السبت، 6 سبتمبر 2025

مقامة التلفزيون ـ قصةٌ قصـــــــيرةٌ: لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة

من رواية ‹‹مقامات أحمد القلاف المبحرِ في يمٍ بلا مجداف››

في هذا الليلِ المدلهمِ يعلو المسرحُ شاشةَ حلمهِ، رغمَ شخيرِ زوجتهِ، ويملأ الأفقَ الرحبَ، وهو معلقٌ من رقبتهِ، وثمة أولادٌ يضحكون عليه ويهزون الأجراسَ والأضلافَ المتدليةَ من ثيابهِ الملونة، وهو يهتزُ صارخاً مغنياً، حتى صحا فزعاً!

كانتْ ضربةٌ قويةٌ من كفِ زوجتهِ الضخم، وجاءتْ صرختُها تاليةً لقوة الضربة:

       - ماذا بك يا أحمدوه . . أفزعتني وخنقتني وكدتُ أموت!

رأى كيف اقتربَ كثيراً من موقعِها، وأعتدى على مقامِها، وأهاجَ تسريحتها، وأزبدَ فمَها.

       - آسف يا عمري، والله عشتُ كابوساً، وكنتُ ممثلاً مقلوباً وليس مقبولاً، ووضعَ فيَّ الأولادُ عصِياً، وجعلوا وضعي عَصَّياً.

       - ألا نرتاحُ يوماً واحداً من هذا المرسح، ومن هذه القبضة الثقيلة والليالي الطويلة، لماذا لا تكون كغيركَ من الفنانين الذين هجروا المسرحَ للصرافة، وأشتروا الذهبَ وباعوا الثقافة؟!

       - أسكتِ يا آكلة الكنافة. آه لو أنك تلتزمين بالنحافة! أسكتِ! أنتِ زوجةُ فنانٍ كبيرٍ، وينبغي أن تكون لغتك مهذبة لا ملأى بالسخافة. وكم قلتُ لك أن تخففي من النشويات واللكمات!

خرجَ من الغرفة فوجدَ أولادَهُ في الصالةِ يرهفون آذانَهم الصغيرة. رغمَ الضخامةِ التي عليها أجسادهم فهم يحدقون في التلفزيون بنهم، يتابعون عفاريتاً ملونةً تخترقُ الغابات والصحارى والمدنَ في لمحةِ عين.

كم حاول أن يوجههم للكتب، دون فائدة، ثم وجد أن رياضةَ كمالِ الأجسام هي الأنسب لهم، كما كان في بدايةِ شبابه، ولعلَ ذلك ما جعلهم ينغمرون في هذه الرياضةِ وكونوا عضلاتٍ هائلةً، استخدموها في الدفاعِ عن أمهم ضده، وتوجيه اللكمات إلى كرشه وخده.

تطلعوا فيه بغضب:

       - ماذا حدث؟

       - هل ضربتَ أمنا؟

       - سمعناها تتألم؟!

       - هي تتألم يا أولادي؟ لقد جاءتْ قبضتُها الثقيلةُ على يافوخي، ففقدتُ الذاكرةَ نحو ساعة!

حين سمعوا ذلك عادوا للشاشةِ ورجعوا لمنافساتِهم ومناقشاتهم، حول أية عضلاتٍ قويةٍ تتحكمُ في السيارة الشبح!

وراح هو لدورةِ المياه والضجيج في سمعه ورأسه، وانفجرَ جرسُ الباب، وظل الأولادُ يحدقون ولا يسمعون، حتى صرخ عليهم:

       - الباب يا بهم!

نهضَ سعد الأضخم فيهم، وتطلعَ إليه بَشزر، وتهادى على مهلهِ نحو الباب، وهو يُشوى كالكباب، حتى فتحهُ أخيراً وظهرتْ فتاةٌ جميلةٌ أسكتَ صوتهُا التلفزيونَ والجنونَ:

       - عم أحمد . . . !

نهضَ أولئكَ الثقالُ دفعةً واحدة كتشكيلةٍ موحدةٍ من الفلين أو البلاستك، ووصلوا إلى العتبة وهم يتمايلون ويرقصون فيهزون طابقي البيت وتصطك المواعين.

والفتاة حين رأتْ وسمعتْ الجوقةَ زادَ تثنيها وغنجها حتى حرقَ هو الفوطة، فراحتْ تتمايل:

       - عم أحمد . . . !

       - تكلمي و. .

وكادَ أن ينطق بتلك الألفاظ التي كانوا يتداولونها في كوميداتهم المرتجلة مثل؛ (تكلمي وصاروخ كلاب في أذنك!)، لكنه قال برقة المسرح الرومانسي:

      - تكلمي يا أبنتي العزيزة! 

      - أبي سالم بن خاطر يهديكَ سلامَهُ الكثير، ويريد أن تعيرَهُ كتبكَ الوفيرة عن الفنون والآداب!

       - كتبي كلها . . ؟! هذا صعبٌ ومستحيل. . إنها تحتاج إلى عشرة حمالين!

       - أولادك موجودون يا عمي!

       - نعم، نعم، نحن حاضرون لتوصيل الثقافة للبيوت!

       - ما شاء الله جوقة من الطبول تنغِّمُ الألحان! 

لكن لم يظهرْ من البيتِ سوى صندوق صغير واحد؛ وهمسَ للفتاة؛ (لا أستطيع أن أعيرَ كلَ كتبي لحاجتي الماسة إليها في الدرس والبحث)، في حين غمغمَ سعدٌ وهو يحملُ الصندوقَ وكأنهُ مهدُ رضيعٍ بين ساعديه؛ (هذه هي كل الموجودات!).

 بعد أيامٍ مبتذلةِ الوقع، سريعةِ العطب، نازفةٍ للجيوبِ والقلوب، تناولَ جريدةً من جرائدِ النفاق اليومي ليسدَ شهيته المفتوحة. وهو يمضي لمركز العقارات. الحي مزدحمٌ كعادتهِ باللغاتِ الأجنبية، ورثاث الخلق تأتي لتؤجر شقة أو (طبيلة) لتسكنَ فيها مع الهوام والهوان.

قرأ في الصفحة الأولى؛ (بُشرى للمثقفين والمبدعين: تعيين سالم بن خاطر مديراً للتلفزيون!!).

صدمةٌ رهيبةٌ على وجهه. يقرأ الخبرَ مرات وهو لا يصدق. سالم بن خاطر؟! ربما هي غلطة مطبعية أو صاعقة سياسية.

كثيرةٌ أيامُ الوجعِ التي قضاها يعدُ المسلسلات، يجمعُ الكتبةَ، وتتآكلُ مسوداتٌ كثيرة، وتـُمططُ القصصُ لتصلَ المحاقَ بالمحاقِ، ومن موت المعاشات حتى ولاداتها مرة أخرى كالفراشات المحترقةِ أو كالفقاعات، وتـُبهَّر تلك المسلسلات بالنكات، وتُطيبُ بالسخافات، وتـُسحبُ المناظرُ الخليعة واللقطاتُ الوضيعة، وتـُوضع لقطاتُ الحبِ الشريفة، أو المخيفة، وتَتحجبُ الحاسراتُ وتَكثرُ البناتُ الجميلاتُ المصونات، وتـُلغى البيوت القبور وتتسامق القصور، وتـُرفع الانتقاداتُ وتُكثر الإعلانات.

ويمضي طالباً مقابلةَ المسئولين مراتٍ ومرات، ولكن هيهات!

يرفعُ السماعة لسعادة الوزير الثقيل أو لسعادةِ الوكيل العليل، أو لمديرِ الإدارةِ وصاحب التجارة البخيل، أو لمدير التلفزيون الملعون الذليل، عساهم فقط يسمعون كلماتهِ وعرضه لمسلسلهِ المثير والخطير، ولكن لم يتكرمْ أحدٌ منهم بإجابته، وهو الذي قدم خدمات جلى للحكم والسلطان، وأيدَ الأمانَ في زمن الفلتان، لكن كيف دارت الأيامُ وصارَ التلفزيون مركزاً للثوار القدامى وأصحاب حروب العصابات وأهل الشعر والشعارات؟ يصفق يديه حائراً مذهولاً من تقلب الزمان!

ثم ظهرت أبتسامةٌ شحيحةٌ على وجههِ ذي الأخاديد السمراء!

لعل المدير الجديد، صديقه وجاره وهو الذي له أفضال جلى عليه سوف يُطلق سراح تلك النصوص ويبعد اللصوص!

ماذا لو قام بتهنئته الآن، ورفع الأنخابَ له وقلع التكاليف بينهما؟!

لا يمكن أن ينسى مساعدته له في المال والكتب رغم تقلب أحواله وغرابة ألعابه ومقالبه ومذاهبه.

أتصل فرِحِاً مستبشراً فوجد المدير على الخط كأنه ينتظره، فتعجب وتسآل عن السبب، فرد صاحبه العزيز:

       - هو عهد جديد نقيمه مع المواطنين المشاهدين، كله أبواب مفتوحة وأرزاق وفيرة، وخيرات كبيرة، لا تهمنا الأسماءُ البليدة أو العتيدة، بل النصوص الجيدة الجديدة، فتفضل بزيارتي وستجد بركتي التليدة.

هل هو يحلم؟ هل ستتمكن تلك المسلسلات أخيراً من الخروح من محابسها وسترى الألوان والديكورات الفخمة والإضاءات المبهرة؟

لكنه تسآل في ذات نفسهِ القلقة ماذا يعرف سالم بن خاطر عن الفن وأذنه لم تسمع سوى الليوه وموسيقى قِرب الحارات؟ وكان يرتعش راقصاً بأظلافِ الماعز البري وكيف سيميزُ بين الشخصيات؟

كانت أبوابه مفتوحة حقاً، فرغم أربعة حراس غلاظ على بوابة التلفزيون، وحشد من الرشاشات، وتدفق الأسئلة وأخذ البطاقات والجوازات، والتدقيق في الهويات والمقامات ، وتغلغل الإيدي في البدلات ، وتمييز الشعر من الصلعات، لكنه وصلَ بخيرٍ ووجدَ قهوةً في إنتظاره وسكرتيرة جميلة تحييه، ودخل المكتب الواسع المبهر.

فرأى شخصاً حسبه وزيراً، وتسآل أين هو سالم بن خاطر؟

لكن الآخر نهض والغليون في فمه والدخان يمضي متخللاً لحيته الصغيرة، وقال مرحباً:

      - أهلاً بمبدعنا الكبير! 

وبعد هذه اللحظة من الفتنة والسحر عرف إن محدثه هو سالم بشحمه ولحمه. لكن أين هذه الشخصية من تلك؟ هذا أشبه بشاب متورد، رياضي الجسم، وذاك عود جاف، وهيكل عظمي؟

       - لا أريد أن أطيل عليك فأعرف إن وقتك من ذهب، وقد قرأت نصوصك يا سيدي، فوجدتها مفككة، مملة، ممططة، ملخبطة، حبكاتها تعود لنصف قرن مضى، عن العائلة والزواج والطلاق، دون جدة في الموضوعات وفتنة في الشخصيات، فأطرح عليك بضرورة العودة للورق وأن تحرق هذا الهرج!

       - منذ متى صرت ناقداً يا سالم . . عفواً يا أستاذ سالم وأنت قد أستلفت قبل فترة وجيزة مني كتباً؟

      - لا تخرج عن جادة الحوار المستقيمة للحواري السقيمة.

      - ما ادراك أنت بالفن؟ أنا عشتُ فيه أربعين سنة، كنا ننشر الخشب بأيدينا، نضع الديكورات في تلك الأحياء البسيطة، كان الناس لا يعرفون الملهاة من المأساة، وقد خدمت هذه الدولة كثيراً ثم فضلوا عليّ شباباً.

       - يا أخ أنت جامد لا تتطور!

       - صرتَ ناقداً أيضاً يا سالم؟ وتشببت وأغتنيت وأعتليت في لمحة عين! قل لي كيف ذلك؟ أنا أريد . . أن أصنع مسلسلاً!

      - حامض على بوزك!

      - ما هذه المفردات السوقية؟ مسلسل واحد لا غير، ما اكثر المسلسلات السخيفة التي عرضوها طوال السنين، حشاش يصير بائعاً للسيارات المستعملة ويعيش في قصر! كاتب صغير شريف يتحول إلى رئيس تحرير جريدة، نساء في فلل كبرى ويردن تقديم خدمات للبؤساء! وغير ذلك من الخرافات العصرية والتفاهات التخيلية!

       - هذه مسلسلات حصلت على جوائز عربية!

       - لو مشى أصحابُها في الأزقة لحصلوا على أحجار شعبية!

2008

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

8 – الكسيحُ ينهض «قصص»، 2017.

«القصص: الشاهدُ.. على اليمين – الكسيحُ ينهض – جزيرة الموتى – مكي الجني – عرضٌ في الظلام – حفار القبور – شراء روح – كابوس – ليلة صوفية – الخنفساء– بائع الموسيقى– الجنة – الطائرالأصفر – موت سعاد – زينب والعصافير – شريفة والأشباح – موزة والزيت – حمامات فوق سطح قلبي – سقوط اللون – الطريق إلى الحج – حادثة تحت المطر – قمرٌ ولصوص وشحاذون – مقامة التلفزيون – موتٌ في سوق مزدحمٍ – نهاياتُ أغسطس – المغني والأميرة».




المقالات العامة

العناوين المميّزة

الدرب ـ قصةٌ قصـــــــيرةٌ: لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة

إلى أين يسيرُ هذا الطابورُ الدامي الأقدام ؟  لا أثر للقرية أو القصر أو البحر أو الحدائق أو النسمات الشمالية ، تلالٌ من الرملِ وحقلٌ من النخي...