الأحد، 31 أغسطس 2025

الطــوفـــــــــــان ـ قصةٌ قصـــــــيرةٌ: لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة

لن يأتي أحدٌ . هؤلاء الغرباءُ سيعبرون المحيطَ لوحدهم . كلُ الخيوطِ التي القيتها في المياه كي تصطاد شيئاً جاءتك فارغة . اجترْ هذه الوحدةَ المميتة وضاجعْ الريح الساخنة . لم يعدْ ثمة شيءٌ من النبيذ ، إذن أشرْب ودعْ هذا الليل ينجلي فمهما طال البعدُ ، وعربدتْ الرياحُ المجنونة ستجد نفسك مرة أخرى وراء سفينة في صحراء اليم.

كلُ هذه الجزرُ البازغة في الماءِ ربيتها كأولادك ، وهذه الطرقُ الطالعة كالوديان الخضراء نادمتها ولم تسكرك . حيتانٌ صادقتها ، غيومٌ ودعتها ، عواصفٌ مزمجرة قلقلتْ الجبالَ خرجت من عباءتك . .

أقرعْ كؤوسَ الأشباح ، ها قد مات العمرُ هنا ، بعثرته بين القراطيس التي لم يقرأها أحدٌ ، والتحديق في النجومِ اللامبالية ، وعدم النوم وراء الدفة ، أقبض بأصابعك خيوطَ نهارٍ واحد أن تقدر، حتى البحر يكبرُ ، ولم يعد صبياً وديعاً كما كان ، اشتعلَ رأسه زبداً، واستل من خناجرهِ ناراً وبراكين جديدة .

دغدغْ الرأس بالكأس ،  ودع أشباح الغواني يهدهدن وحدتك . علك تنامُ . علك تغرفُ اللذة وتنتشي ، فيزهرُ الشبابُ على أطرافك .

منذ أن ألقت السفينة مراسيَها على الشاطئ وأنت مبحرٌ في العاصفة. صرختَ في نجمٍ: أنظر أنا أقتربُ من الموتِ ولم أفعل شيئاً طوال عمري !

تطلع إليك بود:

ـــ ماذا تقولُ أيها الشيخ ؟ كلُ هذه الأعمالُ الشامخة ولم تفعل شيئاً ؟

ـــ أية أعمال شامخة ؟ !

ـــ هذه الكتب التي صارت دليل كل ربان ، صرتَ الأسد الأخير في قارات الماء !

ـــ كتبٌ ، ورقٌ ، مجرد ورق ، قد يحترقُ ، قد يغرقُ ، قد لايأبه به أحدٌ . أنا ، أنا ماذا قدمتُ لنفسي ، عشة في جلفار ، وامرأة أراها في كل خمس سنين مرة وأولاداً كبروا بدون علمي . . !

ـــ ماذا تريدُ وأنت ما عليه من العمر ؟

ـــ ماذا بي ؟ لا تزال القوة لم تقدح مني . آلاف الشرارات كامنة في خلاياي ، وكل شرارة لمائة حريق . دعني أسبحُ في بحر الحواس ، دعني أرقصُ ، أعزف ، أقبل مليون امرأة على هذا الساحل . بعد عام أو أكثر ستضعوني في القبر كتلة من الحجر . ماذا تريدون أكثر مما أعطيت ؟ فرشتُ لكم المحيط سريراً من الخرائط ، أخرجتُ الوحوشَ والأشباحَ من الجزر ورصفتُ طرقكم بالنجوم ، كلُ بحار يتوغلُ في الماء يتمتمُ باسمي كأنني تعويذة للخير ، ملكتُ المحيط بلا تاج ، وأضخم كتاب لي لا يُستبدل بكأسٍ في أية حانة رخيصةٍ في هذا الساحل المتواطئ مع العواصف والجوع . . ماذا تريدون أكثر ؟ !

صمت نجم . لم تتراجع:

ـــ سأبيعُ كلَ هذا القماشَ والحديد والأصباغَ لتغدو أياماً رائعة .

ـــ ولكن علينا أن نرجعَ بعد شهر !

ـــ سنعودُ حتماً مع الرياح .

وأنطلقت . وضعت أشعارك جانباً واسترجعتْ أبا نواس . فلتعانقك الحاناتُ والصدورُ الواسعة ولتعبق جوانبك بالبخور والسرور . يا إلهي ، ما أطيب لحم السمراوات كأنك توغل في ليلٍ بهيم لتشعشع الأنوارُ في آخره . يرشرشُ ماءُ الشبابِ على رأسك ، تدخل عريساً وتخرجُ مولوداً ، ترقصُ في الغاباتِ وترقبُ الأنهارَ وأنت تحتسي عصارةَ الجذورِ فتخلد في الأغصان والأوراق .

ثم تخلو جيوبكَ من أي شيءٍ تدعو نجماً:

ـــ انتهت النقودُ ماذا سنفعل ؟

ـــ نرجعُ للبلد الذي غادرناه منذ سنين .

ـــ البلد ؟ أوه ، إلى تلك السفن والخيام والصخور والصقور ، ثم الامتداد الأصفر للرمل . . !

ـــ انظرْ هنا كلُ شيءٍ يضجُ بالحياة . . حاناتٌ ، نساءٌ شبهُ عارياتٍ ، غاباتٌ بكرٌ ، دعني أتوغلُ في هذه السعادة الحسية قبل أن يتوارى العمرُ . .

ـــ ولكن سنتحول هنا إلى شحاذين ؟ نحن لا نملك شيئاً سوى السفينة . .

ـــ السفينة ؟ نعم . . نعم . . سوف أبيعها !

ـــ لا ! لا نستطيع ذلك . ليست لك وحدك . معك بحارة ، أنا معك . . هل ستدعنا نهيمُ على هذا الساحل الطويل بلا عمل ؟ !

ـــ ستكون معي يا نجم كظلي ، لكن سأصرفُ البحارة . يشقُ عليَّ ذلك . لكن دعهم يبحثون عن عملٍ آخر .

ـــ لقد أصبحتَ مجنوناً !

نظر إليك البحارةُ باستغراب ورثاء وذابوا في المدن . أما أنت فقد عبدت امرأة جميلة في بيت قرب الغابة . نفضتَ كهولتك وجيوبك . خرجتَ صفر اليدين وأزهار كثيرة تنبت فوق صدرك . أسجدْ للضوء المنبعث من العيون ، للشفاه القرمزية ، وللنبيذ وجوز الهند والفراشات والأطفال يضجون بالضحكات .

تقولُ وأنت تتجلى:

ـــ يخيلُ إليَّ إنني في ملكوت النعيم . في قمةِ الضياءِ الباهرة . لو أن الزمن يكونُ هكذا ، يتوقف فلا يمتلئ الجلدُ بالتجاعيد ، ولا الشعرُ بالبياض ، ولا العين بالإظلام ولا البلدان بالغزاة ، ونتحولُ إلى فتيان ونشربُ ونرقصُ ونغني ونعملُ . . لكان العمرُ جديراً بأن يُعاش . .

يعترض نجمٌ:

ـــ ولكن ماذا نفعلُ الآن ؟ علينا أن نتدبرَ لقمة الغد . .

ـــ آه ، لا تخف. . خبزٌ وبعضُ ثمار غابة وطيور تقع في فخ ، تعيشك سنوات حافلة . الأروع أن تشعر أنك حر . بعيدٌ عن جبال الأمواج الغاضبة والحبال التي تحفر اليد والشمس الحارقة والعرق والدوار وجلود الرجال التي لا تتغير والزرقة التي لا تنتهي والليل الفاحم المدلهم والوحوش التي تنتفضُ في الموج وأعماقك البرية الموحشة .

ـــ سمعتُ إن ثمة سفناً غربية وصلت الشاطئ !

ـــ وماذا تريد ؟

ـــ تبغي الوصولَ إلى الساحل الهندي . إنهم كفارٌ قادمون من الغرب. كادوا يحرقون إحدى المدن التي رفضت دخولهم . لديهم غربان رهيبة . .

نهضتَ . سرتَ في الغرفة . فتحت النافذة . ورأيتَ الليل الأفريقي ينهضُ من فوق المدينة . تتنفس الأكواخُ هواءاً منعشاً وتشرب ضوءاً خافتاً . تصيحُ الديكة فرحة بالفجر وتبدأ غاباتُ الطيور بالغناء والعمل .

جلستَ محدقاً فيه:

ـــ تلك فرصتنا !

ـــ ماذا تقول ؟ ماذا تقصد ؟

ـــ أن نعبر إلى الساحل الآخر ونحرثهُ لهواً وفرحاً . .

ـــ كيف ؟ لقد بعتَ السفينة ، هل تبغي أن نتحول إلى بحارة عند ربابنة آخرين ؟

ـــ لا ، بل عند هؤلاء الغرباء ، سنقدمُ لهم خدمة يسيرة فنحيا بقية العمر في متعة خالدة !

قام نجم مفزوعاً:

ـــ أيها الكهلُ المخرفُ . . ماذا حدث لك ؟ كلما قلتُ إنك استعدتَ شيئاً من صوابك أزددت في العماء . إنك تغوصُ في الوحل وتتصور إنك طائرٌ حرٌ في السماء !

غضبتَ أنت الآخر:

ـــ ماذا بك هل صرتُ تلميذاً لك ؟ هل ننسى ما كنتَ عليه وما أردته مني !

ـــ لا ، لم أنس ، أذكر إنني جئتُ إليك وأنت في (بومك) الجبار ودهشتُ من كثرةِ بحارتك ومجلسك المفروش بجلود الحيوانات والمظلل بسيوف سمك القرش والمضمخ بالعطور ، فتصورتُ إنني في حضرةِ ملكٍ عظيم فانحنيتُ فضحكتَ أنت وقلتَ : تعالْ أيها الولد،  ماذا تبغي من سلطان المياه ؟

ـــ فقلتَ أنك لا تريد سوى أن تكون تلميذاً مطيعاً لرجلٍ أطاعتهُ تياراتُ المحيط . .

ـــ وكم صبرتُ حينذاك كي أفهمك ! انعزلتُ أشهراً طويلة وأنت تنادم قراطيس تكاد أن تغطيك . صار الحبرُ كالمحيط . ثم اندفعتَ بالسفينة العملاقة في جوف المياه ورحتَ تتوقف هنا وهناك . وتكتبَ، وتلقي خيوطاً في البحر ، وتراقبُ نجوماً في السماء بدء الليل وعند الفجر ، تمشي بمحاذاة السواحل ثم تعانق جزراً قصية في أدغال المحيط وعند منابع الثلوج . . يا إلهي ، كم تعلمتُ منك ، وصار البحر ككف يدي ، أقرأ خطوطه وأتنبأُ بمساره . . أستأنستَ الوحشَ وترامت أنصاله في جسدك جروحاً وشيباً ويأساً . . ثم إذا بك تلتفتُ إلى جسدِ الشبابِ الهارب منك فتغدو طفلاً يضجُ بالصياح وألعاب الطفولة تذوبُ في بئر الكهولة العميقة . .

ـــ أتذكر كيف كنتَ تفتح فمك عندما كنتُ أوقف السفينة شهوراً طويلة وأنطلق في مسالك الهند شارباً من ينابيع المعابد والطقوس والمراقص والحانات ، أتلمسُ أهاب المغنيات واغتسل في ينابيعهن. كنتُ أتشرب كلَ شيءٍ في هذه الحياة ، أمتصهُ في ذاتي وأحيا بنوره وناره . تدخلُ أنتَ وتقول لم لا يعود إلى عمله ، السفينة غدت مزرعة للطحالب . ثم إذا بي اندفعُ إلى البحر وأرافق المياه أشهراً طوالاً . وتضجون أنتم بالصياح وتتفتتون من التعب ، ألحفتكم هي المياه والعواصف وأصدقاؤكم هم الحيتان وقروش البحر والأشباح . . حينذاك كنتُ أكتبُ وأكتبُ وأفكر بأراضٍ أخرى بعيدة وخلجان لم ترها عينٌ..

ـــ وها أنت تحضرُ لشطآنك غزاةً جدداً ، هنيئاً لها هؤلاء التجار القساة !

ـــ  وما أدراك !

ـــ ألم تسمع كيف لاحقوا العربَ هناك في المغرب واندفعوا وراءهم بمدافعهم في كلِ مكان ؟ !

ـــ هنا شيءٌ آخر . إنهم بعيدون عن أراضيهم ، مجرد سفن معدودة، تريدُ الوصولَ إلى أبواب السلع ، والعربُ يملكون كلَ هذا المحيط الشاسع ، سفنهم كالجراد فوق الحقول ، فلنستمتع بوقتنا ، ولنعبَ من اللذة والفرح حتى نشبع ولا نشبع ، ولا نخف من الأعاصير البعيدة .

غمغمَ بشيءٍ لم تسمعه ثم سأل:

ـــ ماذا تريدني أن أفعل الآن ؟

ـــ أذهب إلى المدينة التي رسوا فيها وأنصت إلى الأخبار . . ولا تنس ذكري وسيرتي !

غسلت ثوبك وانتظرت ثم جاء الليلُ يتعكزُ على نجومٍ واهنة . اندفع هواءٌ جنوبي ساخن فأيقنتَ أن البحرَ فتح شبابيكه وراح يدعوك .

ملأ الاشرعة بالحب وغمر الشطآن بالقبل . أطلق القواقع من مصائدهِ والأسرار من أمواجه . . ليتك لا تحنُ إلى هذا المجنون المتربع على الكون أشعل بأصابعه الحياة وأشعل قلبك بالعشق . . لتكن هذه الكأس في صحته التي لا تدوم !

تسمعُ خطوات نجم الهادئة الرقيقة ، كأنه يخجل أن يصفعَ الأرضَ بنعالهِ . هذا الغصنُ النابتُ من شواطئ الصخور.

ـــ ليسوا تجاراً فحسب !

ـــ وجهك ينضحُ بالألم ، ماذا بك ؟

ـــ سفنٌ عملاقة لم تشهد لها هذه البحار مثيلاً .

ـــ ماذا يريدون ؟

ـــ أنت تعرفُ ذلك . . أفواهُ مدافعهم فوهات براكين . . سألوا عنك !

نهضتَ من مجلسك . هل جاءت المغامرة ؟ اسمه ، هل وصل إليهم أيضاً ؟ ليس بعيداً أن يفهمه أولئك أكثر من هؤلاء . سيقتلك هذا الصبي قبل أن يتكلم !

ـــ قل ، ماذا قالوا .

يجلسُ بهدوء . ويرفعُ الزجاجة الفارغة .

ـــ ليس هم الذين سألوا عنك بل موظفو الملك . لقد قال الملك لهؤلاء الغرباء أن ثمة رجلاً كهلاً حكيماً هو الوحيد القادر على إيصالكم إلى كنوز الشرق . لقد تاهت سفنهم وأكلتها الرياحُ وتساقطت هنا وترنح رجالها . . تستطيع أن تتركهم حتى يتعفنوا ثم نشتري سفنهم ومدافعهم بأبخس الأثمان . .

ـــ وكيف هم ؟

ـــ لم اقترب منهم . لكن بعضُ الأهالي رأوهم . لقد نزلوا الأسواق للشراء . آه ، كم هم متلهفون ومتساقطون على النعم والفواكه والأخشاب . . كأنهم لم يروا حريراً أو موزاً أو ذهباً . . يشترون شيئاً قليلاً ثم يتطلعون إلى الباقي بنهمٍ وحسرة وحقد . . خاف الأهالي من تلك العيون الزرقاء المجنونة . جرّوا أطفالـَهم من الطرقات . . المدينة كلها خائفة من غضبِ وطمع تلك السفن .

ـــ يا له من ترحيبٍ باردٍ !

ـــ يقال أن ربانهم الماكر قد حبس كثيراً من بحارته خوف اندفاعهم نحو المدينة وسلبها !

ـــ يا لخيالكم المريض !

ـــ وخيالك أنت ! أنت مستعدٌ الآن كما يبدو لكلِ شيءٍ . ثمة أقوالٌ كنتُ أخافُ منها ، أحسبها مجرد هلوسة كهلٍ ثمل . أقوالٌ استعيدها هذه اللحظة بخوفٍ ووجل . أجل . . أنت لم يعد يهمك شيءٌ ، حواسك ودغدغتها بالذة هو الوسواس الذي يسيطر عليك . خائفاً من الموت كصبي ينامُ قبل العيد . جبانٌ يريدُ أن يهربَ من جيشه إلى المواخير . . كهلٌ صبغ شعره ويخطب أبنته !

ـــ من أنت لتكلمني بهذه اللهجة !

ـــ لم يعد يهمك شيءٌ ، مستعدٌ أن تكون باروداً في مدافع البرتغاليين، بصراً لعيونهم العمياء ، أسكتْ ، إنني لم أعد قادراً على احترامك !

صمت فعلاً . لستَ قادراً على الكلام . إنه يرسم خريطة غريبة ، ويقودك إلى بلد الثلوج لتحاصرك الدببة والذئاب القطبية .

لو أنتظرت أياماً فستغدو شحاذاً . إنهم يكرهونك ولا يريدون لك مجداً . انصتْ : رحلتك ستكون عاصفة في التاريخ . قارة تخرجُ من الماء لتمتلئ بالأشجار والثمار . طوفانُ تجارةٍ سينهمر لتزدهر مدنٌ وشطآن .إذن حطم الزجاجة الفارغة لتبدأ رحلة عظيمة !

ـــ إذن سأودعك هنا . يعزُ عليّ أن نفترق بعد سنوات مليئة بالحب .

في الصباح حملت معداتك الصغيرة والخفيفة: الخرائط والكتب وآلات البحر . كان ينظرُ إليك بحرقةٍ عند عتبة الباب . بكى . رأيتَ دموعه تنهمر وعينه تحمر . قلبك يندفُع إليه . .

يقول:

ـــ لا أستطيع أن أتركك لوحدك مع هؤلاء .

تضمهُ بود:

ـــ جعلتَ من هذه الرحلة كارثة قبل أن تبدأ !

معاً تقتربان من السفن . إنها حقاً كتلٌ عملاقة ، أشبه بمدن صغيرة تنسابُ فوق اليم . ثمة صوارٍ كثير فيها . وها هو جيشُ البحارة يتطلع إليك باستغراب: رجلٌ كهلٌ ، مهلهلُ الثياب ، يضع كوفية ضاعت ألوانها ، وتتدلى منه لحية خشنة ، وليس معه أي سلاح ، ويريد أن يقودَ هذه الكوكبة من سفن أوربا إلى الشرق !

أدخلوك على قائدهم . رجلٌ يلبس ملابس غريبة مزركشة . شابٌ ناري العيون . صافحك بقوة . وراح يتمعنُ في أدواتك البسيطة مندهشاً . نادى على آخرين فراحوا يتفحصونها بدورهم . جلبوا لك مترجماً ، وسمعت الربان يقول:

ـــ الآن تبدأ صداقة جديدة بين الشرق والغرب ، وأنت تدشنها أيها الشيخ الجليل !

لم تستطع إلا أن تهتز فرحاً . الأبواق تصدح ، وحماماتٌ في الأعالي ، ثم انفجرت قذيف مدوية في الفضاء . وعلى مرمى النظر راحت المدينة تحتفل باللقاء . اندفع الزنوجُ  في الطرق ورأيتَ النساءَ ذوات الملابس المزهرة الزاهية يرقصن وأغصان الشجر والورد ، وتعالت سحبُ الدخان من الأكواخ والبيوت .

انتفخت الأشرعة بالرياح ، ومددت يدك نحو الشمال . دهش البحارة والربان وأنت تأخذهم بعيداً عن الشرق .

دخلت كبينتك الفخمة . رأيت نجماً يحدقُ في الغابات العذراء القادمة.

ـــ أرأيتَ أن كل شيءٍ يمرُ بسلام ؟ ! وبعد أسابيع سوف نتمرغ على رمال شواطئ الهند ونرتوي من ينابيع لذتها . .

مضى يومان ثم عدلت مسارَ السفن نحو الشرق . امتلأت الأشرعة بهواء المحيط وراحتْ تسبحُ بانسياب نحو الشرق .

كلُ شيءٍ لديهم يثير استغرابك . عالمٌ غريبٌ وجديدٌ يولد . أدوات مختلفة ، أحياءٌ كثيرة تــُصطاد وتــُفحص وتــُرسم . محارٌ يـُفلق ويوضع لحمه في زجاجات , لؤلؤ صغير يثيرُ جدلاً صاخباً ، يشيرون إلى جهاتٍ بعيدة . خرائط كبيرة موضوعة على الحوائط يُرسم عليها المسار . عملهم لا يدل على تجارةٍ فقط . بدأ خوفك .

جلست مع الربان على مائدة العشاء ، طالعك المترجم قائلاً:

ـــ أنت تعرفُ جيداً بلاد الشرق ؟

تمتمت:

ـــ بعض . . الشيء . . !

ـــ يقال إن لديك كتباً عن البحار . هل معك نسخاً منها ؟

ـــ نعم .

ـــ سوف أجلسُ معك لأسجل كلَ ما تعرفه أيضاً .

ـــ ولكن . . لكن لم نتفق على هذا ؟

ـــ كل شيءٍ بثمنه . . لم تخاف ؟ نحن نريدُ أن تحفظ هذه المعلومات الثمينة . أوراقك تندثر هنا . سوف نترجمها ونبقيها مدى الدهر .

وقبل أن تقولَ شيئاً كانت دفاترك بيده لكن استعصى عليه فهم أشعارك .

لا شيء سوى البحر والريح . امتدادٌ أزرق لا متناهٍ . أنت الآن في قبضة أخطبوط ناعم شفاف يلتفُ وكأنه يرقص . أفواهٌ تسأل عن جلفار وأوال . يرصدون كلَ حجر . يسجلون أي نأمة . هل هؤلاء تجار ؟!

عيونُ نجمٍ تطالعك برثاءٍ قاس . لم تستطع أن تبلعَ أكلهم الغريب . تقيأت . هل هو دوار البحر أم دوار السنين ؟

خطفوا كتبك وأدواتك . تستطيع أن تقودهم إلى مملكة الدببة في الجنوب ولكنك مذعور . أيها المتشبث الرهيب بالحياة !

عيونُ نجمٍ تطالعك في المساء . ظلمة تبتلع آهاتك . أخدودٌ عميق تنهارُ فيه ولا حبل ، ليس مجداً ولكنه عار .

تخافُ أن تعلن عن شكوكك . نجمٌ سيرثيك ويقرصك . هل لا بد أن تتعلم الآن من الفتيان ؟ هل ضاع العمر في الماء ولم تعرف شيئاً عن المدن والغزاة ؟ لمَ لمْ تعلم زوايا طلوع الأعداء ؟

إنهم فرقة استطلاع تكتشفُ كلَ شيءٍ . وأنت حارسُ الماء أعطيتهم مفاتيحه . ألا ترى الموجَ يصطخبُ ؟ الآن لا ينفعُ الندمُ ولا البكاءُ . ورأسك يفقد الأجوبة . تدورُ الأشياءُ ، يغدو المحيطُ جبالاً ترتمي على وجهك . تسقطُ . ترى نفسك عند قلعةٍ هرمة على الخليج . عجوزٌ أبيضّ جلدهُ . تتساقطُ عليه الحممُ . لا القلعة تؤويهِ ولا الأشجار التي تحترق .

يا للعنة ! الدوار من جديد . تقيأ نبيذك وأيامك .

لو أن هذا الماء ينبثقُ فجأة عن أرضٍ فتتسربُ إليها أو يبزغ طريقٌ وعرٌ بين الماء ؟ كم يبدو مصيدة بلا حدود . كيف هو كبير وقاس إلى هذه الدرجة ؟ ألا يراعي حق الرفقة ؟

يأتي النهارُ ونجمٌ يدعوك للراحة . « دعني أيها الفتى ، البحر ليس كالبر ، ونفسي الآن تهفو لزجاجة أو امرأة . خائف من هذه الأشرعة المندفعة كالبركان . ».

نجمٌ هو الوحيد الذي يمكنه أن يسري عن نفسك . دعه يخدعك قليلاً، دعه يقولُ إنك مصيب ، وأن الناس سترقصُ فرحاً على الشواطئ .

« أي لقاء هذا وأي مجد ؟ لو كان بإمكاني أن آكل أصابعي أو ألقي بنفسي في المياه ! ».

ترنح على الخشب وحاول أن تهدأ وتنام . أين ذهب الشاطئُ الجميلُ والنبيذ والغاباتُ والحوانيت ؟ لماذا لا ترسم سوى هؤلاء البحارة الغلاظ المدققين في صمتك ؟

ها هي جزيرة كبيرة تدنو . قرى صغيرة وقطعان من الماشية وحقول واسعة . كم مرة جئتَ إليها ورسوتَ. تعرف رجلاً عجوزاً طيباً صاحب حانوت ، وقرية صيادين تتدلى فوق أحجار . هل تسنحُ الفرصة للتسرب إلى بيوتهم الصغيرة المتوارية ؟

تتوقف السفنُ وترى قواربَ صغيرة تنسلُ منها نحو الجزيرة . فجأة ترتجُ السفينة بعنف ، ثمة قطعة نارية انبثقت منها . لعلها تفجرت خطاً . لكن قطعاً أخرى تومضُ وترعدُ في الجو . تحدقُ في الجزيرة المشتعلة . القواربُ تصلُ ويندفعُ البحارة سيلاً مسعوراً من الشهوة المدججة بالسلاح.

تتجمدُ أصابعك على الخشب . ويكفُ لسانك عن الوجود !

إن العقد لم ينقض . إنه ينصُ على أن توصلهم إلى البر الكبير البعيد. هل طلبتَ أن لا تستباح جزيرة أو أن لا تسمع صيحات نساء ينتهكن في عرض الطريق أو أن لا تحمل القوارب قطعان الماعز ونقود الصيادين ؟

انتظر الآن استباحة الساحل الكبير !

نجمٌ يندفعُ صارخاً بين دهشة البحارة . أنت تعلنُ الصمتَ التام . فليتوجهوا أينما يريدون . لم تعد لك علاقة بهم . صافحت تجاراً وليس قراصنة . قدمت قنطرة لغريق فإذا هو تمساح . كنْ مضرباً عن الكلام .

يأتون إليك ، يبعثُ لك الربان . يملأ القطنُ أذنيك وأنت تسمعُ تأوهات البحارة فوق النسوة . طابورٌ طويلٌ ينتظر دوره . خرافٌ تـــُذبح وتسلخ وتتفاقم رائحة الشواء والنبيذ . معدتك تتلوى ألماً . لا تريد سوى أن تذوبَ في الشاطئ . هذه التأوهات ستغدو رفيقة أحلامك . جثتا امرأتين تــُـلقيان في البحر .

هذه المياه كم رأت لصوصاً كثيرين ، قراصنة ، نخاسين ، تجاراً ، سيلاً من البضائع والسيقان والدماء . كنتَ تتطلعُ ببرودٍ إلى العبيد وهم يُصفدون في القاع ويُرسلون إلى بلدك .

ثمة شيء كان يطفو في نفسك وسرعان ما يركزُ في القاع . والآن يندفعُ متفجراً !

يأتون إليك كي تفتح الجهات الموصدة . صمتٌ مطبقٌ . لو صرتَ جثة في هذه اللحظة فلن يهم . لتمت ، شبعت من الحياة . الربانُ يهددُ. ينتزعون نجماً ويربطونه على أحد الصواري . يمزقون ملابسه ، تنهالُ السياطُ الضارية عليه . تأكلُ من جسمه وتشرب الدم.

ـــ ستتكلم أيها العجوز المأجور !

ما الفائدة من الصمت ؟ بضعة أيام وتلوحُ أنوارُ الشاطئ ، نجم قد يموت ، فتى طازجٌ يانعٌ كالزهر . أظافرهُ تكتبُ على الصاري بلون قانٍ . يصرخُ : لا تتكلم ! هذا هو شرفنا الأخير أيها الكهل !

لن أكابر . دفأت الثعبان في صدري . أعطيتهم لحمي لكي يبيعوه مسمماً . لماذا صار النبيذُ دماً والماءُ مستنقعاً وفخاً ؟ أصابعي تجمدت ، ولساني لم يعد ينهض . لن أدعك تموتُ أيها النجم الوحيد في هذا الأفق المظلم حتى لو طاردتني أحجارُ الأرامل وعصي الشيوخ في المدن . لن أدع هذه العظام تتحطم .

لماذا انطفأت الحواسُ فجأة وجف نبعُ الشهوة ؟ دماء النساء هنا قرب قدمك ، وأصواتهن غرقت في المياه . استحالت الجزيرة إلى خيوطِ دخان ، أي أفق  سيكون ؟ سفنٌ ، جيوشٌ قادمة ، زوابعٌ من خشب وحديد ونار ، تنهمر في الجزر والمدن ، سيولٌ تحرثُ الأيدي المتشبثة بالزرع ، أي عالم مجنون ؟ لا بد أن تصل إلى الشاطئ وتقول: تعكز على هذا الشاب الجريح وأصرخ . غير الأوراق لتبدأ السيول.

ــــــــــــــــــــــ ツ 4 – سهرة «قصص»، 1994.



❖ «القصص: السفر – سهرة – قبضة تراب – الطوفان – الأضواء – ليلة رأس السنة – خميس – هذا الجسد لك – هذا الجسد لي – أنا وأمي – الرمل والحجر».






المقالات العامة

العناوين المميّزة

الدرب ـ قصةٌ قصـــــــيرةٌ: لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة

إلى أين يسيرُ هذا الطابورُ الدامي الأقدام ؟  لا أثر للقرية أو القصر أو البحر أو الحدائق أو النسمات الشمالية ، تلالٌ من الرملِ وحقلٌ من النخي...