الجمعة، 29 أغسطس 2025

علي بابا واللصوص ـ قصةٌ قصـــــــيرةٌ: عبـــــــدالله خلــــــــيفة

– 1 –

العطرُ ينبعثُ من الأشجار والأحجار ، يتآلف مع زقزقة الطيور وندى الليل والأضواء المتراقصة على وجه النهر فيغدو كنشوة السكران أو كالحلم الأخضر ، وربما تحول إلى خنجر يقطرُ دماً أو حارة فقراء تحترق .

القصرُ يتألقُ في الليل بالأضواء الملونة وبموسيقى تنبعثُ من قاعة ما كأنها عزفُ ريح تتخلل غابة من النخيل . العزفُ يتوقف الآن ، والأضواء تتغيرُ ، تتحولُ إلى أضواءِ فجرٍ قريب . .

ليتَ الفجرَ يسرعُ بالمجيء . . لكن الفجرَ بعيدٌ . . بعيد ، وهذه الحراسة تعذبني كثيراً . عندما تشرقُ الشمسُ سأتنفسُ بارتياح ، سأعطيهم البندقية ثم أمضي إلى شاي الأختِ اللذيذ وموقدِها المليءِ بالجمر وإلى حكاياتِها الغريبة عن الحارة واللصوص . وربما لا أتوجه إلى المنزل بل أنطلق إلى "القهوة " رأساً . لن أقف هنا حتى لحظة واحدة ، سأجري ، بل سأطير لو استطعت . الوقتُ هنا يمرُ بصعوبة ، كأن عجلات سيارة تدهسُ صدري بكلِ مهلٍ وبطٍ ، فمتى ينبثقُ الفجرُ ويشتعلُ النهارُ بالفرح؟ .

وبدلاً من الدفءِ التافهِ الذي تبعثهُ المصابيحُ قام أحدٌ ما في القصر بإطفاء الأنوار تماماً ، حتى نور عود كبريت واحد لم يبقهِ ، الليلُ أصبحَ دامساً ، وتحولَ إلى كهفٍ أسود قاتم .

إن هؤلاء الأغنياء يسهلون المهمة على اللصوص . فمن يدري ربما تسلل واحدٌ منهم إلى الداخل ، أو ربما عصابة كاملة . أظنُ إنهم لا يخافون اللصوص ، ولكن حين تتم السرقة سيهشمون رأسي أنا وحدي . لأنهض وأراقبَ السور .

الموسيقى تنبعثُ ثانية ، خافة ، ناعمة كقطةٍ صغيرة أو طفلٍ يبتسم في مهده .

لا تزال الأنوارُ غائبة ، فكأن أحداً يدغدغُ هذا الشبحَ الأسود فيجعله يصدرُ الموسيقى الحالمة . .

 من يجرؤ على الاقتراب من قصر الخليفة أمير المؤمنين . هيا لأعود إلى مقعدي وأريحَ ظهري قليلاً وأحلمُ بالصباح .  .

– 2 –

أمس قمتُ بزيارةٍ سرية إلى الغابةِ المتلحفةِ بالهدوءِ والظلام . تناولتُ بندقيتي وسرتُ بوجلٍ بين الينابيع والجداول والأشجار . رأيتُ النهرَ عن قرب . إن ماءهُ أخضر غريب . كأن السادة عذبوا الأشجارَ طويلاً حتى بكتْ هذا الماء . شربتُ من النهر ، ولقد خيل إليّ إني أرتفعُ في الهواء حتى تحولتُ إلى عصفورٍ يرفرفُ سعيداً بين الأشجار . رقصتُ في قلبِ النشوة والفرح . هكذا حضرتْ فجأة . إنها تهجمُ عليّ أثناء حراستي ، أما عندما أذهبُ إليها أو ألقي بنفسي في السوق فإنها تنامُ باطمئنان . هنا في القصر تنبعثُ من داخلي كالشوك . إننا نسميها واحة الأزهار . هي عبارة عن مجموعةٍ كثيفةٍ من أكواخٍ أقيمت – على عجلٍ – من حجرٍ وسعفٍ وأخشاب وجذوع أشجار وصفائح رقيقة من المعدن . طلعتْ كالفطريات في أرضٍ سبخة بعد حريقٍ شبَّ في حارتنا القديمة .

فكرتُ فيها كأنها زوجة مصابة بالسل أو بالسرطان ولكنها طلعتْ إليّ بأطفالِها وضجيجهم العنيف ، بمستنقعاتها . بنسائها الحوامل . بأختي العانس . بمصابيحها اليدوية وكلابها . الجميعُ اتجه نحوي . الجميعُ تحاوطني . عيونُ النساءِ والكلابِ تلمع .  الأطفالُ أبرزوا سكاكينهم . اللصوص  حملوا مشاعلهم .الجميعُ ضدي . الجميع حولي . إنهم يتقدمون ببطءٍ . إنهم يصرخون بعنفٍ ، ودفعة واحدة ، بالنار والسكاكين والأظافر ، يهجمون عليّ . أمسكُ شجرة وأخفي رأسي . أدفنُ عيوني في الظلام وأرهفُ سمعي للأصوات . إني أصرخُ : أيتها الأشباح دعيني في سلام ! لكن الغابة هادئة ، وثمة عصابة صغيرة من العصافير تغني ، والجدولُ القريبُ مني يسيرُ كقاربٍ من ورقٍ أطلقهُ طفلٌ . لا نساءَ حواملَ ، ولا أولادَ يمسكون السكاكين ، ولا كلابَ شرسة .

أنطلقُ ثانية وطنينُ الحلم يئزُ في رأسي كطائرةٍ حربية . سأشربُ الماء / الخمرة ثم أغني لليلِ وللنجومِ ولهذا العطر الذي يتضوعُ من النخلةِ والحجر . لن أهتم بالواحة ، سأبتعدُ عنها يوماً ما ، لن أعيشَ عمري كله حارساً أو عاطلاً . سأكتشفُ كنزاً رائعاً ، أو أتحولُ إلى لصٍ من اللصوص . فهل أقدرُ على هذا ؟ وقفتُ ورحتُ أستنشق الهواءَ بملءِ رئتي . سمعتُ ضجة في مكانٍ قصي . إنها قادمة من الشرق ، من جوفِ الغابةِ الكبير . أرهفتُ سمعي جيداً ، إنها ليست قريبة ، غير إني سأمضي إليها . انطلقتُ في دروبً ضيقةٍ متعرجةٍ بين الأشجار . أنوارٌ خفية تتضحُ شيئاً فشيئاً . إنها تقولُ لي : اقتربْ . إنها تدعوني كعاشقةٍ أضنتها الأشواق . الأصواتُ تزدادُ انتشاراً . إنني اقتربُ من الضجةِ غير أني لا أراها . أنا في دائرة الصخبِ لكنني ممنوعٌ من لمسه . إن مجموعة كثيفة من الأشجار تحجبُ صخوراً عملاقة صُفت على شكلِ دائرة . صخورٌ التحمت بعضها بالبعض وكونتْ مسرحاً مذهلاً . إنه مسرحٌ من السحر . إن الضجة تشكلُ غناءً عجيباً يندفعُ من الداخلِ كقصفِ الرعود . إن جوقة تغني كقبيلة وحشية تحي عرساً دموياً . إن النساءَ يصرخن بحدةٍ ويخاطبن سماءً تطلقُ حمماً . بحثتُ عن كوةٍ في الجدار العملاق . رأيتُ الصخورَ متلاحمة بشكل لا يسمح لذبابة بالمرور. لم أيأس . واصلتُ البحثَ . كانت رغبة نارية في أحشائي تدفعني لرؤية عري النساء . رؤية هذه الأجساد الرائعة التي حرمتُ منها عقوداً . وأخيراً وجدت كوة في الجدار . اندفعتُ إليها بكلِ رغبة . لكن ما كدتُ أدخل وجهي حتى امتلأ أنفي وعيني وفمي بالتراب والغبار . رحتُ أعطس بشدة . الغناء ظل يتعالى ويندفعُ كالخيول الوحشية غير مكترثٍ بي . ولم يتوقفْ عطسي إلا عندما ضحكتُ وضحكتُ حتى كدتُ اتقيأ . ابتعدتُ وأنا أنظرُ إلى الخلف وأقول : يا إلهي ، لقد أقاموا دائرة من المتعة واللذة ، وتركوا الحراس وأهل الواحة ، في الخارج ، تحت الريح والمطر .

– 3 –

رأيتُ نفسي – فيما يرى النائم – منطلقاً في صحراء لا آخر لها . كنتُ بلا زاد ولا ماء . الأرضُ من تحتي ملتهبة مثل الجمر ، والشمسُ من فوقي تنورٌ هائلٌ يرسل ألسنة من النيران ، والرياح من حولي أعاصير طالعة من جوفِ الجحيم . رحتُ أركضُ وأركضُ بلا هدف . سمعتُ احدهم يتكلمُ بصوتٍ ساخرٍ ، لم أتبين كلماته . حاولتُ أن أعثر عليه فلم أر شيئاً . واصلتُ ركضي بلا توقف . شعرتُ بالأعياء يقطعني قطعة قطعة . عندما وجهتُ بصري صوب الشرق رأيتُ جبلاً شاهقاً يبدو كالعملاق الذي يلمسُ السماءَ بيده . أمدتني رؤيته بطاقةٍ كبيرة ، فواصلتُ الركضَ والغبارُ يملأ وجهي . إن الرجلَ يواصلُ حديثه . إنه يخاطبني بلهجةٍ ساخرة . يسألني : لم العجلة ؟ لا أستطيع أن أجيبهُ فيواصل قوله : لن تجد الكنز . لن تجد الذهب . ستظل طوال عمرك كالعنكبوت العجوز التي لا تصيد شيئاً . لا أهتمُ بكلماتهِ ، ولا اهتم إلا بهذه الريح االتي تصفعُ وجهي وهي تضحكُ بهستيريا ، وبهذه الشمس التي أخذت تمدُ أيديها وتشويني . أخيراً ، وكياني كله مفتت ، وقعتُ تحت قدمي الجبل . إنه جبلٌ هائلٌ وله وجهٌ مقطبٌ بشع . كانت على أكتافهِ بعضُ النور التي راحت تحدقُ فيّ بدهشة وحذر . بين قدمي الجبل اسقبلني كهفٌ مضيءٌ وباردٌ . كأنه غرفة جميلة أُعدت لي . ولم يكن غرفة بل كان كنزاً مليئاً بسبائك الذهب والأحجار الكريمة . قطعٌ صغيرة تتلألأ بلون البنفسج والورد . معدنٌ نفيسٌ يشعُ بوهج الشمس ودفء الربيع . إنني أسرع إلى ملءِ جيوبي منه . أضعهُ في أكياس وصناديق . أضعهُ بين ثيابي وجسمي . أدفنُ الباقي في التراب . أهيلُ عليه الرمل . أخبئ الأكياسَ والصناديق بين الصخور . إنني أعملُ بعشرات الأيدي . لكن النسور في الأعالي ما تزال تنظرُ إليّ بدهشةٍ وحذرٍ ووجهُ الجبل لا يزال مقطباً وبشعاً .

في رحلةِ العودة تغيرُ كلُ شيء . رحلتْ الشمسُ وحلَّ القمر . سار القمرُ معي وهو يروي لي حكاياته الغريبة مع العشاق . داعبَ الرملُ أقدامي وابتسم لخطواتي المثقلة . اختفت الريحُ الجحيمية وسمعتُ صهيلـَها الوحشي خلف الجبل البعيد . قال القمرُ إنه منذ زمنٍ بعيد لم يقابل عاشقاً خائباً مثلي وأبدى تعجبه الشديد لأنني عشتُ فوق الأربعين دون أن أحب امرأة ما . وحين سألني عن مهنتي السابقة اخبرته إنني كنتُ أصنع الأحلام الرمادية والطائرات الورقية ، غير إنني الآن طلقتُ كلَ ذلك واكتشفتُ طريقي . ذعر القمرُ لا لكلماتي بل للصوص الذين احاطوا بي من كلِ جهةٍ . ظهروا فجأة كالموتِ يقتحمُ مهدَ الطفل . امتدت أيديهم إلى كل جيوبي . انتزعوا القطعَ الذهبية ومزقوا ثيابي . تناثرت الجواهر على الرمل فضحك اللصوص وبانت أسنانهم الكبيرة المشوهة . أضاء القمرُ الدائرة فبان الجميع ، ولما رأيتُ زعيمهم دب الهلعُ في صدري !

– 4 –

عاد النورُ إلى القصر وتلاشتْ الموسيقى . حل هدوءٌ رائعٌ في الكون ، لا امرأة تشقُ صدرَها ، ولا آلة تتلوى كأفعى مطلقة فحيحها . أستطيعُ أن أحرسَ بهدوءٍ وأحلم بكنز عظيم . لن يضايقوني بضجتهم الصاخبة . سينامون الآن بعد أن شبعوا من اللذة ، وربما سيواصلونها في غرفهم الدافئة . آه ، إنني أرغبُ في الاستلقاء على فراشي ، أتمنى أن ينبثق الفجر ، وأن تطلع الشمسُ وتكنسُ الظلام . عندئذٍ سوف أعطيهم بندقيتي واندفعُ إلى البيت ، سأجدُ أختي هناك بالتأكيد ، تغسلُ أو تعدُ الشاي أو تثرثر مع امرأة من الجيران . بالطبع لن تكونَ المرأة جميلة ولا حتى  مقبولة . اختي أختصت بصداقة العجائز . وهكذا لن أرى امرأة أتفاءل بوجهها المشرق .  وهكذا أيضاً ستكررُ أختي سؤالها : متى ستتزوج يا علي ، أيها العجوز الخائب ؟ بالطبع لن أجيبها بشيءٍ . سأتناولُ الأبريق وأصبُ لنفسي بعضَ الشاي ثم أضعُ يدي على المدفأة وأنا أستمعُ إلى حوارهما الذي انقطعَ لبعض الوقت . بعدئذٍ سأخرجُ إلى الواحة . سأحاولُ أن أتخذ لنفسي طريقاً ابتعدُ فيه عن الأولاد . سأحاولُ بكلِ ما أوتيتُ من عقلٍ وخيال أن أخترقَ الحارة كالشبح ، أو كالثائر المتخفي . ومن المؤكد إنني لن أستطيعَ ، ستظهرُ عصابة الأولاد في هذا الزقاق أو ذاك ، ستطلعُ كالسحرة ، كالشياطين . ستنشقُ الأرضُ وتخرجهم ، إنهم يظهرون فرقة تضجُ بالهتافِ والصياح ( علي بابا . . علي بابا . . خبأ الكنز في الخرابة ! ) . كيف ابتكروا لي هذا الأسم أولادُ الأفاعي ! كيف عرفوا ما بداخلي هؤلاء العفاريت ! لن أقذفهم بالحجارةِ ، ولن أجري خلفهم كالمجنون ، سأمضي وأنا أصرُ على أسناني وألعنُ كلَ أجدادهم !


– 5 –

رأيتُ في المنام إنني قطعتُ الصحراء كلها بلا مال أو ذهب . عدتُ فقيراً كما كنتُ طوال عمري ، والأسوأ من ذلك إني أصبحتُ ممزق الثياب ، ذا لحية كثة وأحملُ في بطني معدة فارغة . رأيتُ في الأفقِ نقطة مضيئة ، نقطة تتلألأ بالأنوار ، وتبشرُ بطعامٍ وماءٍ ومرقد . سرتُ وواصلتُ السير حتى طلع الصباحُ ولم تزلْ المدينة بعيدة . . بعيدة كالكنزِ ، كالحبِ ، كالحياة السعيدة . وجاءَ الليلُ مرة أخرى . القمرُ اختفى وذابت حكاياته الغريبة . وبقي الجوعُ مجموعة من الثعابين تعضُ أحشائي بلا توقف . بقيت المدينة بقعة من الضوءِ البهيج يتسللُ إلى الصحراء الميتة ، ولم أتوقفْ ، واصلتُ السيرَ حتى جاء الصباحُ وغدتْ المدينة على مرمى حجر . منيتُ نفسي بقطعةٍ من الخبز وشريحة من اللحم وكأس من النبيذ . سرتُ في شوارعها فرأيتُ المئات من أمثالي ، بحثتُ في القمامة عن كسرة خبز فلم أعثر إلا على نصفِ تفاحة متعفن . أكلته بسرعة وواصلتُ بحثي . سرتُ في الأسواق والحارات ، تسكعتُ قرب المساجد والخمارات ، سألتُ الفقراءَ وتسللتُ إلى بيوتِ الأغنياء ، فلم أجدْ لا الطعامَ ولا المنام ، بل أُشبعُ ضرباً وطرداً . وبينما أنا هكذا إذا بسيارةٍ فارهةٍ تنطلقُ في الشارع كأنها باخرة عظيمة تمخرُ عبابَ البحر . وإذا بي أرى فيها زعيم عصابة اللصوص التي داهمتني في الصحراء وانتزعتْ ذهبي كله . رأيتُ بعضَ الناس ينهض على عجلٍ ويحي الرجل بإجلال وإكبار . ورأيتُ البعضَ الآخر يبصقُ ويطلقُ الشتائمَ في الهواء . لم اهتم بهم ، بل اندفعتُ خلف السيارة كالغريق وجد اليد التي تمتدُ إليه ، أو بالأحرى كالمتهم بجريمةِ قتل وجد القاتلَ الحقيقي يسيرُ أمامه باطمئنان . جريتُ وراء ذلك الهيكل الحديدي ، نسيتُ الجوعَ والآلامَ والأخطار . أحدقُ في السيارة التي أخذتْ تبتعدُ شيئاً فشيئاً . تطلع إليّ الناسُ باستغرابٍ بالغ . قال أحدهم إني مجنون وقال آخر إني ثائر . لم اهتم بهم بل اندفعتُ خلف السيارة ثانية ، اندفعتُ باقصى ما لدي من قوةٍ وبآخر ما بقي فيّ من نفس . استطعتُ أن ألحق بها ، وجدتها تغيبُ في بناءٍ كبير تحفُ به الأشجار ويلمعُ الذهب . عندما وصلتُ أستقبلني خادمٌ كبيرُ السن . قال لي إن دخولَ الشحاذين إلى القصر ممنوع ، ولكني إذا أردتُ عملاً يستطيعُ أن يوفرهُ لي . قلتُ له إنني صاحبُ حق ، وذاك الرجلُ صاحبُ هذا القصر ، على ما يبدو ، قد سرقَ ذهبي وجواهري . إنه وجماعته اللصوص سرقوا كنزي الذي اكتشفتهُ في الصحراء . الرجلُ العجوزُ لم يأخذْ الموضوعَ مأخذ الجد ، وحذرني بأن أية كلمة جارحة ضد صاحب القصر تعرضني لعقوبة حدها الأدنى عشر سنوات ، فهذا الرجلُ هو الخليفة نفسه !

جلستُ على الترابِ يائساً ، وشعرتُ بجوعي الشديد ثانية ، تأملتُ القبة المذهبة فرأيتها كنصفِ التفاحة المتعفن . ولكنه بعيد أن يُؤكل . قلتُ للرجلِ العجوزِ ثانية : إنني بحاجةٍ إلى عمل . ابتسمَ بخبثٍ ثم أحضر إلي بندقية قديمة تلمعُ كوجههِ المصقولِ جيداً . اعطاني إياها ، فسألته : وما هو عملي يا سيدي ؟ فأشار إلى جماعةٍ من الناس كانت تقتربُ من القصر وهي تصرخُ وتهتفُ . قال لي : أطلقْ عليها . ذعرتُ . نظرتُ  إلى وجههِ بخوفٍ وهلعٍ وألم . قال ثانية : أطلقْ عليها . أمسكتُ البندقية جيداً ويداي ترتعشان من الخوفِ والجوع ، نظرتُ إليه فصرخَ بي : أطلقْ ولا تتردد . تطلعتُ إلى الناس . وجدت أطفال الحي يصيحون فيّ ( علي بابا . . علي بابا ! ) ، رأيتُ أختي تصرخُ بي ( لم لا تتزوج أيها العجوز النتن ؟ ) رأيتهم يتقدمون . . فأطلقت . .


– 6 –

هدأ القصرُ تماماً ، وحلَّ سكونٌ عميقٌ إلا في الغابةِ التي ظلتْ أشجارُها تتحدثُ بصوتٍ مسموع . وبدأتْ بعضُ الأضواءِ تنطفئ ، فيما بقيت أنوارُ المدينة البعيدة تتلألأ كالأحلامِ السعيدة . اتحه القصرُ إلى فراشهِ كي يعبَ من النوم حتى الضحى ، بينما بقي فراشي بعيداً ، وفجري الرائع لم تظهر بشائرهُ بعد .

سأظلُ هنا في البردِ القارس حتى تظهر محبوبتي الجميلة : الشمسُ ، وعندئذٍ سوف أسلمهم بندقيتي وأنطلقُ إلى الواحة . سوف أسرعُ إلى الأخت لسماعِ ثرثرتها المحببة . ولكن هل ستجد الواحة ؟

يا لفظاعةِ هذا السؤال ! أجل ، قد انطلق إلى الواحة فأجدها قد احترقت ، في ذلك الصباح الخانق من أيام الصيف ، حينما توجهتُ إلى حارتنا القديمة رأيتُ سحابة عظيمة من الدخان كالشيطان الشرير يحومُ فوق سمائنا . لقد سرتْ فيّ خواطرُ سوداء وارتعدتْ فرائصي ، وسرتُ وأنا لا أرى شيئاً سوى هذا الدخان الملعون . سرتُ بسرعة لم أشعر بجسمي الذي تفتت ، وأصابعي التي تمزقت ، كنتُ أحاولُ أن أصلَ مهما كان الثمن ، علني انقذ بقية حاجياتي وأموالي . لقد تذكرتُ ذهب أختي القليل الذي جمعتهُ من الغسل والطحن والطبخ فهل سيذهب هو الآخر إلى الضياع ؟ أركضُ بأقصى ما لدي من سرعةٍ وقوةٍ ويظلُ الحي يلوحُ أمامي ويبتعد عني . إنني لا أسمع أبواق سيارات الأطفاء أو الأسعاف ، إن الحيَّ كله عبارة عن سحابة من الدخان والنيران . إنه يموجُ بكتلِ البشر الذي يحملون الأغراضَ أو يحاولون إطفاء النار أو مساعدة النساء والمصابين . ذهلتُ من الصراخ والبكاء وفحيح النيران وأصوات الأشياء التي تنفجر . شققتُ طريقاً وسط الفوضى والخراب . كنتُ أتلهفُ لرؤية منزلنا ولرؤية أختي . ورغم إنه يقعُ في قلب العاصفة إلا أنني شعرتُ بأملٍ غامضٍ في أن أراه وقد انقذته السماءُ من الموت . ولم أنتبه إلا وأنا أمام المنزل ، أو أمام كومةٍ كبيرةٍ من الرماد والأحجار السوداء التي يتصاعدُ منها الدخانُ والوهجُ ورائحةُ الأرضِ المشوية والأشياء المحترقة .

إنه طعمٌ خاصٌ ومذاقٌ غريبٌ للنار وللبيتِ الذي تلاشى فجأة . تذكرتُ أختي . تركتُ كلَ شيءٍ وبحثتُ عنها . بين كومةٍ كبيرةٍ من بقايا المنزل وجدتها . كانت تضعُ يدَها تحت خدها وتبكي . رأيتها وهي ذاهلة محمرة العينين صفراء الوجه . ولما تنبهت إليَّ ضجتْ بالبكاء والصياح ( أموالك يا أخي . . ذهبي . . ضاع كله ! ! ) .


– 7 –

صمتتْ كلُ الأشياءِ في المكان ، حتى الشجر توقف برهة طويلة عن الكلام . غرق القصرُ في النوم ، وماتت أضواءُ المدينة البعيدة ، واقفرت الطرقات . ولم يبقَ ساهراً سوى نجمة أو نجمتين . . وبقيتُ وحدي في هذا المكان يقظاً وبردان وشاهراً سلاحي . بعد قليل قد يبزغُ الفجرُ وربما يمتدُ الليل طويلاً . في الصباح أكونُ قد انهيت واجبي ، وأسرعتُ متوجهاً إلى الواحة . لا أظنُ أنها ستحترق ، ستبقى وسوف تصبح شيئاً آخر ، أروع وأجمل . سأتجهُ إليها ثم أتغلغلُ في طرقٍ ملتوية متجنباً الأطفال . ستبقى واحتنا . . وأنا سوف أتزوج وأنجب أطفالاً أشقياء يتربصون بمن يمر ويكشفون أحلامه . ستبقى . . أفٍ ألا تنتهي أيها الليل الطويل ؟ لكن ما هذا ؟ لقد غفلتُ عن هذه الأشياء الخطيرة . . إنهم آلاف من الأشخاص يزحفون نحو القصر . آلاف المشاعل تضيءُ هنا وهناك وكأنها أعلامٌ دامية . زحفٌ صامتٌ منظمٌ يهددني بالموت ويهدد القصر بالسلب والحرق . من أين طلع هذا الجيش المخيف ؟ لا شك إنهم أعداء أقوياء تسللوا إلى مملكتنا . يا رب ، ماذا أفعل ؟ ما الذي تستطيعُ هذه البندقية أن تقومَ به أمام هذا البحر الزاخر من النيران والبشر ؟ إنهم يقتربون شيئاً فشيئاً . مدٌ ينمو قليلاً قليلاً . عما قريب سيجتاح الطوفانُ كلَ شيءٍ . إنهم ينهضون ، يندفعون كتلاً متراصة نحو القصر ، يهتفون ويصرخون . ماذا يريدُ هؤلاء الأعداء ؟ إن الأضواءَ التي أشعلوها تفضحهم جيداً . ولكن أليس هؤلاء هم سكان الواحة ذاتها ؟ كيف تجمعوا هكذا وتحولوا إلى غضبٍ جامح . لو كنتُ حتى وحدي سأطلقُ النار . سأرفعُ بندقيتي وأصوب جيداً . لا يهمني أحداً منهم . إنهم يقتربون ويقتربون . وجوههم أعرفها ، حتى الأطفال بينهم . وهذه أختي أيضاً . البندقية تهتزُ في يدي . لا أعرفُ كيف أطلقُ النار . النار ! حريقٌ آخر . . . ! البندقية تهوى من يدي . لكن البشر يتلاشون ، والأضواءُ تختفي ، والضجيجُ يذوبُ في السكون . لا أحدَ هناك مطلقاً . والصمتُ يخيم على كل شيء . إن أحلامي لا تنتهي ، ولن ارتاح إلا عندما ينهضُ الفجر . فمتى ينتهي هذا الليلُ الطويلُ ؟ متى يبزغُ الفجرُ الرائع ؟ إنه بعيد . . بعيد . وعلي أن أظل هنا منتهباً يقظاً ، فقد يأتي جيشٌ مرعبٌ حقيقي . قد يطلع سكانُ واحة الأزهار هنا كالدمار ، عليّ أن أراقب مجيئهم المخيف ، وأمسك بندقيتي جيداً . أتطلع إلى القصر ، إلى القبة المذهبة ، الغرف ، الردهات ، القاعات ، الغابة ، أتطلعُ إليها ورعشة غريبة تسري في بدني كله وشفتاي تتمتمان : متى ينتهي هذا الليل الطويل ؟

ـــــــــــــــــــــــــــ ツ 2 – الرمل والياسمين «قصص»، 1982.


❖ «القصص: الفتاة والأمير – علي بابا واللصوص – شجرة الياسمين – العوسج – الوجه – الأرض والسماء – المصباح – نزهة – الصورة – اللقاء –لعبة الرمل– الأحجار– العرائس – الماء والدخان».












المقالات العامة

العناوين المميّزة

الدرب ـ قصةٌ قصـــــــيرةٌ: لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة

إلى أين يسيرُ هذا الطابورُ الدامي الأقدام ؟  لا أثر للقرية أو القصر أو البحر أو الحدائق أو النسمات الشمالية ، تلالٌ من الرملِ وحقلٌ من النخي...