الجمعة، 5 سبتمبر 2025

سيد الضريح ـ قصةٌ قصـــــــيرةٌ: لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة

كان  الليل شديد البرودة، فامتلأ الضريح بالبشر. أجسادٌ متلاصقة، أطفالٌ وشيوخ، نساءٌ ورجال، وهم شبه عراة، تبدو جلودهم وهي تنتفض من وراء القماش الرقيق، محشورون في القاعة البلاطية العارية، والضريح بقبته الكبيرة يحدق بهم، بأطره الذهبية الواسعة، وعيونه الخرزية الكثيفة الكثيرة، يتطلع إليهم وثمة روح تزيح ما علق بالقبة من مياه عميقة متكلسة، ومن طين الأرض الذي أتحد بذهبها اللامع، ومن جذور ونذور..

بغتة تنشق القبة، المعدن الصلب إنصهر أولاً، وأخذت الأحجار التي تكلست منذ قرون تتصدع،  وانهارت كتلة ضخمة من الوسط، وأحدثت دوياً هائلاً، ومن الغبار والعتمة والنار ظهر كهلٌ تطلع بخوف إلى زواره المتكدسين خائفاً من إيقاظهم وإزعاجهم، غير أن أحداً لم يستيقظ.

تطلع الى القبة بذهول، حدق في السقوف الواسعة اللامعة، وفي الأعمدة الهائلة، والسجاد الباذخ، نزل بهدوء وغياب وحزن، أخذ شيئاً من الذهب المتناثر واللؤلؤ المتساقط، ووضعه في أيدي الناس النائمين، غير أن قبضاتهم كانت مفتوحة لا تمسك معدناً أو هواءً..

صاح طفلٌ قرب قدمه، مضغة صغيرة من لحم متوارٍ وعظم بارز، وأمسك نعله وتطلع الى وجهه، فأعطاه كرة من ذهب، فلم يأخذها. تلفت الكهلُ إلى كل الجهات، وطلب شيئاً، لكنه رأى يديه فارغتين. سار بإنزعاج وألم وغضب، فمشى بصعوبة بين النائمين، وصاح أحدهم  شاتماً هذا السير المزعج، وأمسك آخر ساقه وغرز أظافره فيها، فذهل من الألم العميق الحقيقي.

حين وصل الى البوابة لم يبق من أنفاسه سوى القليل.

كان الشارع المعتم البارد ينفجرُ فيه دويُ السيارات المندفعة المارقة. حدق في الأجساد الحديدية الضوئية بذهول. سمع كلاماً وراءه ثم أمسك أحدهم كتفه، ألتفت فوجد إنساناً ذا ملابس غريبة، ثمة قطع حديدية على كتفه، وهو رجل بالتأكيد من هذه الشوارب الكثيفة، الآخر يحدق فيه كذلك باندهاش، يقول:

- ما تفعل يا سيد هنا؟ ما هذه الملابس العجيبة، هل ُتمثل، ولكنني لا أرى آلات تصوير؟

قال الكهل:

- لقد خرجتُ تواً من المسجد، كنتُ ألوذ بضريحي طويلاً، ولكنني ما عدتُ قادراً على الصبر..

دبت ضجة ما في الضريح، ثم حدث هرج شديد، فأندفع الرجل إلى الداخل، وسمعه يصرخ، فلحق به، ورآه يتحدث في شيء صغير أسود، ووراءه كان الناس، أولئك الذين رآهم نياماً في هدوء، يتعاركون ويتنازعون القطع الصفراء..

                                     

في العتمة الطويلة في الضريح كان يصغي الى الأنين، الى النهر الصاخب من الدموع، كتلٌ من العظم الأنثوي الذي ُتغرز فيه الحممُ، قطعٌ من أكباد الأطفال ُتشوى تحت أنفه، ولا تستطيع سحبُ البخور أن تدهس رائحة اللحم البشري المحروق، وهو يصرخ: أبعدوا هؤلاء الأطفال، لم أعد أحتمل! وأثداء النسوة التي ُتغرز فيها السجائرُ والأسنان والإبر وتعرض في حدقة عينه، ويصيح: هل تحسبونني إلهاً ؟ أنا رجل فقير جئت من الصحراء بقبيلتي، ضاقت علينا رمالها، فأنحدرنا بين الطعوس واللصوص والذئاب، وسكنا هذا الشاطئ، الممتلئ وقتذاك بتلال الحصى وأنشأنا قرية.. ولا أعرف كيف سجنتموني بين هذه الجدران ورحتم تتضرعون اليّ، وكأنني ساحرٌ أحكُ خرزة فتحدث الأعاجيب..

كانت تصفعه رياح باردة، وثمة طريق صغير مبلط يمشي عليه المارة، سار هو عليه أيضاً، ولكن ملابسه الرقيقة لم تسعفه، ويرى بعضاً من الناس متدثرين بملابس ثقيلة غريبة، ويتطلعون إليه ويبتسمون، فوقف عند دكان واجهته من زجاج، وثمة قراطيس كثيرة في الوراء، دخل طلباً للدفء، وراح يرتجف بلا إرادة منه.

لا تزال أصوات الناس من وراء الجدار تصب في أذنه رصاصاً مشتعلاً، حضر كل الجنازات الصعبة، وشارك في الحروب المريرة، فيمتلئ كهفه بالدم والدموع والأسمال والأرواح المعذبة المطاردة وجثث البحارة الغرقى والعمال المحروقين في تنانير جديدة لم يرها، فيحتمل كل شيء سوى أجساد الأطفال الغضة التي تُحشر قرب قدميه مشوهة بالفحم وأسنان الحديد، فينفجر رأسه بكوابيس، ويتمنى الموت، يبكي من هذا الخلود في حمم البشر، يسبح  في برك من الأعضاء والعيون الى ما لا نهاية له من اللحم والنار، ويضرب على الجدار لكي يرحموه، ولعل أحداً يُصغي إليه، لعلهم لمرة واحدة يسمعونه، لكن الأصوات التي كانت تأتي كلها مصهورة بالألم، ويهمس لرجل ذي صوت قوي ويقول: انني بحاجة الى مساعدتك، أنا تعب جداً، نومي كله كوابيس، لا أستطيع أن أذوق الزاد، وكل هذا الطعام الذي تقدمونه اليّ يصيب روحي بمغص شديد، وهذه القطع من النقود التي تنهالُ عليّ ليل نهار تصبح حيات في ملابسي وأعضائي، أرجوك يا رجل، أنت تبدو قوياً ومتفهماً، أرجوك هدّ هذا الضريح عليّ، دعني أموت و لو لمرة واحدة .. لكن الرجل يهتز فرحاً وأسمع صرخاته..

يقتربُ منه رجلٌ كان يجلس وراء طاولة المكتبة، يسأله:

- هل تريدُ شيئاً يا سيد؟

رأى كتاباً عنه، راح يتصفحه بلهفة، أبتسم صاحب المكتبة بسخرية. قرأ عن شخص كأنه لا يعرفه. رأى ذاته وهي أخرى. دهش من حشود الأكاذيب. طفولته التي عانى فيها كثيراً من رعي الغنم وضرب الأولاد والبرد والجوع تصير أناشيد وصلوات بين الأضواء والتلال، وجلده الذي اهترأ من عصي المعلمين والجرب صار مدهوناً بمعجون سماوي، وشهواته الفظيعة التي كانت تؤرقه و تضنيه وتجعله يكذب و يخدع تغدو حناناً للنساء ورحمة بالأرامل، و مسيرته في الصحراء يقود جموعاً مهلهلة نازفة تخاف الذئاب والأشباح، وتأكل الضببة، ويحولها الى مردة تتسلق الحصون وتكسر أقفال غلال الحبوب وتوزعها على الناس، كلها توارت وذابت في إبتهالات وصلوات وصنع مسابيح من البخور والكلمات، صاح برعب:

- ماذا فعلوا بي؟! 

                                     


قال لنفسه والرياح تعصف، والمطر المدرار يتساقط بشدة، ويصفع الرصيف، وثيابه الغريبة تبتل، وتتفكك خيوطها:

- ماذا فعلت بنفسك؟ لا سكن ولا طعام ولا لباس، عارٍ كذاتك، كروحك المباعة عبر القرون، كأسمك الخرقة التي تُعصر في أفواه المرضى والمجانين عسى أن  يقطعوا مراسلاتهم مع الأصوات، ألم يكن التدلي فوق هرم من الناس والثروات، والخلود بين خدود النساء ألذ؟ كنت في العزلة الحجرية ملكاً والآن عليك أن تبحث عن كسرة خبز.

صرخ في البرق الشرس المنهال على وجهه:

- أفضلُ أن تسحقني مركبة من مركباتهم الحديدية على أن أذوب أمام جسد طفل!

وهو محبوس بين الجدران والظلمات كان يتعفن، وينشره الحزنُ، والآن يعود للحرية، ويشعر بطاقة عظيمة قادرة على الفعل وانفتاح كبير على الفرح.

أبتعد عن المطر الصاخب، ووقف تحت عمارة كبيرة، ورأى سلعاً غريبة وراء الزجاج، ولحماً مشوياً ككرة تتقطر دهناً وروائح شهية، وأناساً قابعين وراء الطاولات وأمامهم علب كثيرة وهم  يصرخون ويدخنون ويتعاركون، وكانت الباصات المشحونة تقذف بشراً كالنمل في الميدان، وتطلق سحابات من دخان موجع، وتدفق الصمت والفراغ فجأة، ونزل رجال بملابس متشابهة يصفرون ويحدقون بأضواء طويلة حادة، ويجرون المارة الى سيارات، ويضربون بعصي قوية، ووجد نفسه يتسلل الى أزقة كجحور الفئران والأرانب، وقد امتلأت بمياه المطر، ووجد المسجد مغلقاً، فقفز جداره الرفيع، وجثم في المنارة المتعرجة، وجسده متلوٍ متألم، ولكن يحس براحة غريبة، لعلها من نثيث المطر الذي غدا هادئاً، ولطعم الحرية..

لكن فوق رأسه حام طائر معدني غريب، فيه عيون وخراطيم من الضوء، وكانت تخترق المنارة والكوة التي كان يحدق منها..

                                     

قال الشرطي للثلة التي جلست حول مائدة:

- لقد رأيت الرجل أيها السادة. لم أعره انتباهاً كبيراً وقتذاك.. وقال انه خرج من الضريح.. ولكنني حسبته يقصد المكان، ودخلت فرأيت شجاراً عارماً حول القطع الذهبية التي تناثرت.. وقد أدليت بكل أوصاف الرجل، الذي تقولون إنه الشيخ نفسه. وقد عمل الرسام لوحة مطابقة لوجهه، ولكن ثمة ملامح تهرب من ريشته، فالصورة المرسومة تنطبق على آلاف الوجوه، فكيف سنعثر عليه؟!

قال كهلٌ يلبس نظارة طبية:

- حتى ولو عثرنا عليه، فكل التقارير تشير الى أن الشيخ سيد الضريح يشعر باكتئاب شديد، ولا شك أنه سيكرر المحاولة ويفجر المكان، فالمشكلة أعمق من إمساكه..

قال ضابط شرطة بقلق:

- العثور عليه أمر مهم، ليس لأنه خرج من مقره الرسمي بلا أخطار ولا طلب من أي نوع، بل لأنه يمتلك قوة كبيرة تهدد الأمن، فلو أنه استخدمها، قائداً مجموعة من الناس، فلا شيء  يمكن أن يكون هادئاً في الدولة.. كذلك هناك أنباء عن حدوث أشياء مشابهة في أضرحة أخرى، فلو أننا لم نتحرك ونجابه الموقف بحسم فلا نعرف ماذا سيحدث غداً..

انبرى شاب يلبس نظارة للحديث:

- القضية أعقد من هذه الآراء، فالشيخ هو مانعة للصواعق تجذب كل الدموع والآمال والشرارات، فإذا أختفى أين يذهب الناس؟ أين سيحلمون بغد أفضل؟ إن أخي عندما علم باختفاء سيد الضريح صار كالمجنون، ورأيته يسن السكاكين ويتوعد..

وغمغم الحاضرون معاً وقالوا:

- لا بد من إيجاده في أسرع وقت..

                                     

جثم سيدُ الضريح في زاوية المسجد مستمتعاً بضوء الشتاء، وبالأطباق الصغيرة اللذيذة من المساكين. والخبز ليس هو الذي يشعله، بل هذه القلوب الوردية، التي ما أن تفُتح حتى تتدفق شرايين الكلام والحب والألم. وهو مذهول إن كل هذه الشقوق من الحجر تنزف وتزغرد بالفرح، لكنهم لا يعرفونه تماماً، هو مرمي في قعر نفوسهم، غريقاً وحياً ومذبوحاً، وهو يلمسهم ويمضي الى خرائط جراحهم، لكنهم لا يعرفونه تماماً.

جاء وقت الصلاة والكلام، وأنطلق خطيبٌ متحدثاً عن إختفاء سيد الضريح فقال:

- لماذا يتمسك بعض الناس بالحصى التي لا تنفع ولا تضر، و يتبركون بأشخاص من البشر وهاكم سيد الضريح هذا الذي زعموا أنه حي، فحدث زلزال وأنكشف، فلا هو حيٌ ولا موجود، ولا هاربٌ مطلوب، وإنما هو وهم معدوم..

غمغم الناس ونهضوا للخطيب وأنتزعوا الميكروفون من يده، فراح يلعن. قام سيد الضريح وتقدم برفق بين جسد الحشد الساخن. وقال والرجال يتطلعون فيه بدهشة:

- أيها الأخوان إنني لم أطلب أن أوضع في مثل هذا التابوت، بل لقد عشت طويلاً بين هذه الأحجار متألماً، والمياه التي دفقتها في هذه الأرض جفت، والكنوز أختفت، والآن..

واندفعت في وجهه أكفٌ، وأخذته سواعد الى الأرض والدم. 

                                     

اجتمعت الثلة وراء الطاولة. قال الضابط بأسى:

- رغم الاعلانات الوفيرة والمداهمات والاعترافات إلا أننا لم نعثر عليه، وتم إعتقال كثيرين زعموا إنهم سادة الضريح، ويا للدهشة فجميعهم تنطبق عليهم مواصفاته، ولكي نتأكد من مزاعمهم تركناهم في أماكن مغلقة لبضعة أيام فماتوا كلهم..

قال الشابُ العالم:

- البلاغات عن هذه الإدعاءات لا تتوقف، ولدينا الآن بضعة الآف من الأشخاص، وكلهم يجتازون إختبار فحص الكذب بنجاح، ولكن فحص الموت لا يتم اجتيازه، والبلد كلها في حالة جنون جماعي..

قال الكهل:

- وأغرب الحالات التي عثرنا عليها بعد إشتباك في مسجد، حيث خطب أحدهم زاعماً إنه هو سيد الضريح، هذا الرجل لم يجتز اختبار الكذب بنجاح.

قال الضابط بتصميم:

- الحل المقترح الآن بعد الفوضى العارمة التي حدثت، هو أن نقوم بإدخال هذا الرجل الضريح، ونعيد بناءه كما كان، وسنقول للجميع إننا عثرنا على السيد، وسيتغير كل شيء بعدئذٍ..

قال الشاب العالم:

- وفي هذه الحالة علينا أن نبحث عن سيد الضريح طويلاً الذي ربما ذاب بين الناس!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

7 – سيد الضريح «قصص»، 2003.

«القصص: طائران فوق عرش النار – وراء الجبال – ثنائية القتل المتخفي – البركان– سيد الضريح – وتر في الليل المقطوع – أطياف – رؤيا – محاكمة على بابا – الحارس».









المقالات العامة

العناوين المميّزة

الدرب ـ قصةٌ قصـــــــيرةٌ: لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة

إلى أين يسيرُ هذا الطابورُ الدامي الأقدام ؟  لا أثر للقرية أو القصر أو البحر أو الحدائق أو النسمات الشمالية ، تلالٌ من الرملِ وحقلٌ من النخي...