الثلاثاء، 9 سبتمبر 2025

الحب هو الحب ـ قصةٌ قصـــــــيرةٌ: لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة

حين يُكتب بوردة أو بسكين

هو نفسه حين ينمو في أوردة الوقت النازفة أو حين يكون موعداً في مكان ظليل، يسبح في موسيقى ناعمة، وتتبرعم فيه الثعابين.

 يذكرُ كريم وقت انتفاضة البحر، حين كانت المياه تتمرد في الخليج على مساحتها الضيقة، وكان مبنى المحكمة القريب بين شيوخ القضاة الذين لم يلتقي بهم قط هم الذين يقررون مصيره.

امرأتان غريبتان أحدهما نار والأخرى جليد، الأولى وضعته في مقلاة والأخرى أحكمت غرزه في ثلاجة، بين الدجاج المتجمد وعيون السمك الميت.

الآن وكريم يأتي إلى هذه المرأة الصبية الفاتنة، الجالسة بين أصص الزهر، وأصابع الكمبيوتر، ليس لديه أي كبرياء. كأنه يسقط تحت أقدام هذه الفتنة: الوجه المشع، التقاطيع المرسومة بفرشاة إلهية متأنية، الشفاه التي لا تتكلم بل تزقزق مثل سرب من الكناري، الضوء الوردي الذي يتسرب من ينابيع بحرية زرقاء صافية.. يود لو يسبح فيه بعد أن ألقته الموجات البحرية الشرسة في مستنقعات الضفادع والتماسيح وبين الأشلاء المبقورة والنهم الحيواني والوحل ، كأنه الآن في محراب، تقول عائشة:

  ــ أحب أن أتأمل في الكنائس، أجلس هكذا.. صامتة، أتحسس الأشياء..

الوجه البريطاني والهندي، الاتحاد الإنساني للغرب والشرق، لأول مرة يكونان في لوحة إنسانية. يتذكر هو الآخر: منذ أي زمن لم يذهب إلى مسجد، والآن هو ضليع بتاريخ الإيمان، بعد أن بلغ من العمر عتيا.. وهذا ذاته تعبير قرآني، والآن المرأة تتحدث عن الكنيسة، ويسمعها تضيف:

  ــ مكاني المفضل هو .. الكنيسة..

  يرمقها كريم بذهول شديد. يدهش من هذا التبتل الغريب لهذا الرأس المشتعل ذهباً، وهذا الورد المغسول بالندى، وتواصل:

  ــ لا صديق، لا زوج، لا حب..

وهذه التعبيرات تريحه، وتخيفه.

في المرة الأولى التي أحب فيها كانت مدينة «الحد»، خط طويل متلاصق من البيوت، منازل صغيرة حجرية متلاصقة يشقها طريق طويل ضيق، يتعرج فيه الباص، وينثر فيه أشلاء الناس وأغراضهم وتحياتهم، وأعمارهم، لأنه الآن لا يذكر أمه، التي أهدته الحياة، التي كانت تجاوره في الباص، ويعود لوجه عائشة، المرأة البريطانية الهندية، هذه الهدنة الجميلة بين البطش وروح غاندي، عائشة هذه هي أسم أمه أيضاً، والآن هو كهل، ويحدق فيها ويقول:

  ــ لماذا..؟

يدوي السؤال في روحه أكثر مما يؤثر في قلبها، لماذا هذه اللفظة الصغيرة التي يود لو قفز إلى إجاباتها الكثيرة، وأخواتها: كيف وأين ومتى، وكأنه في عملية تشريح، مثلما يود أن تطول المقابلة ويتحول هو إلى سائل، ولكنها لا تجيب على سؤاله بل تقدم إليه ابتسوامتها مثل شريحة من التفاح.. لا يمضغها، وتظل بعيدة، بكل مذاقها..

في «الحد»⍣، في بيت يجاور البحر ويتغلغل فيه الماءُ، عرف أبنة خالته، وجه محايد بين الجمال والألفة، مثلما هو بارد في عواطفه وحياته، هذا الوجه الذي عصف به، هو الصبي الصغير الفقير، الذي يأتي مع أمه في ذلك الباص المترجرج، ليدخل بيت خالته الواسع، ويود أن لا يرى زوجها الشرس، ويندفع إلى أبنة خالته فاطمة ليمارس معها طقوس الزواج، بين علب الطماطم الفارغة، وزغاريد أخوتها الضاحكين.

الآن كل شيء يذوب مع سحابة العمر، لم يبق شيء في «الحد» كما كان، والبيت الكبير الواسع، صار خرابة.

ليس لديه سوى لحظته الآن مع عائشة هذه التي تسأله عن تجربته لتنشر عرضاً محايداً عن 

أفكاره، عرض هو مثل أنصال سكين. ولكنه مع الباص المتقلقل، والعتمة التي تحل بقوة في 

ذلك الشارع الوحيد، ووجه فاطمة البارد، الذي لم يعي كم هو بارد وقاس حينذاك، والذي تمرغ معه على دثارات الأطفال الناضحة برائحة البول واللحافات التي لم تر الشمس.

وحينذاك رأى المرأة التي اشتهاها، المرأة المكتملة جسداً في صباه، ذات الوجه الصارخ بالشهوة، التي لم تأسرها الأزقة الضيقة، وغياب الزوج في الكويت يجمع لها النقود، بين الدخان وسباب الموظفين الإنكليز، ليأتي كل سنة محملاً بداء جديد، تلك المرأة التي حرضته عيناها وراء ضلفة الباب لكي يفرج عن ذكورته المبكرة، ولكنه اعتقلها، ومر مرور الكرام على أنثى مفعمة بروائح الشهوة والقوة..

فيما بعد، في زيارات أخرى، وكان قد عجز حتى عن الاستمرار في أعراس العلب الفارغة، رأى المرأة تذهب إلى بيت كان يبدو فارغاً من الزوجة وثمة الرجل المنتظر..

ظل سنين يحلم بها، وتبخرت فاطمة مثل فقاعة، فهذه الفتاة التي لا لون فيها ولا ماء ولا رائحة، عجزت أن تثير فيه أي شيء، وأخذت المرأة المتزوجة تلح في الحضور، وهو يتوحد بها مع الألحفة، وفي السجن، والغربة،  ثم يراها وهي تموت، الآن لا يريد سوى أن يحدق في وجه عائشة لوحة حياته الأخيرة، أمه الجديدة، التي تلده، وتجلده، بكبريائها وهدوئها وصوفيتها..

يقول:

  ــ في مثل سنك تكون المرأة محملة بكل الشوق  للرغبات النهمة..

تبتسم، بذات الابتسامة المريعة التي تودي بحياة كهل غير نزق، بعد كل تجارب العمر النزقة، حيث فاضت لغة الجسد، ترد بهزة رأس، يفكر: هذه المرأة معقدة، مكبوتة، فهي لا تدخن ولا تسكر ولا تحب.. ماذا تفعل في حياتها؟ تدرس، تدرس دائماً..!

منذ شهور عديدة بدت له كسنوات، رآها في حفل يصطخب بأغان الثورة الأولى، والمغني الذي كان ممنوعاً صار فوق المسرح وبضعة عازفين ، المغني كان كئيباً، وجهه مدفون في رمال الثورة المضادة، وتنز أصابعه من تحت العظام والجماجم أغانيّ ..كانت كل هذه الأغاني قد غناها هو في السجون الكثيرة التي عاشها، لكنها حينذاك، وسط الحفل، وعائشة قربه، ولأول مرة يراها، أحس بالأغاني إنها صالحة للتلاميذ، لزمن الحرس الفتي، ولكنه ما عاد يشعر بشيء، امتلكته هذه المرأة، وبدا إن الزمان القديم عهد، وهذا الزمان عهد آخر، منذ زمن طويل لم تخرج هذه السلاحف اللطيفة من صدره، ولم ير السماء بهذه البهجة، أحس بمياه الدش الحلوة وهي تغسله.. وظن إنها خدعة جديدة من الزمن، ورأى نفسه في تدفقات وتر المغني تحت عريش في جزيرة «جدة»⍣ بين الناموس والظلام يغني مع ثلة من البشر، لا يعرف الآن هل كانوا أصدقاءه أم أعداءه، ويكتشفوا في الرجل الصامت الهادئ مغنياً، هذه هي الأغنية التي كانوا يغنونها، تحت بيت الدولة، حيث البناء الطويل الذي يقيم فيه الحرس، والذي أطلقوا عليه هذا الاسم، وثمة تحته صخور عملاقة، وثرثرة مدوية فوقه، وإنها ذات الأغنية للرجل الذي يحمل روحه على راحته ويقاتل، كم كانوا ساذجين وخادعين ومخدوعين، وهو رئيس فرقة الإنشاد، كم مضى من الزمن بحيث ذابت الأغنيات وجلودهم وبقيت روحه كشرارة متوقدة لا تنطفئ، لكن الأغاني الآن تبدو له شاحبة، متيبسة، تحمل عرقاً وحيداً من نخلة خرافية محترقة، والآن القاعة مليئة بالرفاق الذين كانوا، أقنعة كثيرة لأرواح فارغة، ديكورات من الجمل والابتسامات الزائفة، وعائشة التي كانت تلاصقه بدت هي اللقيا وسط البحر والحطام.

تهمس له:

  ــ أرجو أن نلتقي.. لدي أسئلة كثيرة إليك..

قالتها بلغتها العربية ذات اللهجة اللبنانية، فشعر بأن ما أحسه لم يكن زائفاً، هناك كهرباء عالية القوة بينهما، كأن الحشد والمغني والجمهور لم يظهروا إلا ليصنعوا لهما مسرحاً للقاء، وابتسم من هذا التفسير القدري الغيبي، مدركاً بخوف إن الصباح المشحون بغثيان البيرة المسائية سيبخر حتى الملائكة لو ظهروا له..

والآن وهو معها في المقهى يتحسس أسئلتها ويرمق جلدها، يدرك كم كان المشوار الصغير مخيفاً، ويرى نفسه بين السجناء تحت العريش يغني، صوته ينمو كموج البحر، ويتحد 

بعنف الليل وصمت النجوم، وحتى القطط المشاكسة الكثيرة في الجزيرة هدأت، ربما من الوجبة السيئة التي ألقاها السجناء في البراميل، واكتشف الحضور الشعر، والصوت، وبعدئذ فإنه يغدو الوصلة الأولى في الاحتفالات العديدة المقامة..

في السجن عاشت معه خيزران، بجسدها الفاره المتناسق. وجهها الجميل، سمرة وشموخ وإغراء تذكره بفاتنات الشاشة العربية، وجثومهن في الظلام ليأتي الشبق أو المحروم وينقض على أفواههن وسيقانهن وحينئذ تنفجر الموسيقى التصويرية الفاقعة تذكر المشاهد بالحرام والمثير، وهو وقتذاك ملتهب تلتهب أعصابه لذكرى النساء اللواتي مررن عليه كلمح البصر والجسد ظل نائياً برائحته المدوخة، ولا يوجد في السجن سوى الرجال، والذهاب إلى دورة المياه هو الفرصة الوحيدة للقاء مع النساء..

حينذاك كانوا يضحكون بشدة على أنماط الذاهبين إلى دورات المياه يحملون الصابون وأشباح النساء، فهذا الطالب الثوري زعيم الاجتماعات الصاخبة، النحيف مثل غاندي، كان يجري بسرعة للقاءاته وهو يزداد نحافة يوماً بعد يوم. دورة المياه كانت قرب الأسلاك الشائكة، ووراءها كانت التلال الحجرية، والحرية، وكانت القطط تتسافد بألعاب طويلة مثيرة، تقض مضاجع السجناء، فتتقاذف الأحجار نحو هذا الجنس المباح الحر..

والأسوأ حين لا تجد الصابون والقطط، وتتوحد بفراش مهترئ، وبزملاء يحيطون بك من كل حدب وصوب، أقدامهم وأكتافهم وشخيرهم وأحلامهم وكوابيسهم، تصارع روحك ويدك المتسللة تحت ملابسك الداخلية، ولا تستطيع أن تكون مناضلاً صنديداً يهزأ بالصعاب، بل تغدو مراهقاً يحب أجساد الممثلات الشهيات، وتطارده صورة خيزران، وها هو يدخل عليها في ذلك البيت الحدي ويضمها بقوة ويعريها، ولكن أجساد رفاقه في الزنزانة الضيقة الباردة، تكتشفه، وعيونهم  تحدق به في الظلام، فتخبو يده، ويناوشه النوم ولا ينام، ويترك جسده حراً يصارع اللحاف والحجر المعوج، ويحدث ضغطٌ هائل، الجسدُ كله حجر، والقلب يمتلئ بالدم المضغوط، وخيزران تستقبله في الغرفة، بل كانت نائمة وهو يقترب منها قليلا قليلا حتى يضمها فتتفاجئ ولكنها تتركه..

أصدقاؤه في السجن ذكور في عالم كله ذكورة، نسوا النساء، فلا تأتي سيرهن سوى كقديسات، أو راهبات خلف الأسوار، أو كذكور مثلهم، أو زوجات مخلصات أنقطعن عن التفكير في أجسادهن المتحرقة إلى القبل.

عمر الرجل الهادئ قضى عمره كله عازباً، لم يعرف امرأة سوى أمه ربما، وحتى هذه لا يذكرها بخير أو شر، وربما لم يكن مولوداً كبقية البشر من رحم امرأة، ولهذا فهو لا يعرف المرأة، إلا كقضية وموضوع، وهو يعيش بجسده وحده دون أن تهتز شعرة منه لذكر امرأة، هدوء عجيب وبرود هائل جعله يحيا في الزنازين الانفرادية طويلاً، ويجعل من جسده حقيبة متنقلة بين المنافي والسجون، تشرب الشاي وتدخن وتتحدث طويلاً وتقرأ وتكتب، وتنام وتستيقظ بلا أحلام وكوابيس، وتلتقي بالنساء وصبية السجن المعدين للاغتصاب وشبق الرجال الأقوياء، دون أن تهتز بشعرة، ولا تفكر بما يخض دم الكثيرين هنا، هو وحده الراهب الحقيقي وسط جموع المتدفقين على العدس واللحم والخبز..

يذكر كيف كانت إدارة سجن جزيرة جدا تترفق بهم في الأعياد الرسمية، فإضافة إلى الخبز الهندي الذي يُصنع كل يوم، والمسمى «جباتي» والذي يسمعون دقات خبزه منذ الفجر، ويشمون رائحته النفاذة حتى مع الطل الكثيف الملعون، كانت الإدارة تتكرم وتضيف مرق اللحم مع قطع صغيرة منه، فتكون وجبة دسمة، لكن عمر كان ينظر باستخفاف إلى مثل هذه الوجبة، وهو يمضغها بشهية ويقول:

  ــ لا نريد سوى وجبة واحدة من هذه كل أسبوع ويحلو السجن..!

يرد عمر باستهزاء:

  ــ يا له من حلم تافه!

الكلمات تطفئ فرحه الطفولي، يدهش من هذا التبتل والزهدية الغريبة، يشعر بهوة صغيرة غريبة لا يعرف سبباً لها، يرجعها لعوامل الجيل المختلف أو النشأة، ولا يجد إن عمر رجل من لحم ودم، فهو يعيش في قالب من الدبلوماسية الغريب الذي لا تنفذ منه خصلة شعر لامرأة أو شفة رائعة.. بل إن ذكرياته  وهواجسه ومخاوفه ولحظات حبه وكراهيته ويومياته الصغيرة عن الكلاب والحي والعصافير والمدرسة كلها متوارية مختفية.. لا أحد يعرف من شخصه سوى سنوات الخلايا الأولى، ثم تكوين الرابطة وأنديتها ثم النفي والصراعات والكتيبات والمحفوظات، لكن لا أحد تكلم عن أمه أو أخواته وربما إخوانه الذكور حصلوا على بعض الاهتمام لكن الإناث توارين إلى الأبد في الظلام.

سالم المتزوج هو الوحيد الذي كانت أحاديث النساء تتوارد على لسانه، وكان أسم زوجته يتردد دائماً ولكن كمناضلة وليس كأنثى مشتهاة من أحد، كانت تبدو قديسة عند الكثيرين، وليس عند سالم بالذات الذي كانت أحاديثه عنها مبتذلة، فهي امرأة تجيد الطبخ وليس غير ذلك، ولهذا يظهر أسمها حين يجري الحديث عن الطعام خاصة، وفي بعض اللمحات النضالية الدراسية، ولكن لا يبدو إن هذه المرأة تتمتع بأية مزايا أخرى، عبر أحاديث سالم الكثيرة والمملة غالباً، ويظهر الشوق إليها حين تحل مواعيد الزيارات من أجل ضمة سريعة أو قبل نهمة، ويذكر كيف كان يتباهى باندفاعه الجنسي أثناء هجوم الشرطة على المنزل، معتبراً ذلك زاداً ثميناً لأيام الجوع القادمة..

لكن خميس صديقه اللدود طالما حطم صورة هذه العلاقة المثالية بين سالم وزوجته، فيوضح أثناء المشاجرات والمناكفات التي لا تهدأ بينهما، كيف أن سالم نهم إلى كل أنواع النساء، ويبدو إنه ملّ زوجته سريعاً، وحاول مع النسوة اللواتي صدمن بصورة المناضل الكبير.. ويروي كيف كان يطل من السطح على امرأة الجيران المنحنية على الغسيل، فيضحك سالم قائلاً بأنها امرأة فاتنة، وكانت تلك فرصة مهمة لرؤية كنزها..!

أما خميس الموله بزوجته الصغيرة الفاتنة فهو لا يذكر سواها، حين يتحدث معه عن القمر أو عن الأشجار أو الأسعار.. يرتعش لمرأى صورها ويشم رسائلها ويثرثر طوال الوقت عن قصة حبه معها وهفواتها ومعجزاتها..

وكريم أيضاً يعيش قصة حب غريبة سريعة وامضة حادة ساخنة باردة رومانتيكية جسدية، خففت من وطأة القيود والكوابيس، لقد التقاها في جمع صغير، في مجلس واسع، فرداً مغموراً، حوله خطباء مفوهون، وهي وفتاتان أخريان، ولا شيء يحوي بالانفجارات القادمة، وحياته كلها كانت جمعاً لأصابع الديناميت، والجمع يتناثر ويعود لمنازله، وتحويهم سيارة  في طريق العودة وهي فجأة تلتفت إليه على نحو غريب، وكان الجسر والمياه والسماء والقمر والموج الذي يدغدغ الأرض وروحه، أخذ يطالع هذا الجسد الفاره، القوي، والروح الهادئة، والوجه الناعم ذا البشرة القمحية المضيئة، ويهتف في داخله الفارغ الواسع: ها هي المرأة التي خلقت له!

ويمضي إلى البيت حائراً، وتتطلع فيه أمه، ويمضي إلى غرفته صامتاً، ويكلم الجدران والورق، وينزل في الصباح إلى التلاميذ، في الصفوف التي أعدت لحرقه، لم يحب هذه المهنة ولا هؤلاء الصغار المشاغبين المتعبين الذين جعلوه كهلاً، رغم كل إخلاصه، فلا أحد يسمع أو يفهم، والعصا هي الوحيدة التي تصنع الصمت والحفظ والذكاء..

  يكلمه أحد المعلمين الصحفيين عن هذا التعليم المر المليء بالصفوف المشحونة، فيكتب ورقة مليئة بالصخب والغضب، ثم يطالعها في يوم آخر، وبضعة أصدقاء معه في حفل الورق العنيف، ويعود إلى أمه وغرفته وورقه، ويقترب من الهاتف ويتردد كثيراً، وينتظر حتى نزول الشمس في بئر الأرض، وخروج الجن في الظلمات، ويداعب السلك ويرتقي عمود النار، ويأتي صوتها ناعماً، هادئاً، مترقباً كأنه ينتظر هذه المكالمة مثله بفارغ الصبر، ويقولان كلاماً تافهاً، ويبدو له عظيماً، مجلجلاً يعتقل عينيه في الظلام وكائنات النور ترفرف بأجنحتها الملائكية حوله..

ويلتقيان على شاطئ ما، لا يزال يذكر الحشائش الضارية فيه، والصخور التي تناوش البحر، وأصابعه التي تدغدغ لأول مرة جسداً نسائياً، ويبدو له الوجه رقيقاً، والنفس رخية كموج البحر اللطيف وكالسماء الخالية من الحرائق، ويتحدثان في الفكر، في آخر النظريات التي أنتجتها البشرية، وأول الأديان التي نقعت فيها، فتبدو السيارة والفستان والساعة والكلمات علامات مؤكدة جليلة على انتصار الحداثة، ويقول إنه لولا بقية من خرافة في نفسها لغدت كاملة، وهذه الغلالة من السحر الشفاف الغريب تصطدم بآلته النظرية المعدنية، فيتألم..

أول الحب يا سيدي سحر، وغموض، وسهد، ونشوة، وارتقاء إلى معارج السماء، وبكاء وحنين وضحك وعودة مذهلة للطفولة ونور، وتلك المكالمات المطولة التي تنفجر في الليل، وتلك المواعيد التي لا تجيء فتضني الجسد وتلهب الروح، وتلك اللمسات الصغيرة لليد والشعر والوجه، والقبلة الأولى الحارقة، والنشوات الكبرى قبل اللقاء وكأن العالم توقف والساعة قامت، والعظام نشرت زهراً وخمراً، وأخليت ساحة المجرمين، وعفي عن القتلة، واتحدت الإنسانية في موجة عطر، تلك الأيام القليلة قبيل العاصفة، وتلك الأماسي في البرية بين ثلة الأصدقاء الضاحكة في وليمة الظلمة المشعة، حيث اللقيمات القليلة تبقى لآخر العمر، والقدوم إلى المكتبة حيث اللوحات والأوراق ومناديل الشعر توزع الدفء والمحبة، والندوات الكثيفة والقليلة من البشر تصهل في الذاكرة كنشيد يؤديه الملايين..

حينذاك كان الأصدقاء باقة ورد ولغة تصهل في غبش الفجر وأحلام مفتوحة..

وحتى المدرسة بحشودها الصاخبة، وحماماتها المليئة بالدخان والبراز، وحديقتها المحبوسة للمدير فقط، تصبح ذات طعم، لكن المدير يستدعيه على عجل، بل ينتزعه من الصف، ويتطلع الفراشُ في عينيه ويديه عله سرق شيئاً، ويخبره المدير بلهجة منفعلة متسائلة بأن الوزارة تريده، فيذهب إليها، ويستدعى إلى غرفة مهمة، ويسأل عن إجابته للمجلة إذا كانت صحيحة، فيجيب بالإيجاب، وحين يمضي إلى البيت يأتيه أمر الإقالة، فيغدو بلا وظيفة بغتة.

  سقط في حفرة غريبة، أمه تبكي وتقول: ها أنت بلا وظيفة! وتصيح على الجيران: ماذا فعل ليطردوه من العمل؟ وتقوم بالدعاء على هذا الوزير الذي يقيل المعلمين من وظائفهم لكلمة كتبوها في الجرائد.

لكن كريماً نزل في اليوم التالي للعمل، كان قلمه مسنوناً منذ وقت طويل، وأمه ذاتها كانت تراه يكتب دائماً، وكأنه يعمل سحراً طويلاً لإبادة الشياطين كلها، واختلط حرق التقارير لديه بالتدخين والكتابة فظنت المرأة إن أبنها يعمل أشياء رهيبة. وهي لا تصدق إن هذه الشخبطات في الورق يمكن أن تدر مالاً. لقد جاءت من مدينة الحد ذاتها حيث لا يأكل الرجال إلا من البحر. لكنه نزل بقلمه إلى الشوارع، كان عليه أن يهجر كتاباته الفكرية والقصصية ويتفرغ لنقد أمعاء الشوارع ويحيل أبناء الحارات إلى وجوه وأصوات.

لم يكن ثمة سوى جريدة واحدة يمكنه أن يكتب فيها، خاصة وأن صاحبها رجل مثقف، لكنه طلب منه أن يتجنب السياسة وأن يغرق في التحقيقات اليومية عله تنسيه الأفكار التي تصطخب في رأسه، ويريه الحياة، ولم يكن يتخيل إن هذا المعلم يمكن أن يغوص في الطين والمستنقعات والحمم من أجل أن يجيد مهنة بعد أن فقد مهنته الأولى التي أهدر عدة سنوات من حياته ليتعلمها، ووجد الصحفي المعلم السابق يضع كلماته الشعرية في لغة السوق فتفتتها المسامير والبضائع، واللغة تغدو مثل بلع الجوارب العتيقة في فم طفل، حين كان يسأل التجار الصغار في سوق القيصرية عن الأسعار والبضائع وعروق السوق الأولى، كان قلبه يصاب بارتعاشاته المبكرة، ويحس برياح عاتية وقلمه يهتز، ويمزق الأوراق مراراً، ويرى كيف كان يكتب قصصاً غاضبة، والآن يصنع تحقيقات من أجل العيش.. لكن مقالة فكرية مفاجئة أعادت إليه بعض التوازن، وبدا إن الأدب قد تسرب من أصابعه.

2005

______________________________________

⍣ مدينة

⍣ جدة: جزيرة سجن في البحر

12 – باب البحر «قصص»، 2020.

«القصص: وراء البحر.. – كل شيء ليس على ما يرام – قمرٌ فوق دمشق – الحب هو الحب  – شجرة في بيت الجيران – المذبحة – إجازة نصف يوم – حادث – البائع والكلب – ماذا تبغين ايتها الكآبة؟ – إمرأة– الربان – إذا أردتَ أن تكونَ حماراً – اللوحة الأخيرة – شاعرُ الصراف الآلي – البيت – حوت – أطروحةٌ – ملكة الشاشة – الغولة – وسواسٌ – مقامة المسرح – إعدام مؤلف – يقظة غريبة».












المقالات العامة

العناوين المميّزة

الدرب ـ قصةٌ قصـــــــيرةٌ: لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة

إلى أين يسيرُ هذا الطابورُ الدامي الأقدام ؟  لا أثر للقرية أو القصر أو البحر أو الحدائق أو النسمات الشمالية ، تلالٌ من الرملِ وحقلٌ من النخي...