السبت، 30 أغسطس 2025

الصورة ـ قصةٌ قصـــــــيرةٌ: لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة


 الأشجار عارية في الميدان. كانت السماء زرقاء والريح الشمالية تصفر في الأعالي. سار تحت الأغصان العارية وتأمل السماء البعيدة. غاص في موج الأوراق الخريفية . سمع الريح تدندن كصبي تعلم التصفير توا. تأوهت الأوراق تحت حذائه فأصغى إلى تأوهاتها بدهشة. تأمل الأشجار والسماء والأوراق وأشعل سيجارة فشكل خمس سحب من أجل الشتاء القادم. كان الميدان أمامه.

(هنا كان المغني. الصوت الناري يخاطب الأشياء. اليد تشعل الأوتار، تكوّن دوائر من الوهج، والصوت هادئ مرير، كحد السكين. يرفع يده ويصفع الصمت، الصوت خافت كوشوشة الجداول ورفرفة أجنحة العصافير، الصوت ينبعث من أعماق القلب.

عيناه جمرتان، تشعلان الجمع، تطفئان الجمع، تتوحدان به.. اسمع الصوت كأنه الآن، يحتدم في الميدان وفي السماء الزرقاء ويجمع الأوراق الخريفية. هذا التوتر في الضوء من خلقه؟ هذا التذمر في الأغصان من يوقفه؟! اسمع الجمع صامتا، باردا، ثلجياً، نائماً، كئيباً، أسمع الجمع مدندناً، محروثاً، منشوراً على جبال الشمس.. اسمعه يوقع بأقدامه على الأرض، يغمغم بالكلمات، ويطفئ الآهات، روحه نبض، وعروقه لحن مرير متوتر.)

رأى ثلة من الجنود تحدق في الجدران. تتحسس النتوءات وتتلمس الشقوق. أشاروا نحو شيء ما. انتزعوا ورقة صغيرة في حجم الكف. مزقوها بعدم اهتمام. أشار واحد منهم الى ورقة أخرى لكنهم ضحكوا باستغراب وساروا وهم يدندنون لحنا مزعجا..

(هنا كان المغني. صوت خافت مفعم بالرغبة في الحب. نداء طفل إلى امه الغائبة في مقبرة المدينة تعالوا أيها الأصدقاء، ولندع جانبا الآلام والرغبات المحبطة، لندع الظنون الملتفة كالأفاعي، ولنغزوُ الحقول والبراري، حيث تزهر الحنطة وتزهو الينابيع واشجار الورد. اني وعدتكم بنخب النجوم، والنوم تحت عيون البنفسج، ننشر الهموم ونغني للعيون الواعدة. والجمع حوله. الصمت والأيدي العابثة بالأزرة وابتسامات المجاملة الرصينة وعبارات الثناء على الأحذية الجديدة وتذكر أحلام ليلة الجمعة المخمورة. الجمع حوله والسماء الربيعية الزرقاء والغيوم البيضاء السائرة نحو الجنوب. الصوت خافت حزين، كأن الجمع جماعة من القتلة، الصوت مفعم بالرغبة في لقاء الحبيبة، كأن الجمع سور من الأعداء والحراب).

تناهت إليه صيحة مزعجة. التفت فشاهده يقترب منه بمهل وثقة. حمل غدارته بيده وشعت عيونه بالتحدي والرغبة في العبث. رمانة حديدية كانت تتدلى من حزامة البني.

ــــ اسمح لي يا سيدي بتفتيشك.

ــــ أنني أعمل موظفاً في حكومة المدينة.

ــــ ومع ذلك فان الأوامر تحتم علينا تفتيش كل شخص يتجاوز هذا الميدان.

ادخل يده في جيوبه، أخرج محفظة. ألقى عليها نظرة سريعة وهو يبتسم ببلاهة. أعطاه إياها معتذراً.

لم يقل له إنها اغنية فاشلة، طفلة صغيرة مشوهة. طفلة خنقها بمنديل أسود وحملها في جيبه. اتجه الجندي الى رجل عجوز. كان يسير كملك. لم يدرك أن الورقة تعني له أشياء كبيرة، رغم انها صغيرة ومشوهة. كتبها تلك الليلة الصيفية الحارة. عندما خيم الليل على المدينة واطفئت الانوار الا جمرة قلبه. أحس بالندى يلتف حول الجدران والأسلاك الشائكة والأشجار، يطبع على الأوراق قبلاته الوافرة. ويزقزق فوق الأسنان الحديدية بكآبة. توغل الندى في عينيه وقلبه، دعاه إلى الإبحار في نهر متجمد. رنا الى الأوراق المتساقطة. كانت تنهمر كالدموع وتتكوم تحت الجذوع، تترنح، تتأوه، ثم تصطدم بالرصيف فتستقر هناك متضرجة بالندى والدم. تندفع الكلمات من صدره. كخيول بدأت السباق. انها تصهل بالحياة، كالأطفال يضجون بالنشيد، مفعمة باخضرار حقول فتية، أنها تندفع وتتلون كقوس قزح وتعوم في بحر لا متناه.

واجهة المتجر الزجاجية الجميلة مشروخة. لقد مروا من هنا إذن. اية مشاعر حقد عميقة يحملونها تجاه هذا المتجر؟ صغيرة قذفت في هذه الزاوية فطرزت الواجهة بالخطوط المستقيمة. كأنها شمس تشع، أو أرض خططت في مشرحة. لفتت انتباهه ورقة لصقت بين الإعلانات المزدحمة. ورقة صغيرة في حجم الكف.

رأي المغني فيها صامتا. توغل هناك وجلس. صعد الى الأفق واعتلى صهوة النجم. جلس صامتا هادئا، يشع وجهه ثقة، عَبَرَ المستنقعات والمستحيلات وسكن الأفق الأزرق. انه هنا. تخفى عن الجند بالموسيقى والشعر والتصق  بجدران المدينة كالمسام كالأوراق الخريفية، كالسماء الزرقاء، كالحنجرة الصاخبة، كالجمع المجنون الغبي.. بل أخفوه، رسموا وجهه الهادئ المشع رقة وشبابا ودمغوا به المدينة. الحنجرة المزعجة، الضاجة، الحادة، فتحوا لها القنوات السرية واطلقوها تهذي في الليل والنهار. هذا وجهه في الامسيات والاحاديث الرقيقة ومناقشات الأصدقاء فوق الجسر فاين وجهه الغاضب، الفائر ثورة، الصارخ، النازف، فوق المنابر والميادين والبساتين؟ لم يلق نظرة اليه، قرأ  كلماته وسمع ولكنه لم يشجعه. وجد سوراً طويلا يمنعهما من اللقاء. كم مرة تحفز للهجوم؟ كم مرة التقيا في الغضب والشوك واللهب؟ قرأ  كلماته ولكنه لم يشجعه. طالع خاتمه الذهبي ثم رحل بعينيه الى السماء الزرقاء وحدق في شجرة بعيدة عرتها الريح من أوراقها.

انتبه الى مجموعة من السياح واقفة وراءه. كانت انصاف بسمات النساء والرجال ترجوه ان يتزحزح من موقعه امام الباب. ابتعد معتذرا، وراقب أجساد النساء شبه العارية، واثارته روائح الياسمين والنرجس ولليلك.

شاهد ثلة من الجنود تمشط الشارع. كانوا يطلون في وجوه الباعة والمشترين، ويتمعنون بين الحين والحين في البضائع الجيدة والرخيصة، يحسبون نقودهم ثم يفتشون المارة بحثا عن أشياء مجهولة.

دخل المتجر فرأى السياح يتلمسون التحف ويثرثرون مع المستخدم. وجد صاحبه خلف المكتب، يدقق في آنية فخارية ويدون في دفتره. حياه بحرارة ثم جلس في مقابلته. الآنية كانت قديمة، تفوح برائحة الماضي، كأنها قادمة تواً من مقبرة. ثمة نقوش من سهام تظللها، كلها تتجه برؤوسها الى الأعلى. كان التاجر مستقرقاً في الكتابة. يبدو عليه الانهاك والألم. لكن تقطيبته الحادة تدل على الإصرار والثقة. سأله ما إذا كان يريد شاياً أم زجاجة باردة، فلم يرغب في شيء. حدق في ظهور النساء الناصعة البياض ودلف الى غابة العطور الظليلة.

الصورة تستريح على الجدار، وتتطلع الى الشارع. عيناه هادئتان واثقتان. اختاروا صورة مدهشة، فكأنه يوصي بشيء لصبي مار بقربه، او يدلي برأيه في مناقشات الشارع.

كان التاجر يرمق الزبائن من حين الى حين، ويبتسم إليه بوهن. وأخيراً ألقى القلم واعتدل في جلسته.

ــــ انه صباح خريفي جميل.

ــــ أجل، لولا التفتيش والاشاعات المفزعة.

تطلع الى الواجهة. مشى في الشارع المكتظ في هذه اللحظة، زاحمته الخيول والجنود والمارة فأحس بالاختناق. تطلع الى السماء الزرقاء البعيدة.. البعيدة فرأى سحابة من الدخان  تلقي ظلالا سوداء فوق وجهه. وجاء اللحن من الميدان خافتاً، هادئاً، كضحكة بريئة.. صمت لم يقل شيئاً واتجه الى قلب الدوامة.

قال التاجر:

ــــ إن اصدقاءك يكرهونني ببشاعة. عندما مروا من هنا حاولوا تخريب المتجر. اعرف السبب. انه هو. ذاك المغني المجنون. ذاك اللعنة المسعورة. كان يرقص رقصة الموت في الميدان. كان يوجه اصبعه نحوي. اعرف السبب جيدا.

ــــ لقد احترقت زهرة المدينة على كل حال.

ــــ هذا صحيح، ولكن نهر الشر لا يزال متدفقا.

كانت الصورة لا تفارقه، انهم يحرقون الأرض بسكاكين صدئة، ويزرعون العوسج.

ــــ لقد نشروا صورته في المدينة، انهم يستغلون اسمه ووجهه. باسم الموسيقى يريدون الكنوز.

ــــ وانتم أيضاً تنشرون اسمه، وبهذا تساهمون في الحريق..

تصاعدت ثرثرة السياح مع المستخدم. وكان احدهم يعرب عن عدم ارتياحه للتحفة المعروضة. وكانت عيون النساء الزرقاء، كالسماء، تتلألأ  كالمياه وتحدق في التحف بانبهار. وضحك السائح المعترض وأشار الى قلائد فضية يتطاير منها الشرر.

ــــ إن من الغباء قتل المغني لتدمير اغانيه.

ــــ ان توجيه هذا الحديث لي شخصيا يضعني في موضع الاتهام!

ــــ انني لا اقصد ذلك، بل ارمي الحجر في الجهة الأخرى.

ــــ لم يؤكد احد أنه قتل الا هم. تناثرت اشاعات كثيرة في المدينة حول مصيره. قيل إن مجموعة من الكلاب المسعورة قتلته. وقيل إن عصابة من الاشباح خطفته. وبعضهم قال أن معركة نشبت بين الأصدقاء أنفسهم. لا أحد يعرف شيئاً. ولا أحد يعرف ماذا كانوا يفعلون في البراري الموحشة.

ــــ انني لا أصدق أبداً ذلك الزعم القائل بأنهم يزرعون حديقة. لو صدق زعمهم لعنى ذلك أنهم جماعة من المجانين. 

اقترب السياح من المكتب وهم يتفحصون القلائد المشكلة من نجوم فضية. بدا أنهم اتفقوا على شرائها. لكن أحدهم رمق الآنية بأعجاب، وأشار إلى النساء نحوها فحدقن فيها مذهولات.

 مجذوب الى الجرة الكالحة، عطشان الى خمرة الزمن المعتق، امسكها بلا استئذان، بعصبية وخوف، لم يهتم بالمستغرقين في الحديث، بل خطفها بحقد كأنه له منذ زمن بعيد وهذين الرجلين يمنعانه. حضن الجرة وتحاوطته النساء وهن يحدقن فيها. وفجأة كان الرجل يمسك قطعا متحطمة من الطين، تساقطت واحدة بعد أخرى، بين دهشة الرجل وذهول النساء. تحجر التاجر وهو يرى الآنية تتحول الى تراب.

اقترب الرجل منه. لم يبد حزينا متأسفا بل كان يبتسم بمرح.

ــــ اعذرني يا سيدي على تحطيم هذا الأثر الثمين.

ــــ لا فائدة من الأسف الآن.

ــــ انني على استعداد لدفع الثمن.

ــــ بكم تشتري حقبة موغلة في القدم يا سيدي؟

صمت الرجل وتطلع اليه كأنه يستدر منه العون لأقناع التاجر. تسلل من تحت نظرته وعبر الى العيون الزرقاء. تذكر انه لا يجيد السباحة ويكره البحر والانهار ولا يجيد مراقصة النساء.

ــــ هل لديكم تحفة ثمينة كهذه؟

ــــ نعم، انها ثمينة جدا.

نهض واتجه الى خزانة في الزاوية، فتحها واخرج شيئا يلمع. لم ينتبه لشدة ضيائه. قربه فإذا هو مفتاح من ذهب. كان غريب الشكل على هيئة منشار أو سيف من سيوف سمك القرش. شكل السياح دائرة من الانبهار. وتراكضت أيديهم نحو الضوء لكن التاجر ارجع المفتاح مبتسماً.

ــــ انه مفتاح أثري هام.

ــــ اهو نتاج حقبة موغلة في القدم أيضا؟

ــــ ليس كثيرا. قبل خمسة قرون، يا سيدي، حاصر الغزاة البرابرة مدينتنا، وقد دافع السكان عن  مدينتهم بكل شجاعة، لكن الغزاة كانوا يمتلكون  أسلحة جديدة فلم تصمد الأسوار. دخلوها ومثلوا مشهدا  مسرحيا في الميدان الذي يبعد بضع خطوات عن هذا  المحل. لقد احضروا الملك ومن بقي من السكان وطلبوا  من الملك أن يسلمهم مفتاح المدينة، وطلبوا من  الأهالي أن يهللوا لهذا التسليم. كان الملك يرتعد، واجم النفس، ممزق الثياب، كان يتقدم باكتئاب كممثل  فقد دوره، بوده لو ينتحب ويقبل الأقدام الوحشية.  سلم المفتاح بوهن. واشتعلت السياط في الجموع «هللوا أيها المهزومون!»، «هللوا أيها الجبناء الذين لم  تحسنوا الدفاع عن أرضكم!» وامتد الصمت كالسماء في الليل، لم تسمع سوى ضربات السياط وتأوهات الفتيات والأطفال. اشتد اللسع فامتد الصمت صحراء قاحلة بلا طيور. سكن كل شيء وسقط الملك تحت الأحذية كان يطلب الرحمة. لكن عيون النساء والشيوخ والأطفال كانت ساكنة. سقط المفتاح الذهبي في الدم. انبعثت آهة من الجمع لكن العيون ظلت ساكنة. أبعدت الجثة من الميدان وبقى المفتاح في الدم وبقيت العيون ساكنة. اشتد لسع السياط وبدت الآهات تتلون، تتحول كائنات غريبة، واشتدت فورة الأعماق، نهض اللحن الجامع، ظهر بوجهه الغاضب، تجمعت الآهات المتفرقة،  والتحم المشوهون والحزانى في الكلمة. صعد الهدير عاصفا، هاجت العيون الساكنة، ذابت لسعات السياط.. ولكن هذا المفتاح الثمين والقبيح بقى في الأيدي الأجنبية.

ــــ اعذروني أيها السادة اذا انفعلت قليلا مع الحكاية.

كانت النساء يتطلعن في وجه التاجر بأعجاب، واقتربن برائحتهن السحرية منه. كن يقفن قربه كالأشجار عارية والثمار متناثرة فوق الأرض. تخيل نفسه أحد أفراد الكورس القديم. مشى في الأزقة مغنيا مآثر المدينة المنكوبة. جمع الأسلحة المبعثرة والحكم الرائعة والصدقات، صهرها وشكل منها منزلا وراء تل بعيد عن عيون الرقابة وفضول الشحاذين.

ــــ انني اشتري هذا المفتاح بأي ثمن.

ازعجته كلمة الرجل، رأي التاجر يبتسم، ثم يمد المفتاح ببطء، كأنه يحرص عليه كثيرا، كأنه تحول الى مفتاح حقيقي وعزيز، كما لو انه يبيع متجره وأسرته. مد المفتاح ببطء احتار في البيع. لكنه لم يتوقف. واقتربت يد السائح من الوهج وخيل اليه ان المكان سينفجر، ستتناثر أشلاؤهم في الشارع مع الزجاج والصورة، تحت احذية الجنود وفوقهم السماء السوداء. لم تتوقف يد التاجر وامسك السائح المفتاح. وأخذه بثقة وكأنه خاتم سرق منه، تطلع إليه بسرور والتم الجمع حوله. أخرج أوراقا رمادية اللون، ذات خطوط عرجاء غريبة، كما لو كانت بريشة مجنون. امتلأت الخزانة بها، صافح السائح التاجر، ووضع يده تحت خصر امرأة شقراء وسار معها وهو يضحك.

رأى السياح يسيرون في الشارع واحدهم يشير الى بناية عملاقة تبنى حديثا.

ــــ نعم، يا عزيزي أين كنا؟

ــــ انت تعرف رأيي أن ذاك العمل هو غباء مطلق.

ــــ إن كلمة (ذاك العمل) تثير في ذهني أصداء متعددة. انني شخص عملي، وهذه الالغاز الأدبية لا افهمها. إن الرجل مات بسبب حماقاته. لقد مات وانتهى الأمر، ولن تستطيع الاشعار والصور والموسيقى تغيير العالم..

نهض. كان ألماً غامضاً ممضاً يستعر في قلبه، انه لا يرى السنة النيران تتشكل من خطوط شرخ الواجهة، إنه يرى الأصبع الممدودة في عينه فحسب.

ــــ لا تزعل من صراحتي.

أراد أن يفجر جملة في وجهه، وان يشير الى واجهة المتجر والاعلانات، لكنه ابتسم بحنق وألم. ثم حياه بضجر واسرع بفتح الباب. لم يلق ابتسامة الوداع في وجه التاجر، اندفع في الشارع بين المارة والضجيج والعربات والجنود والكناسين والسياح والضحكات الماجنة والتحيات العطنة وباعة الفاكهة المتجولين والانفاس والعرق والدخان الأسود واعمدة النور. شق طريقه في الزحام، احس بالجمع يخفف من سرعته، تحاصره، أحاطت به الأنفاس والمعاطف والاحذية والسجائر والدخان والكلمات البليدة، تشتمه، تضحك في وجهه.. ابعدها، ابعدها بحدة، لا يريد ان تبتلعه الدوامة، نظر الى الأرض، الى الاسفلت فرأى الأوراق الخريفية واعقاب السجائر والتراب الغريب. أسرع في سيره، وبدأت الدندنة تسكنه، فلمس عروق الميدان الأولى.

(هنا كان المغني. ربما كان الجمع ذاته، ربما كان جمعا آخر من باطن المدينة، لكن الأقدام بعيدة، وهو وحده، فوق منصته، يدلي بحديث خاص عن حبيبته، التقيا عند البحر، رسما قصتهما فوق الرمال سخر الموج منهما فمحى القصة. صوت خافت هادئ راقبته الأشجار وضحكت جذلى. وصوته واهن يشتد قليلا، ترمقه الضحكات الشريرة، تدع الايدي ازرتها. تعالوا أيها الأصدقاء سنرحل هذه الليلة الى الصحراء. ودعوا حبيباتكم، احضنوا امهاتكم، هيا لا يجب أن نتأخر. تنسى أحلام ليلة الجمعة المخمورة، وتنسل الشعل من المدينة المظلمة. تكون نهرا من الضوء. الأحذية تدق الأرض، والصمت يذوب قليلا قليلا، العيون تتطلع الى الموت والقلعة والملك، الأحذية تعزف اللحن القديم، تتردد الشفاه قليلا ثم.. تنفجر يتلاشى الهمس، ترتجف القلوب، تمد الأشجار اغصانها، تمتد اليد المجنونة الى الغيتارة، تشكل دوائر من النار واللسع، يذوب الجمع في العيون الواعدة والشعل واللحن القديم. «هللوا أيها المهزومون!»، تتصاعد الصيحات ويندفع الموج الصاخب، يأتي اللسع وترتفع السياط الغاضبة. يخترق الموكب الظلام، تنيره الشعل والنجوم والآمال.) .

يخرج من الصخب، يتجاوز الميدان مبتعدا عن الأشجار العارية، مصغياً الى صوت الريح الخريفية الباكية، يسمع نداءات الجنود وصخب الحواجز فيدلف إلى المكتبة الهادئة. ولكنهم كانوا امامه أيضا. الروائح الجنونية والصدور النافرة المتحدية والعيون الزرقاء. واصطدمت به! فرس أشقر جامح يتوثب جمالا. طالعته مبتسمة معتذرة، تراجع الى الباب ودعاها للقفز بلا حرج. حملت كتابها وغاصت في الجمع.

ورآه غارقا في زاويته، لابسا قناعه الزجاجي الثقيل محاولا فك رموز العالم المستعصية. قرع باب عزلته واقتحم الهدوء والسكون. ابتسم الآخر بود وأغلق الكتاب.

ــــ ما هذا الضجيج الذي اقتحم المدينة؟

ــــ أصرت انت مثلهم أيضا؟

أجاب الآخر:

ــــ لست مثلهم. لكنني أحب مدينتي.

ــــ حتى مغنيها؟

ــــ كان صديقا.

ــــ لدودا!

ــــ لقد ابتذل الغناء. نحن نبحث عن فن آخر.

استند على المقعد بارتياح وتمعن فيها. لقد وقفت مع السياح وراحت تتصفح كتابها. الأشجار تبدو من هنا أيضا، مزروعة فوق الرصيف الممتد الى البحر. كم سار وحده في ظلالها! كم ناجى الموج ورسم خطة شريرة امامه!

ــــ انني اعتبره عقبة أمام الفن، انظر انت مؤلف كبير فمن يعرفك؟ كأنك تكتب للقرن القادم هذه حصيلة الابتذال. انه صديقنا ولكنه. طمسنا.. قتلنا. نحن نشكل الكلمات بروح العصر لا بصخب الناس الزبدي. نحن ندين القتلة، لكننا لن نشارك في قتل الفن.

ــــ ألم تكن بين الجمع ذاك اليوم؟

رمى الميدان بنظرة حذرة، رأى جثث الأشجار منتصبة والأوراق الخريفية مكدسة تحتها، أنها تتكسر تحت أقدام الجنود والمارة والعربات. رمته المرأة الشقراء بنظرة خاصة، ثم راحت تتفحص الكتاب. كانت فارعة الطول، رشيقة، ذات عينين زرقاوين. جاءها السائح صاحب المفتاح وهمس في اذنها شيئا، طالعت المجلة التي في يده وضحكت ببراءة. اعترفت:

ــــ نعم، كنت متفرجا تعبا.

ــــ ابتسمت بسخرية.

ــــ .....

ــــ وثرثرت مع فتاة لا تعرفها.

ــــ اذهلني اعجابها به.

ــــ وصررت على اسنانك غضبا. اردت ان تمضي. لعنت السذاجة والسطحية وحدقت في الغيوم البيضاء المتشكلة على هيئة طيور تذوب في السماء شيئا فشيئا. سمعت الهمس يتردد والضحكات الغبية ففرحت..

ــــ ألا تكف عن هذا اللغو؟

ــــ انتعش وجهك لأنك رأيته بعيدا وحيدا، يمضي في صحرائه، يجابه الاشباح وحيدا، يخط على الشاطئ كلمات الحب وحيدا، كنت فرحا لأنه يدلي المشنقة في راسه، كنت فرحا لأنه يجابه الموت وأنت تأكل وتسمع، كنت فرحا لأنه وحيد يمضي في صحرائه..

طالع السياح وهو يتفحصون خريطة للمدينة، يشيرون الى المنطقة التجارية ثم الازقة والنهر والكورنيش والجسور. إنهم مغتبطون  بالأسماء صعبة التهجي.

ــــ وبدأ فرحك يخبو حين بدأ الجمع يتغير. يتحول، صرت مهتاجا، لكن النهر يجري الى الامام، الموج يندفع، العيون تتألق، الأنفاس تحترق، الهمس والضحكات البليدة والثرثرة الباردة تنزاح، ويصخب الموج، وتشعر بالعرق والقرف.. لا تستطيع الخروج ولا تستطيع البقاء. ووحدها كانت السماء تخط بالغيم كلماتها العابثة..

قلت:

ــــ انت صاحب خيال واسع.

ــــ حقا؟

ــــ انني لا أكرهه. بل أنا ضد عالمه الشاحب. انه يقدم لنا قفصا ويعلمنا الابجدية.

ــــ فحسب؟

ــــ القتل الغبي كرس هذه الطريقة، هذه مأساتنا.

صمت الآخر وراح يفكر. المرأة تأخذ كتابا آخر. وفي هذه اللحظة اقتحم صبي المكان. كان مفزوعا، يريد مخبأ يختفي فيه. تسرب بسرعة بين السياح، تطلعوا إليه باستغراب، كانت رائحته كريهة. فساروا هنا وهناك عنه. اختفى وراء واجهة عرض الكتب. دخل جندي والقى نظرة حادة على الحضور. توغل بين الزبائن. حدق في النساء دهشاً. شم العطور بلذة لا تخفى. واصل بحثه. تحرك الصبي وراءه متسللا.

أشار السائح الى الصبي. حدق الجندي في وجوه النساء مذهولا وغمغم بلهجة قروية ساخرة. أشار بالكتاب إلى الصبي. تطلع الجندي الى المرأة الشقراء ووقف كتمثال امامها. أشارت إلى الصبي. الذي وصل الباب، لكنه تمعن في عينيها الزرقاوين وتأوه متحسراً. رفعت الكتاب فسقطت صورة على البلاط. صورة بحجم الكف. انتبه الجندي!! استيقظ من نومه على نداء الواجب. دهشت المرأة أيضاً. انحنى الجندي وتناول الصورة. ابتسم عندما رآها. ثم ألقاها في حضن المرأة خجلا. ضحكت. تطلع السياح الى الصورة. ضحكوا جميعا. التفت الجندي وراءه فلم يجد أحدا. سار مرفوع الرأس الى الباب وخرج كملك، كاله...

ــــ ماذا ستفعل، انت في محنة!

ــــ على الرغم من انه صديقنا فعلينا أن نحارب وجهه، صورته.

ــــ يا للحرب!

نهض واقترب من المرأة، لمح الصورة الفاضحة فمشى خجلا نحو الباب. رمق الآخر بود، ثم فتح الباب وانطلق في الشارع. ابتعد عن التجمهر والدخان، وعد أعقاب السجائر والبصقات على الأسفلت. رفع رأسه الى السماء فوجدها قاتمة، وسمع الريح تصفر في الأعالي.

رآه ملتصقا بالجدار، أسند مكنسته على كتفه وانحنى إليها. رفعها بهدوء وتأن، أزال التراب عنها وألصقها.

التفت أمامه فرآه لم يضطرب. امسك مكنسته وصار ينظف الرصيف بلا مبالاة. اقترب منه. لم يعرف كيف يبدأ الحديث. مضى الآخر يكوم الأوراق الخريفية واعقاب السجائر. لم يرفع رأسه وظل مستمرا في عمله.

ــــ ماذا كنت تفعل أيها الرجل؟

ــــ عن أي شيء؟

ــــ هذه الصورة التي ألصقتها؟

ــــ أية صورة؟

ــــ تلك الملصوقة على الجدار!

ــــ دعني انظر جيدا. انني ضعيف البصر. آه، نعم! لقد كانت ساقطة على الأرض فألصقتها.

ــــ ولكن.. أتعرف هذا الرجل؟

ــــ نعم، أعرفه.

جمع كومة الأوراق ووضعها في البرميل.

ــــ انه معلم الموسيقى في حينا، يأتي في بعض الأمسيات ويجمع الأولاد والبنات ويعلمهم الموسيقى حتى ولدي ذهب معهم. هو صبي صغير وذكي. كانوا يتعلمون ويغنون.

ــــ أمتأكد أنه هو ذاته؟

ــــ نعم. ولدي يأخذ دفتره ويغيب ساعة أو ساعتين الا ويعود مدندنا راقصا كعصفور. إلا أنه من بضعة ليال توقفت  الدروس. لا اعرف ما هو السبب. لم نعد نسمع الضحكات والاغاني. بقي ولدي في البيت كئيبا. قال إن المدرس غاب عنهم. وها هي صورته هنا. ماذا حدث أيها السيد؟

ــــ إن هذا المدرس شخص خطر. ولا شك أنه علم الصبية أشياء ممنوعة. راقب ولدك جيدا فقد يلقى بنفسه في النار.

ــــ ربما كان ذلك صحيحا.

ــــ والأفضل أن تمزق هذه الصورة.

ــــ أهو بهذه الخطورة؟

ــــ فكر في الكارثة التي ستحل بابنك الصغير والذكي.

ــــ ولكنه كان هادئا لطيفا. يعلم الصبية بصبر. اختفى منذ ليال فاختفت الالحان والضحكات والاناشيد. عندما كنت اقف عند الدكان رحت اصغي الى الغناء الطفولي وابتسم. اميز حينا صوت ابني لكنه يضيع في الحي. البارحة تجمع الأولاد والبنات لكن المدرس لم يحضر. انتظروه طويلا لكنه لم يحضر. ذهبت إليهم فرأيتهم متجمعين صامتين. من علمهم هذا الهدوء والصمت؟ من خلفهم بهذه الروح الغريبة؟ ابتعدت عن النافذة وتوكأت كهولتي وانا اسير. احسست باني هرم وبليد وبأن هذه المدينة تخنقني. كانت السماء فوقي سوداء كالهم، اين الفرح أيها الصغار؟ واندفع صوت حاد، اندفع بقوة سهم من النار، ثم خبا كأنه غاص في البحر. الأصوات لا تزال مشتتة، تتسرب هنا وتتمطى هناك. أحسست بالسماء تهبط فوقي كعباءة الملك. انني بحاجة الى هواء الحدائق. انني اختنق. وانفجرت غاضباً لكن صوتي ضاع في غمرة الغناء المندفع الى الاعالي. صوت شامل يفتح النوافذ والأبواب ويحتضن الناس.

ابتعد عنه فيما ظل الآخر يتمتم ويكنس الأرض بدأب. أراد أن يعبر الشارع فسمع أحدا يناديه. التفت فرأى جنديا يتقدم نحوه. كان يمسك غدارة بيده، ويسير بهدوء وثقة، ويحمل في عينيه الرغبة في العبث.

  ــــ اسمح لي يا سيدي ينبغي أن افتشك.

  ــــ ولكن سبق لي أن..

  ــــ لا داعي للخوف ان كنت لا تحمل شيئا خطيرا.

  وتغلغلت يده في جيوبه. ثمة محفظة ملأي بالنقود. يطالعها بذهول ثم يعثر على ورقة. يتفحصها بتمعن. خطوط عرجاء تدب على السطور بوهن يبتسم. يرجعها إليه، يحدق في المحفظة بذهول.

  ــــ أنكم تملكون الكثير من النقود يا سيدي. يضع الورقة في جيبه. إنها طفلة صغيرة مشوهة، كتبها تلك الليلة الصيفية الحارة عندما تسرب الندى الى الجدران وجذوع الأشجار. لم يطالعها بتمعن ومضى.

  (ازهرت في نفسه الكلمات وعانق الأشجار العارية. سار  تحت مظلة الندى، تحت سنى النجوم ورسم زهرة أولى. كان الصمت يشتعل في المدينة. تثاءب العسس تحت نافذته لكنه مضى يحاور الصمت والظلام.)، سمع صيحات الجنود وضحكاتهم وقرقعة احذيتهم على اسفلت الشارع. كانت البنادق مرفوعة والقبعات ترمق المدينة بسخرية. (أراد ان يرسم زهرة أخرى. لكن صوتا ناداه من الأسفل. لم يهتم، واصل الكتابة وهو يحث نفسه على التحليق. سمع همسا ينمو تحت نافذته وفجأة رمى حجر على النافذة. سمع ضحكات عابثة تذوب في الظلام. تناثر الزجاج في الغرفة. أطل فلم ير أحدا، بل تناهت اليه غمغمة الصمت وتأوهات الأوراق الخريفية. حدقت فيه السماء المظلمة. احس بسائل لزج فوق وجهه. لم ير أي ضوء في المدينة، نام كل شيء). كان الجنود يصيحون في الشارع. رفعوا قبعاتهم تحية للسياح. شكلوا ممرا عريضا ودعوهم للعبور سار السياح مسرورين. كانت النساء يتطلعن إلى وجوه الجنود بأعجاب. كانت عيونهم الزرقاء تتألق بالفرح. رمق الجنود الصدور والعيون بفضول شديد. كانت المرأة الشقراء تسير الهوينى في نهاية الموكب. تطلعت الى جندي ما ثم اسرعت بالسير. ابتعد السياح عن الجنود وهم يحيونهم بأعجاب. حاول ان يعبر الشارع، من الممر الذي شكله الجنود، لكنهم تجمعوا ثانية وصاحوا في وجهه، اندفعوا أمامه بقوة، تراجع بذعر، تعالت صيحاتهم مجددا، تعثر بقدم ما واندفع الى الوراء بذعر، ترنح فوق الرصيف، واصطدم رأسه بعمود النور. أحس بألم شديد. تناهت إليه ضحكاتهم المفاجئة واللاذعة. (عندما أطل من النافذة لم ير أحدا، وتجمد القلم في يده. احس بسائل لزج فوق وجهه. عندما أشعل النور رأى خيوطاً حمراء تشرحه. الزجاج كان مبعثراً وبراقاً في الغرفة.) كان الألم حاداً في الرأس. لم يستطع أن ينهض. كان الكناس بعيدا. لم تزل المكنسة في يده، ربما لم ير ما حدث. رفع رأسه قليلا فرأى شجرة عارية بقربه، اغصانها فارغة، تتدلى بوهن فوق الرصيف. ابتعد الجنود والضحكات والمارة والسياح والعربات والدخان والثرثرة.

 لم يزل الألم شديداً، واحس بسائل لزج يتسرب من رأسه، كحشرة تدب ببطء. رفع عينيه الى السماء فشاهد الاغصان تتدلى فوقه. السماء زرقاء عميقة وبعيدة. ترنحت ورقة، ربما كانت ورقة أخيرة، اصطدمت بغصن، هبطت نحوه، واستقرت فوق وجهه.

معتقل سافرة

  ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ  ツ 2 – الرمل والياسمين «قصص»، 1982.

❖ «القصص: الفتاة والأمير – علي بابا واللصوص – شجرة الياسمين – العوسج – الوجه – الأرض والسماء – المصباح – نزهة – الصورة – اللقاء –لعبة الرمل– الأحجار– العرائس – الماء والدخان».














المقالات العامة

العناوين المميّزة

الدرب ـ قصةٌ قصـــــــيرةٌ: لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة

إلى أين يسيرُ هذا الطابورُ الدامي الأقدام ؟  لا أثر للقرية أو القصر أو البحر أو الحدائق أو النسمات الشمالية ، تلالٌ من الرملِ وحقلٌ من النخي...