرى شعراً كثيفاً في لمعات ضوء الشارع . ثم يرى نوراً هائلاً مباغتاً ويدوي صوت عنيف، وتندفع النيران حوله ، ويُغلق بابُ الغرفة بقوة..

2007

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


8 – الكسيحُ ينهض «قصص»، 2017.

«القصص: الشاهدُ.. على اليمين – الكسيحُ ينهض – جزيرة الموتى – مكي الجني – عرضٌ في الظلام – حفار القبور – شراء روح – كابوس – ليلة صوفية – الخنفساء– بائع الموسيقى– الجنة – الطائرالأصفر – موت سعاد – زينب والعصافير – شريفة والأشباح – موزة والزيت – حمامات فوق سطح قلبي – سقوط اللون – الطريق إلى الحج – حادثة تحت المطر – قمرٌ ولصوص وشحاذون – مقامة التلفزيون – موتٌ في سوق مزدحمٍ – نهاياتُ أغسطس – المغني والأميرة».

المقالات العامة

العناوين المميّزة

الدرب ـ قصةٌ قصـــــــيرةٌ: لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة

إلى أين يسيرُ هذا الطابورُ الدامي الأقدام ؟  لا أثر للقرية أو القصر أو البحر أو الحدائق أو النسمات الشمالية ، تلالٌ من الرملِ وحقلٌ من النخي...