السبت، 30 أغسطس 2025

أماه أين أنت ؟ ـ قصةٌ قصـــــــيرةٌ: لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة

أفقتُ في الليل . كان الفجرُ وشيكاً . تبينتُ النورَ البازغ في إضاءة شفافةٍ شاحبةٍ تسربتْ إلى النفاذة العاليةِ . الصمتُ ، الهدوءُ ، يشمل زنازينَ السجناءِ والمطبخ وبناية الشرطة العالية المحدقة بالسجن .

الذين معي كانوا ينسجونَ أحلامَهم . أربعة أسرة خشبية تتجاورُ في المكان ، وتحتكُ الأقدامُ بالرؤوس ، فلربما أوقفت قدمٌ حلماً جميلاً .

أنا كنتُ بلا حلمٍ رائع ، بل ربما رأيتُ فيما يرى النائمُ قبضة تهوى على رأسي . كان فضاءُ الحلمِ ظلاماً شاسعاً ، وكانت ثمة شراراتٌ غريبة تتوهجُ ، كأسماكٍ تتقلبُ في الماء . وكان صوتٌ مألوفٌ يدغدغ ذاكرتي وكنتُ أسبحُ في الظلام بأجنحةٍ وأبكي بصوتٍ خافتٍ ، وكان أحدهم يقولُ لي : تعالَ إليَّ !

أمس قال لي الشرطي : ( أستعدْ غداً للذهاب للمدينة ) . الجملة سرتْ في خلاياي كتيارٍ كهربائي . شعتْ صورة القبو في ذهني ، الحجرة الصغيرة تحت الأرض ، الحجرة العارية ، الساخنة ، الباردة ، كيفما أرادوا ، والوقوف مقيداً ساعات وأياماً . القدمان المتورمتان ، والحنفية الغريبة التي تصبُ نقطة نقطة فتخالُ الصوتُ في ذلك الصمتِ الرهيب دقاتَ طبلٍ عنيفة .

عيون الأصدقاء ظلت ترمقني بصمتٍ على مائدة العشاء . لم يعلقْ أحدٌ على ذهابي . وكان العشاءُ سيئاً ومزاجي . اكتفيتُ بقطعةِ الخبز ودهشتُ للصمتِ المخيم . عندما نهضتُ رأيتُ الوجومَ ينتزعُ البسمات . 

هل هم خائفون لذهابي . أشعلتُ سيجارة وسمعتُ أصواتَ بعض السجناء وهم يدلفون إلى المخبز . سوف تتصاعدُ بعد قليلٍ رائحة الخبز وهو يتحمصُ بالدهن . صاحت بعضُ الديوك فوق مرتفع الشرطة، ولمعتْ سيجارة لحارسٍ سهران .

أخذت أنوارُ الفجر بالبزوغ . تلألأت السماءُ بلونِ الورد ، وجاءَ خريرُ ماءِ البحر البعيد يدقُ الجزيرة الصخرية ويوقظها للصباح . 

بدأت أيدي وعيون ومصابح الشرطة تفتحُ الأبوابَ وتعدُ النزلاء .

تذكرتُ الحلمَ وأنا أمضغُ الخبز الحار . الصوتُ المألوف كان صوتُ أمي . شعَ في الظلام وأضاء زوايا الذاكرة . أتاني عميقاً ، متدفقاً بالحنو ، أصحُ يا ولدي ، تعال إليَّ ! داعبتْ أناملـُها باطنَ قدمي . ورأيتني أجري عارياً على الرمل وهي تجري ورائي والعصا في يدها .  . تدفقَ الماءُ على رأسي فخفتُ من الأختناق وصرختُ . رأيتها تحضنني وعيونٌ كبيرة في السقف تطاردني . 

نهضتُ . كنتُ أرى وجهها في كلِ مكان . كان البابُ موصداً . سمعتُ البحرَ يناديني . سمعتُ صريرَ عجلات عربة السجن الصدئة . صوتها مثيرٌ ينبئُ برحيل وجهٍ عزيز أو قدومِ وجهٍ جديد وهي ساعي بريدٍ يحملُ الرسائل والتحيات والصورَ والبراويز .

رأيتُ الشرطي حاملُ البندقية يتجهُ نحو زنزانتي .

عندما كنتُ أساعدُ في دفعِ العربة جاءني صوتُ الأصدقاء : تشجع !

احتضنني البحرُ بزرقتهِ المتوترة . أمواجهُ تتدافعُ نحو الصخور العملاقة ، وتتمزقُ بين السيوف الحجرية المغروزة على الشاطئ . ثلة من النوارسِ تجلسُ على إحدى الصخور التي تشبه الكرات .

سمعنا الريحَ الشمالية وهي ترقصُ في الأجواء القصية وتهزُ أغصان الأشجار وسعف النخيل .

رأيتُ بضعة سجناء يبحثون على خطِ الساحل . الأمواجُ محملة  بالأخشاب والملابس المزقة والقناني الفارغة . ينحني الرجالُ ويسحبون الخشب ، ويسبحُ أحدهم طويلاً لأجل زجاجة ، أمسكها بشوق ، يتذوقها بلهفة لكنه يبصقُ بحدةٍ ويقذف الزجاجة نحو صخرةٍ فتفزعُ الطيورُ . 

كان السكرُ يتعتعني وأنا أتقدم فوق السلم وفي الظلام . متيقنٌ أنها نامت . سوف يسقبلني الفراشُ بودٍ ولن أتمكن حتى من نزعِ حذائي . ولكن  وجدتها عند الباب ، متدثرة بلحافٍ والنومُ يداعبُ رأسها . انتبهت وأنا اقترب . أي فرحٍ كان يخضني خضاً ! كنتُ أحضنها وأقبلها وأضحك . القيتُ بنفسي على السرير وهي ترمقني بدهشةٍ وود .

- سأتزوج !

الأمنية التي كانت تهذي بها ليل نهار . فتلعنُ الوريقات والجرائد والكتب والأصدقاء والخلوات الغريبة ، تفتشُ ملابسي وتمزقُ الورقَ ، تحضنني وهي تبكي ، ومرة راحت تنشجُ بحرقةٍ : سيأخذونك عني ، وسأموت . ضممتها بجنون وصرختُ : لا تمزقي صدرك !

والآن ها قد جاءَ الزواج ! ضحكتْ معي ، ونزعتْ حذائي ومسحت على رأسي وهي تشكرُ اللهَ . سألتني عن اسمها ، سحبت الدثارَ وأنا أنطق باسمها الجميل . عجبتُ لأنها نهضتْ بغضبٍ وأخذت تردد :

- لا ! لا ! لا !

جاء سجينٌ آخر إلى السفينة . ثيابهُ الكالحة ، وشارباه الكثان ، وبسمته الهازئة التي لا تختفي توضحُ أي رفيق سوء جاء معي . رمقَ البحرَ والأفق ، وفتحَ صدره للريح ، وربت على كتفي بود .

حين كانت المناقشات تزهقُ روحي بمطارقها ، كنتُ أتسللُ إلى غرف السجناء وأنصتُ إلى حكاياتهم . أتلمسُ هذه الوجوهَ الغريبة من وراء القضبان . استوقفني وجههُ طويلاً . أحياناً كان يلبسُ النظارة الطبية ويقرأ ويدخنُ من غليونٍ صنعهُ من أغصان الشجر وأحياناً أخرى يجمعُ ثلة من السجناء ويطفئ النورَ وتنتقل بينهم السجائر المريبة الرائحة . حينئذٍ كان يضحكُ فتسمعُ ضحكاتهِ الصاخبة في زوايا السجن ، وفي كل هذهِ الأوقات كان يتكلمُ بغرابة .

جلستُ معه مرة فقال :

- ولكن ما الفائدة من كلِ هذه المعاناة ؟ الموتُ ينتظركم كما ينتظرُ حارسكم وجلادكم . ستزول قريباً ، فمن سيسمعُ بك ؟ ومن سيقيمُ وزناً لتضحياتك ؟ وحتى لو أقام فماذا ستنفعك القراءاتُ على روحك وأنت في العدم المؤبد ؟ ! 

ويمضي في أقوالهِ فتتناثرُ تماثيلُ العظماء ، وتتفجرُ رغوة البيرة في الكؤوس ، وأسمعُ الموسيقى تأتي صاخبة من الحانات وتتسربُ حشرجاتُ اللذة من الغرف الموصدة . ابتعدُ عنه وهو يضحكُ خلفي بسخرية . 

بدأت السفينة في السير . الأمواجُ الكبيرة تلطمها بقسوةٍ . تجمع الشرطة داخل غرفة القيادة وتركونا أمام الماء لوحدنا . الأزرق الجميل يمتدُ إلى جزرٍ قريبةٍ وإلى آفاق لا محدودة نائية عن الحراس وصفارات الأنذار . كم بودي لو أندفع إليه واسبح وحيداً ، أبعدُ الأمواجَ الغاضبة والزبد والأسماك الميتة والأيام القتيلة ، وأغني كطفلٍ عاد إلى حضنِ أمهِ بعد تشرد . 

فجأة يشهقُ قلبي بالألم والمرارة . أتخيلها هناك تغتسل في الحمام . تغني بصوتٍ خافتٍ متحشرجٍ . تطالع الجدران باستغراب وتتذكر . الألمُ يتجمعُ في صدرها . تراني فوق جبلٍ بعيدٍ بيدي مطرقة وأهوي على الصخور . مقيدٌ بالسلاسل تنهشني الشمسُ والطيور . يندفعٌ تيارٌ ملتهبٌ إلى قلبها . تسقطُ على البلاط . المياهُ تتدفقُ فوقها وتتكسر . تنادي . تنادي . الزوج يفتحُ البابَ وينظر إليها . . وأنا أهوي على الأحجار وأصرخُ في الفضاء ، وهو يجرها إلى الفراش ثم يتناول القهوة .

اقترب السجينُ مني . مضتْ عدة أشهر عديدة لم التقِ به . كانت كلماتهُ مثيرة في اول الأمر ، لكنها أخذت تتحولُ إلى أنصال مخيفةٍ . لا أعرفُ لماذا كنتُ أتجنبهُ بإصرار وأخافُ منه .

قلتُ :

- البحرُ جميلٌ .

لم يسمعني لأن أذنيه المتورمتين قد امتلأتا بالقطن .

ها هو الليلُ وها هي القلعة والصمتُ والظلام .  أصعدُ إلى النافذة العالية فأرى الساحة هادئة وناضبة إلا من بضعة حراس . العصافير نامت في شجرة النبق ، وأتى صوتٌ لسجناء بعيدين يغنون .

لم ابعدوني عن الجزيرة وقيدوني هنا ؟ لا أحد جاء لاستجوابي . لا أحد سألَ عني . ظللتُ مع مرافقي نقرأ الأنجيل بالتناوب ونثرثر وندخن ونسمعُ الموسيقى العسكرية الحادة وننتظر الوجبات التي لا تتغير .

حكى لي هوايته المفضلة :

- بحثتُ عن كل المتع الجميلة ، سافرتُ ونمتُ مع مئات النساء ، تسكعتُ في الشوارع وسكرتُ حتى الصباح . دخنتُ كلَ شيءٍ . تلذذتُ بكلِ ما يخطرُ ببالك ، ولكن لم أجد أروعَ من النوم مع الفتيات الصغيرات . أن تأكلَ جسماً طرياً ، برعماً في بدءِ تفتحهِ ، ذلك هو الفتحُ المبين !

ضحك وهو يشعلُ السيجارة فبدا وجههُ في النورِ المباغت مخيفاً . قاد الفتاة الصغيرة إلى غرفتهِ وهو يؤكدُ لها أنها سترى أجملَ طيرٍ في الدنيا . وكانت تضحكُ بسرور . أغلق الباب .

صرختُ في وجهه :

- ألا تخجل من نفسك ؟ !

- استغربُ من حماسكم المبالغِ فيه للفضيلة . هل تتصور إن حبيبتك – إن كانت لديك حبيبة ! – تنتظرك الآن ؟ ألا تعتقد إنها نائمة في فراش رجلٍ آخر ! ؟

أيقنتُ إنني قد أقتلُ هذا المرافقَ اللدود . القيتُ بمطفأة معدنية نحو رأسه ، ولكنه زاغ منها وهو يضحكُ هازئاً !

تكورتُ على نفسي ، أحسستُ ببردٍ شديد . أصغيتُ إلى الريح وهي تهزُ شجرة النبق بعنفٍ ، والعصافير تستيقظ وزقزقتها تملأ المكان . صمتَ كلُ شيءٍ غير أن الريح مضتْ تولولُ وتمزقُ جيوبَها في الطرقات .

لا أعرفُ لماذا رفضتْ أمي الفتاة . القيت الدثارَ جانباً وسألتها، ولكنها لم تجب . رحتُ ألح فمضتْ ترفضُ بإصرار . لماذا . . هل لأنها من مذهبٍ آخر ؟ مرتْ أيامٌ وهي على عنادها . أراها الآن في سيارة الإسعاف ، مناشير الألم تتوغلُ في جسدها . ترى الظلال والأضواء المتكسرة وتسمعُ الريحَ الثائرة وتناديني . اسمعُ صوتـَها يتفجرُ ، تعالْ لآخر مرة !

كيف صمتنا يا أمي في تلك الأيام وكانت أخيرة ؟ اسمعُ صوتها مع الريح وضجة الأغصان وبكاء العصافير . تسأل الواقفين والزوار . تدخلُ في غيبوبة ، وتراني بعيداً . ثم تفتحُ عينيها وإذا. بها أمام فتاة جميلة ، أمسكت يديها بحنو وقبلتها طويلاً. بكتْ العجوز وطالعتها بإعجاب ثم راحت في غيبوبة .

اقتربت مني ، النجومُ كانت رملاً من النور والنار . المصباحُ الصغيرُ والورقُ والشاي ورسالة إلى صديق بعيد . جلستْ على طرف السرير . وجهها الأصفر المعروق حزينٌ ومقطبٌ .

- زوجي يريدُ أن يتركني . سيتزوجُ امرأة أخرى .

سنواتٌ كثيرة كانت معه ، في الكوخِ المتهدمِ ، في بيوتِ الإيجار الفائضة بالمياه والصرصير ، تطبخُ والدخانُ يملأ شعرَها الكث . ذات ليلة أيقظتني وكانت تبكي ، وتذكرُ حزنَها معه ، ملأت الحوشَ بدمٍ غريب من صدرها ، في الباص تختنقُ بالعباءةِ والزحام وتمسكُ أكداساً من الأقراص .

لم تركتها هكذا تحترقُ أمام عيني ؟ لم لم تصرفْ النقودَ التي أعطيتها إياها وأبقتها لي ؟ ! لم تقل لي كلمة دع الورقَ وتعالْ. مضت في طريقها تتعكزُ على ركبيتها . ثم تموتُ بسببي . آه ، أسمعُ السياط والصرخات . أعترفْ ! أعترف ! ورأيتُ نفسي متدلياً من السقف وأحدهم يمزقني . ثم قادني الرجالُ إلى ممراتٍ طويلة قذرة ، فتح باباً وأوقفني أمام سرير، هو نفسه سريري في البيت ، أزال اللحافَ فأبصرتُ وجهي دامياً ممزقاً . سألني بلطفٍ : أهذه أمك ؟

نهضتُ مذعوراً من الكابوس . كان الصمتُ مزروعاً في الساحات والغرف . العصافير نامتْ نوماً عميقاً . قفزتُ إلى النافذة وصرختُ : لم أنا هنا أيها الأوغاد ؟ نزلتُ وربتُ على كتفِ زميلي فلما لم يفق هززتهُ بعنف ، فصحا بهلعٍ :

- أريدُ أن أرى أمي !

- ما هذه الهلوسة ، دعني أنام !

- لقد رأيتها وهي تموت . . 

- هو حلم كاذب . . أتركني !

اندفعتُ إلى الباب ورحتُ أصرخُ منادياً الحارسَ ولكن بلا فائدة. نهضَ السجناء الآخرون في الزنازين المجاورة وسألوني إن كنتُ اريدُ شيئاً . عشرات الأبواب مغلقة أمامي . مئات العيون تحدقُ في أوراقي وثابي وجلدي ، تـُجمدُ خطواتي، حشرجاتها الأخيرة ترنُ في أعماقي كشجرةٍ تتصدعُ بفعل عاصفةٍ . ترنحتُ تحت أول باب وقد تورمت قبضتاي . وبدا أن الشجرة تتحطم ، ثم اشتعلتْ فجأة عموداً من نار. 

سمعتُ البابَ الخارجي يـُفتح . لم يسبق لأحدنا أن سمعَ البابَ الخارجي وهو يهتز في هذه اللحظة من الليل . الخطواتُ لا تبدو لرجلٍ يحتذي الجزمة العسكرية الثقيلة . بعد همهمة صغيرةٍ في الممر ظهرَ رجلٌ يلبس الملابسَ المدنية . اقترب مني ، حدق في وجهي بمصباحهِ اليدوي الصغير :

- ماذا تريد ؟

- أريدُ أن أرى أمي .

- هل جعلك السجنُ تفقد صوابك وتهذي ؟ !

- لا .

- إذن استمر في نومك ولا تزعج جيرانك .

- ولكني أريدُ أن أرى ثم . . أعود !

- هل سمعتَ خبراً سيئاً ؟

- نعم .

- ليس لدينا مانعٌ من خروجك .

أحدقُ في وجهه فيمنعني الضوءُ الساطع .

- إذن ماذا تنتظر ؟

وضعَ يدَهُ في جيبهِ ثم أخرجَ شيئاً .

- وقع هذه الورقة !

أخذتها ، سلط الضوءَ على سطورها فقرأت ورأيتُ شراكاً وحراباً ، ثم أبصرتُ جثتي تتدلى من سقفٍ في منزلٍ مهجور . أرجعتُ الورقة بألمٍ ممضٍ تفجر في قلبي كمدينةٍ تنهارُ في زلزال .

- ليس سوى التوقيع ثم تخرجُ . . . !

- أذهب وإلا بصقتُ في وجهك !

كان زميلي ينصتُ إلى الحديث . جلسَ واشعل سيجارة . قد أقتلهُ إذا ضحك الآن . اقترب مني مقدماً إلي سيجارة مشتعلة . عيناه محتشدتان ببريقٍ غريب . جلس مستنداً إلى الجدار كتمثال .

حين أطلّت أنوارُ الفجر الأولى طلبونا للرحيل . مرافقي انهى علاجه وأزال القطن الدامي من سمعه . حركاتهُ غدت قليلة وكف عن الضحك والثرثرة . حملنا أمتعتنا القليلة وغدرنا الزنزانة .

كانت الساحة تضجُ بالصخبِ والحركة . فرقة موسيقى الشرطة تعزفُ لحناً راقصاً ، وثمة مجموعة أخرى تتدربُ على اطلاق النار .

 لن أرى المدينة ، ستقودنا السيارة للمرفأ الصغير . قادنا الشرطي إلى مكتب الضابط . راحوا يفتشون حقائبنا . ناولتُ الضابط رسالة كتبتها إلى أمي . وجهٌ جامدٌ يرمقُ الورقة المنتزعة من علبة صابون . يتطلعُ إليَّ بغضبٍ .

- كيف كتبتَ هذه الرسالة ؟

عاود الشرطي تفتيشي . لكن لم يجدوا شيئاً .

راح الضابطُ يقرأ الرسالة ، لمسَ جبينـَهُ ثم رفعَ قبعته ووضعها على الطاولة . استغرق في القراءة . أصابعه تدقُ الخشبَ بعصبية 

هل سينهض ويأمر الشرطة بضربي كما جرت العادة ؟ وضعَ الورقة جانباً ، وبدا جامداً أكثر من المعتاد .

- لستَ بحاجة إلى هذه الرسالة الآن !

ثم أمر الشرطة بإرجاعنا إلى الجزيرة . هوت الجملة بي إلى قاعٍ سحيق . يدٌ كانت تمتدُ إليّ عبر مسافاتٍ بعيدة ، اسمعُ استغاثة في الظلام ، وأمدُ يدي وأمضي وأحملُ عودَ ثقابٍ فأتدحرج مع الحصى والرمل والدم والنداءات والضحكات المريبة وأصلُ إلى قاعٍ باردٍ . تختفي الأصواتُ وابقى وحيداً مع أطيافٍ بيضاء وذكريات تتوالدُ في الصمت .

جنودُ الإعدام ببنادقهم ولوحاتهم يزاحموننا في الممرِ الضيق . رأيتُ لوحة تمثل رجلاً وقد اخترقت قلبه عشرات الرصاصات.. ولم يمت . وجدتُ إنني نسيتُ الحقيبة ، أردتُ أن أنبه الشرطي إلى ذلك ، فرأيتها على ظهر صديقي . حدق بي فجأة ، في الزحام ، بنظرة خلتها طويلة ، مشبعة بالمودة ، ورأيتُ ماءً غريباً يتألقُ في عينيه !

يوليو 1982.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ  3 – يوم قائظ «قصص»، 1984.

«القصص: الدرب – أماه… أين أنت ؟ –الخروج – الجد – الجزيرة».







المقالات العامة

العناوين المميّزة

الدرب ـ قصةٌ قصـــــــيرةٌ: لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة

إلى أين يسيرُ هذا الطابورُ الدامي الأقدام ؟  لا أثر للقرية أو القصر أو البحر أو الحدائق أو النسمات الشمالية ، تلالٌ من الرملِ وحقلٌ من النخي...