الثلاثاء، 9 سبتمبر 2025

المذبحة ـ قصةٌ قصـــــــيرةٌ: لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة


كان يوماً رائعاً، جميلاً، إذ هبت نسمات منعشة فوق الوجوه، وتطاير الغبار في مكان ما، واهتزت أشجار، وكأن ذلك الفرن المشتعل قد توقف فجأة، وأنفتح الباب لصباح رقيق، كثيف النور.

أحس عاشور بكل العالم بين يديه، وهو يصل إلى سطح خزان الماء. أحتضن الهواء، وأمتلك ببصره كل آفاق البحر الواسعة، الزرقاء، الشفافة، المترامية، وكأنه فوق صاري سفينة عملاقة منطلقة نحو الصيد. أشعل السيجارة وعب الهواء، ورمق الشاطئ اللامنظور بحزن ولهفة. ثم صعد إلى الخزان وأزاح الغطاء.

كاد يتقيأ. كانت هناك طبقة من العشب البدق الأخضر القاتم، ورائحة شبيهة برائحة القبر المفتوح. أزاح الطبقة الآسنة، ورأى في عمق الخزان جثتين صغيرتين. بصق بحدة، وانتزع بمغرفته إحدى الجثتين، فرأى قطاً متآكلاً، ذائباً، بملامح رأس مشوهة.

نزل وهو يحمله. ثم توقف رامقاً باحة السجن بغضب. صرخ لكن صرخته انفجرت في حنجرته. ورأى الرجال كعربات من قطار مفكك بعيد عن خطه. صرخ مرة اخرى، وهبط إلى الساحة، التى انتبهت رويداً إلى تشنجه غير المثير.

وبدا السجناء الرابضون قرب زنزاناتهم أشبه بقطيع من الدمي، وهم يرفعون رؤوسهم ببطء، أو يدعون الورق يقع من ايديهم، مرتعشاً، فوق التراب، أو وهم ينقطعون عن تنظيف القدور السوداء الضخمة القذرة بقطع من القماش المهترئ المعجون بتراب، أو يخططون لهجمات مباغتة ضد بعضهم البعض، بالزجاجات الفارغة أو الاحزمة الجلدية المُطعمة بقطع الحديد البارزة. أو وهم ينهضون من إسرتهم المشتركة وترديد قصص جرائمهم التي لا تنتهي.

لم ينتبه الكثيرون إلى الراية، الجثة، الشوهاء، المرفوعة، وعادوا إلى ورقهم وقدورهم وزواياهم المعتمة، وحكاياتهم المكررة اللذيذة، وسعى إلى عاشور ثلة من الفضوليين وحكماء السجن، الذين ذهلوا من المضاجعة المخزية للقطين الميتين في خزانهم المائي الوحيد، وتساءلوا، وبعضهم كان يمضغ بنهم خبز يابسة، عن الكوارث الصحية القادمة. واتسعت الدائرة المحدقة بعاشور الذي انحنى مشمئزاً باصقاً، نازفاً مذاق الماء من جسده وكأن كل شربة ماء من الحِب الأبيض الكبير، الملفوف بقطع الخيش الكثيفة المبللة، تتراءى فيها الآن عيون قط ذائبة، أو ذيل مقطوع الجلد، مصهور.

وجاء شعبان متحمساً، وضربت قبضتيه الجمع بفظاظة وغلظة، وانهالت بصقاته على أكتافهم ورقابهم. وأتاح له جسده العملاق، وعضلاته البارزة، إزاحة كتل اللحم الضامر، والعظام الدقيقة الحادة، المحشورة، في الخرق الزرقاء الباهتة. وحين رمقت عيناه المحمرتان الضخمتان، من أثر الخمرة الرديئة التي يصنعها من أي مادة حية تصل إلى يديه، القط المتحلل، ابتسم هازئاً، ولم يجد غرابة في بقاياه الثمينة التي ضاعت منه. ولكن دمدمة الجمع الغاضب تسللت إليه، وبدت تساؤلاتهم الهازئة بشربهم، تثير فيه بقوة مشاعر الألم والحسرة والغضب.

وبرزت في ذهنه، بغتة، ذكرى انتزاعه من الأرض الصغيرة الزراعية التي عمل فيها طويلاً، والقائه مع سجناء التنظيف، الذين يتسكعون في الجزيرة، ملتقطين أوراق الشجر الذابلة، والثمار الميتة، وكل ما يتقيأه البحر. اندلعت آلام الأيام التي قضاها متلوياً في زنزانة العقاب الضيقة، وهو يسمع مواء القطط المزعج دون أن ينام، وشجاراتها الصاخبة قرب برميل القمامة، ورأسه.

أنتزع القط المشوه من رقدته الابدية، وصرخ بقوة، فانهارت الدائرة البشرية المتصدعة، وذهلت شظاياها من هذه الوثبة العظيمة التي فجرها شعبان، وامساكه للقط باصبعين من يده فحسب، وقفزه السريع إلى هدف بدا مباغتاً وغامضاً، وهيئته التي تحولت إلى مارد مجنون.

تبعوه، فاذا هو يبرق أمام الزنزانات، تتأمله وجوه أصحابها الهادئة الساخرة التعبة. يحرض باندفاع لغوي سريع ومرتبك وغامض، يجمع بين الماء الآسن ومواء القطط الليلي الكثيف الشهواني الداعر، وصعوبة مضغ الارز اليابس الحجري، ومزرعته التى أعطيت لصالح الذي يربي قطاً سميناً شرساً.

وأدى ركضه المضطرب، ليس إلى انتشار القواقع البحرية الصغيرة الجافة وراءه، كشريط فوضوي ساطع، وتبعثر بقايا الحيوان الميت، بل وإلى صخب ضاحك واستهزاء مثير بمجنون القطط، الذي لم يصل به ركضه المتشنج إلى أي باب.

لكن عند نهاية الشوط، وجد ان قلة من المساجين ركضت وراءه، صارخة مثله، لأشياء تمتد بين غياب النساء وحزن الشتاء. ووجد أيضاً، حسون الاعرج، وهو يداعب قطته «سمور»، ويضعها بين قميصه وصدره، سارداً لها حكاية قتله لزوجته خنقاً بعد أن وجد آثاراً لرجل غريب. امتدت يد شعبان إلى قلب حسون المشدوه، منتزعة سمور المتألمة الضاجة بصراخ انثوي حاد ومثير، ولم تنفعها خرمشاتها الباهتة فوق قبضة أزاحت نصف مرتفعات الجزيرة، ولم تجدِ تضرعات حسون وجريه وراءه وصياحه وبكاؤه الغريب الحاد الملتاع، وسرعان ما أنهار فوق الأرض، نافضاً الرمل بقدم واحدة، بينما عجزت الأخرى عن الاستجابة لانفعاله القوى.

ألقى شعبان القطة وراءه، فتلقفها مريدوه الذين أزدادوا عدداً، وراحوا هم أنفسهم يبحثون عن القطط، بضراوة.

لكن كأن السجناء اصحاب القطط انتبهوا فجأة. فاختفت اللواتي كن يركضن، في الساحة، وراء خيط، أو الناعسات فوق الأسرة، أو الجالسات في الفناء، يتطلعن إلى الرجال باغراء مؤدب.

لكن بعض الغافلات عند براميل القمامة وجدن احجاراً قاسية تنهال على رؤوسهن. وظهر مردة فوق الصخور يلاحقون القطط البرية الشرسة بالفؤوس. ونصبت مشانق في الساحة تدلت منها أجساد غضة. اندفع شعبان وعاشور إلى بستان صالح، كتفه احدهما، بينما خنق الآخر قطه وألقاه في البركة.

في الليل، تجولت أكواب الشاي تحمل سائلاً حامضاً منعشاً. تمدد شعبان وراح يقهقه. تعالت أصوات الرجال داخل القفص الكبير. لا تزال رائحة غريبة في يده. صابونة كاملة لم تستطع أن تزيل صيحات القطط ولا معركة سريعة عند المطبخ. يضحك بقوة، لكن الضحك لا يصل إلى قعر قلبه.

1993

_______________________________

12 – باب البحر «قصص»، 2020.

«القصص: وراء البحر.. – كل شيء ليس على ما يرام – قمرٌ فوق دمشق – الحب هو الحب – شجرة في بيت الجيران – المذبحة – إجازة نصف يوم – حادث – البائع والكلب – ماذا تبغين ايتها الكآبة؟ – إمرأة– الربان – إذا أردتَ أن تكونَ حماراً – اللوحة الأخيرة – شاعرُ الصراف الآلي – البيت – حوت – أطروحةٌ – ملكة الشاشة – الغولة – وسواسٌ – مقامة المسرح – إعدام مؤلف – يقظة غريبة».









المقالات العامة

العناوين المميّزة

الدرب ـ قصةٌ قصـــــــيرةٌ: لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة

إلى أين يسيرُ هذا الطابورُ الدامي الأقدام ؟  لا أثر للقرية أو القصر أو البحر أو الحدائق أو النسمات الشمالية ، تلالٌ من الرملِ وحقلٌ من النخي...