الخميس، 28 أغسطس 2025

لحن الشتاء ـ قصةٌ قصـــــــيرةٌ : عبـــــــدالله خلــــــــيفة

تطلع من النافذة بانشداه، الحي كما اعتاده. الدكان رجل أصفر يطوي يديه على صدره. الرجال سلع متكدسة تلعب الورق وتدخن. واللحن الحزين، القاسي، الحالم، الدافئ غائب صاحبه. أين العازف؟ هل هو مختف في أحد المنازل، يضج باللحن حتى يسمعك إياه؟ أم أنه يقف تحت نافذة بعيدة مغنياً لحبيبته كما كان يفعل؟

    لا أحد يعزف في الطريق، ومع هذا فاللحن ينبعث من جهة ما، وينطلق إلى البيوت والأشجار والناس، يهزها، يجرحها، يسيل دماءها، فينطلق الحزن والأسى والعذاب في الطرقات، رجالاً مغبري الوجوه، عائدين من حروب بلا نصر.

    اللحن رجل مجنون، منطلق في الطرقات، يكلم الجدران والنوافذ. اللحن خناجر تنغرز في عظامك بلا حساب.

    زوجتك تتطلع إليك. عيناها تنبئان بانفجار قريب.

    – ماذا حدث يا خالد، هل تنتظر أحداً؟

    لم تجب بشيء. الزوجة قنبلة في الشكل والوظيفة.

    ــ ما بك هل حدث شيء؟

    ما الذي سوف يحدث يا امرأة الحلوى والحلى. لا جديد تحت سقف بيتك. ولكن هذا اللحن يذكرني بأيام قديمة. ليتها لا تعود بأطيافها، بأشباحها، بلعنتها.

    الأطفال يضجون بالضحك. الفيلم التلفزيوني يروي عن بطل لا يقهر، دوّخ المدينة الصغيرة بمسدسه العجيب، ورصاصاته التي لا تخطئ. لم تجدِ كلماتك في تثقيفهم. إنهم يعشقون هذه المناظر. تربوا على يد أمهم.

    ــ قلت مائة مرة اني لا أحب هذا الضجيج.

    الأطفال لا يتطلعون إليك. لا فائدة إنهم مندمجون مع الفيلم.

    اللحن لم يزل. إنه الآن يعوي ككلب مضروب برصاصات عند الفجر. إنه الآن مواء قطة أخذوا صغارها، وألقوها في الشارع. مبدع اللحن تعرفه. لكنك لا تراه، غاب عن عينيك سبع سنين، سبع سنين قبع خلف الجدران. لا رسائل ولا تحيات. هل تغير شكله؟ بودك لو تراه. لو تخاطبه لو تجلس معه. لو يعزف لك لحنه المفضل. لحن الشتاء الطويل. لحن الانتظار الأبدي.

    زوجتك تراقبك من خلف رموشها السوداء الطويلة. ها هي تضع مجهرها. وتدقق في تقاطيع وجهك، تشعر بأنك تغيرت الليلة، وهي لم تعتد التغيير. تكرهه من أعماقها. تتساءل في ذاتها “كيف تجرأ على تغيير خط سيره الليلة”. أنت قطار ولا بد أن تسير فوق قضبانك الحديدية وفي التغيير ذهاب للسمنة والسيارة والثلاجة الخ… أنت كوكبها ويجب أن تدور في فلكها دوما.

    تناول الصورة من المجلد الكبير. صورة صفراء تلاشت أطرافها. ها أنتم ثلاثتكم. هو بآلته الموسيقية. وأنت تتوسطهما والثالث يتطلع إلى الأفق البعيد، فكأنه غائب عنكما. أين هما الآن؟

    – نحن ثلاثة رجال نسبح في تيار واحد، نصارع الأمواج، ونصارع أنفسنا، نحاول الوصول إلى المصب، والمصب بعيد بعيد، قد لا نراه، قد لا نلمسه، قد نقترب منه ولكننا ننتهي في آخر لحظة، قد نصل إليه ولكن نضل عنه..

    – ولكن يا أحمد نحن لم نعمل من أجل أن لا نرى هدفنا.

    – يجب ألا تفكر بهذه الصورة. عملنا يعني إنكار الذات.

    كنتم ثلاثة. طالع وجه الموسيقي. يبتسم كطفل. ابتسامة طفل لضيف عزيز. إن عقله مملوء بالنوتات الموسيقية، وأعصابه وأعضاءه تتفجر نشاطاً، كما يتفجر الينبوع ماء عذباً، أين أنت الآن؟ بين أربعة جدران، في نظير معلومات قليلة، يحضر لك فتى من السجن، تحن معه إلى الدنيا الواسعة. وتتذكر معه الفتيات الجميلات اللاتي غازلتهن. أنت رجل في صحراء أضاع قافلته، وقادته الزوابع إلى أكل الرمل والأشواك. أنت بحار ألقي من سفينته ولجأ إلى صخرة أخذت المياه تغطيها شيئاً فشيئاً.

   لكن أحمد عملاق لا يهدأ. من سجن إلى سجن. من إضراب إلى إضراب. عاش حياته يردد كلمات الحرية والعدالة. دون حياة روحية حقيقية، آلة تعمل من أجل الآخرين، سيارة تنقل الناس من مكان إلى آخر، دون أن يدفعوا لها تذاكر الركوب.

    – حياتي أردت أن تكون بهذه الصورة. عمل لا يهدأ لتحويل العالم.

    – ولكنك في أحيان تبكي. لماذا؟

    – هذه لحظات ضعفي، في هذه اللحظات تهجم عليّ رغبة وحشية تحاكمني. إنها تذكرني بالأيام التي أضعتها دون سفر، في الكتب التي أكلتها دون أن أحصل على شهادة، في فرص العناق والقبل التي لم أنتهزها، وقد أستمر عدة أيام أتجول حزيناً في الطرقات، ألمس الأشجار وأرنو إلى الأفق، لكن قوة ما تنقض فجأة وتحملني إلى الملايين من البشر الجائعين العاملين فلا أرى عندئذ سو الرايات والسجون.

    – أنت آلة وإسماعيل شاهد على هذا.

    – أنت وإسماعيل تمثلان لحظة ضعفي.

    اللحن لا يهدأ. ينهض حاملاً إليك غابات مزروعة بالحزن والغياب. مياه رقراقة تنطلق في أرض خضراء. ويخفت اللحن فجأة، ثم يستحيل إلى صوت امرأة تولول، تسمعها تشق جيوبها وتدق الأرض بقدميها، الغابات تحترق، والمياه الرقراقة تملؤها الجثث والدماء.

    إسماعيل وجهه وجه فأر. إنه يبتسم بتفاؤل، ومع هذا كان ينقصه الصبر والصمود. لكنه دفع ضريبة من عمره هناك. أما أنت فماذا دفعت؟

    تناول الصورة ودسها في جيبه، قالت زوجته:

    – ماذا بك؟ أنت لا تسمعني منذ ساعة وأنا أنادي عليك!

    – ماذا تريدين مني، دعيني أعيش كإنسان بضع دقائق!

    – ماذا حدث لك؟ هل عدت للشعر ثانية؟!

    – الشعر؟! كان ذلك وقت المراهقة..

    وأضاف لنفسه «الحلوة!».

    – لا تذكرني بأيام تسولك!

    – ما رأيك في شعري يا أحمد؟

    – شعرك جميل ولكن ذاتيتك تبرز على نحو صارخ فيه.

    – تذكرني دائماً بالآخرين؟!

    – هذا النقد ينطبق على إسماعيل في موسيقاه!

    قام. اقترب من النافذة ثانية. اللحن لا يهدأ. وضجيج الأطفال لا يهدأ. عما قريب تنطفئ هذه الشمعة الذابلة.

    اللحن ينبوع شقاء وألم. زهرات من الحلم تتفجر يأساً وكآبة. سحب تمطر وحدة وانعزالا. يجب أن تقوم وترى. من هذا الموسيقي؟ هل هو؟ مستحيل! إنه يقضي مدة طويلة ورهيبة. من هو إذن؟ قم وانظر. هل أنت سجين مثله؟ هو سجين بين أربعة جدران، وأنت سجين في عالم أكبر ولكنه صغير صغير. ولكن لم تذهب؟ تصافح الماضي الممسوخ!

    وتراكض الصغار فجأة نحو النافذة. مدوا أيديهم يصافحون المطر التساقط. هل كانت السماء حبلى بالمطر وأنت لم تلحظها؟

    أردت أن تستغل اللحظة المؤاتية وتنزل.

    – إلى أين؟

    كان صوتها شرطياً يقظاً.

    وأخيراً استطعت أن تقابل الشارع وجها لوجه. اللحن يأتي من هناك، الدكان الصغير شاحب الوجه. يتنفس دخاناً.

    لا أحد في الشارع ومع هذا فاللحن يأتيك محملاً بجراحات امرأة فشل حبها الأول. أين أنت يا رفيقي؟ خنت قضيتك وخنت قضيتي. كلانا في سلة واحدة أنت تدفع الثمن وأنا أقبض الثمن. كم كانت أوقاتنا الماضية فراشات ربيعية. الكتب! الكتب! مئات الكتب تتحدث عن الناس، عن الفقراء، عن خلايا أرضية تنتج عسل الوعي. الرفقة كانت زادنا في ليل الطبقات وصحراء المجهول.

    وجه فتى يطالعك كالمجنون.. آه. ليس هو! ولكن من هذا؟ أنه أخوه الصغير استحال فتى يعزف للعصافير والمطر. أخوه الصغير الذي كان يحضر الشاي لندواتكم التي تستمر إلى منتصف الليل. أخوه صاحب العينين الناريتين. قارئ الكتب الصغير. كيف حدث كل هذا؟

    وقف أمامه. كان الخجل مطرا آخر.

    – هل تعرفني؟

    – ….

    – هل تذكرني؟

    كان الأكورديون أحمر اللون. والفتى يمسكه مسك الأم لطفلها. إنه يحضنه بحنو. ويداه تتحركان. وقدماه لا تتوقفان. وهو ينظر إلى شيء بعيد لا تراه. الآلة تنكمش وتتمدد، وتتمدد وتنكمش، بسرعة هائلة، واليدان لا تتركانها تهدأ، والفتى يهتز معها، وجهه يتقلص، ويرتعش، وعروق جبينه أفاع مخيفة. إنه لا يراك. كأنه أعمى، وأسئلتك لا يعيرها انتباهاً، إنه لا يهتم بأحد، إنه يصرخ بألحانه، ينادي أحداً، يراسل كائنات غير مرئية.

    – هل تعرفني؟

    ــ ….

    إنه يتقدم نحوك ويكاد يصدمك، وفي تلك اللحظة يسدد إليك نظرة خاطفة. نظرة ساخرة، حاقدة، حزينة، فيها شيء من الأمل والحنو. يبتعد عنك. يتركك مصعوقاً. يتوغل في الظلام والمطر. كأنه حلم.

    وعندما اقتربت من المنزل كان شبح زوجتك في النافذة. كانت تسحبك بسلاسلها. الدم ينزف منك وأنت تتقدم ببطء. ببطء.

ــــــــــــــــــــــــــــ لحن الشتاء (قصص) 1975 .



(القصص: الغرباء  ـــ الملك ـــ هكذا تكلم عبدالمولى ـــ الكلاب ـــ اغتيال ـــ حامل البرق ـــ الملاذ ـــ السندباد ـــ لحن الشتاء ـــ الوحل ـــ نجمة الخليج ـــ الطائر ـــ القبر الكبير ـــ الصدى ـــ العين)     












المقالات العامة

العناوين المميّزة

الدرب ـ قصةٌ قصـــــــيرةٌ: لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة

إلى أين يسيرُ هذا الطابورُ الدامي الأقدام ؟  لا أثر للقرية أو القصر أو البحر أو الحدائق أو النسمات الشمالية ، تلالٌ من الرملِ وحقلٌ من النخي...