السبت، 30 أغسطس 2025

الجــد ـ قصةٌ قصـــــــيرةٌ: لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة

بدأت الشمسُ في النهوض ، صعدتْ من بحرِ الظلمات متألقة ، مغسولة بمياهِ البحر الأزرق ، فتدفق الماءُ أمامها وضخ الحياة إلى الكائناتِ المتجمدة في بردِ الليل والضباب والندى . 

وكان البحرُ واسعاً ، عميقاً ، صافياً ، هادئاً ، حمل السفنَ والقواربَ والنوارسَ والصناديق المحطمة والبطيخ المفلوق بوداعةٍ ورقة .

كان الجدُ مستاءً ومتأسفاً لأنه ترك دكانه وجاء بحفيدهِ إلى الصيد ، ولكنهُ ما أن رأى البحرَ حتى غير رأيَهُ وأحس بسعادةٍ غامضةٍ صغيرة .

منذ زمنٍ بعيدٍ بعيد غادر البحرَ واشتغل في البر ، ولكنهُ بين حينٍ وآخر يتوجهُ إلى الصيد ، وبعد أن أحيل إلى التقاعد وفتحَ متجرَهُ غرقَ في دنيا الأعمال .

ركضَ الصغيرُ فوق الفرضة وهو يحملُ صر مليئة بالأكل ، تطلعَ إلى السفن العملاقةِ بذهول وحب ، واقتربَ من الصيادين الذين كانوا ينظفون شباكهم فشم رائحة الأعماق وأبصرَ الحشائشَ الغريبة اليابسة وثلاثَ نجمات خضراء متألقة .

سعيدٌ هو بالغياب عن المدرسة ، فلا أسئلة صعبة ولا عقاب بل رحلة ممتعة في فضاء البحر الواسع ، فكأنه ينطلقُ بمركبةٍ فضائية إلى الكواكب القصية .

يتذكرُ جيداً ، منذ أن عادَ  مع جدهِ من المستشفى حتى تغير كلُ شيء . لم تستطعْ أمهُ أن تخفي خوفَها ، ورغم أن جده حاولَ أن يأخذها بعيداً فقد اندفعت إليه واحتضنته . وشاهد لونَها الوردي يختفي ، وبشرتها الرائعة تتغضن . قال لها ( هل سأموت ؟ ) فقبلتهُ بنهم ولأولِ مرة يذوقُ طعمَ دموعها . كان دائماً وهو فراشهِ ينتظرُ قبلاتها ، وحين يغلقون باب غرفتهِ ويحتويه الظلامُ يتمنى أن تأتي إليه وتقبلهُ ، وفي أكثر الأحيان توصلهُ الخادمة وتطلبُ منه أن ينامَ بسرعة ولكنهُ لا ينام . لا يعرف لماذا يبكي في الظلام ويتذكر جدته الحبيبة .

جدته !

لا يزالُ يتحسسُ لمتها وهي تصعدُ معه السلم ، يرقدُ على حجرها ، يغمضُ عينيه وهي تحكي الحكايات العجيبة . يقبلُ أصابعَها بارتياح ، ويتلمسُ خواتمَها الكبيرة ، وفي الصباح ينهضُ نشيطاً وسعيداً . وذات مرة صرختْ أمُهُ في وجهها ( لا تخيفيه بهؤلاء السحرة ! ) . غابتْ جدتـُهُ أياماً فلم يستطعْ أن يأكلَ شيئاً وكان يجري باندفاع إلى الباب كلما سمع صوتَ الجرس . وذات صباحٍ جميل ، فلا يزال يرى المطرَ الناعمَ وهو يداعبُ زجاجَ النوافذ ويغسلُ تعريشة العنب ، فتحَ عينيه على صوتِ جدتهِ ، قفز إلى عنقِها وقال ( لا تتركيني ! ) .

ولهذا عندما رأى الدموعَ في عين أمه فرحَ كثيراً وتساءلَ ( هل سأذهب إلى جدتي ؟ ) .

ابصر سرباً كبيراً من طيورٍ جميلة . راح يناديها بأعلى صوتهِ فلم تلتفتْ إليه ، فأخذ حجراً والقاهُ نحوها ، فطار واحدٌ منها وتبعهُ آخر وآخر ، وشكلوا سهماً أبيضَ متقطعاً ولا نهاية لطوله . ضحكَ بنشوة .

ثم تطلع إلى المياه الهامسة تحت قدميه . شاهد نفسَهُ طويلاً وراقصاً . ثم خربشت الصورة أسرابٌ من الأسماك الصغيرة . إنها هادئة وتسيرُ بانتظام ودقةٍ فتذكرَ طوابيرَ المدرسة المملة والأصوات المزعجة المنبعثة من الميكروفون .

سمعَ جدَهُ يناديه فحملَ الصرة وحيا البحارة فرفعوا رؤوسهم مبتسمين ، وسألهُ أحدهم ( لماذا لا تذهب إلى المدرسة ؟ ) وأعطاهُ آخر نجمة خضراء . أراد أن يقول لهم لماذا لا يذهب إلى المدرسة ولكن الحاح جده الذي تحولَ إلى صرخاتٍ حادة دفعهُ إلى المضي وهو مسرورٌ بالنجمة .

سمعَ ماكينة سفينة تهدرُ بقوةٍ ، يجيشُ الماءُ وراءها ويرفعُ البحارة اللوحَ ويفكون الحبالَ وتبدأ السفينة بالتحرك .

نزلَ الجدُ إلى القارب . منذ أنْ افتتحَ المتجرَ انقطعتْ صلتـُهُ بالبحر . كان يراهُ وهو يقودُ سيارته في طريق الجسر ، قد يتحدث مع عامليه عن البضائع الناقصة أو الديون المتأخرة على الزبائن ، أو يكون مرهقَ العقل بأشياء غامضةٍ ومزعجة ولكنه قلما يقفُ بسيارتهِ على الشاطئ ، أو ينزل لرؤية المياه .

مرة واحدة حدث ذلك . كان يحملُ علباً كثيرة ، وكانت الريحُ شديدة والبردُ قارصاً ، طالعَ البحرَ فدهش وتألم وأصابته حسرة لم يعرفْ لها سبباً . كان البحرُ أخضر كحقلٍ ، كأن الريحَ طردت المياهَ وفتحتْ الأبوابَ للأعشاب والغابات .

وقفَ لحظة ثم اندفع وهو خائفٌ من التأخير .

شغلَّ محركَ القاربَ فحدثتْ ضجة عنيفة راح الصغير يكركرُ على إثرها وينحني لجمع الزبد المتطاير .

تمعن في المحتويات وتأكدَ من وجود الماء وأكداس المعلبات والخبز وخيوط الصيد والشمسية .

سيكونُ يوماً جميلاً ، تتسربُ حيوية البحر إلى عروق الصغير فتتدفق مياهُ الحياة في جداوله وتأتي ابنة الربان لتمدهُ بعصير الشمس ومذاق العشب البحري .

ضحكَ الحفيدُ وهو يشيرُ إلى الأبنية العملاقة التي راحت تتوارى وإلى الشمس وهي تتلألأ فوق زجاج النوافذ .

بودهِ لو تتغلغل هذه الضحكات في عروقهِ إلى الأبد . أن تتألق بشرُتهُ وعيناه . لو أنه ذهب فماذا سيبقى له ؟

مرت ثمانُ سنواتٍ منذ أن سمعَ صرختهُ الأولى . لم تكن صرخة حادة كما سمعها من أوفاه عشرات الأطفال ، كانت صرخة واهنة وخافتة كأنه يخجل من أن يصيح ، واستمر صراخه قليلاً ثم تلاشى بكاؤه بل أنه راح يبتسم ويضحك دائماً فعرضوه على طبيب ولكن الطبيب لم يكتشف أي شيءٍ غير عادي .

وبعد سنتين من موت جدته تغيرت حالتهُ فانزوى وصمتَ . في أحيانٍ نادرة كان يأتي إلى الدكان فيعطيه حلوى ويصرفه .

ولم ينتبه إليه إلا متأخراً .

ارتفعت الشمسُ فتلاشى الندى والضباب ، وصارت كرة صفراء صغيرة تشعُ لهباً . اختفت البيوتُ والقواربُ واليطورُ ولم يعد سوى الماء المترجرج وقرص النار المعلق في السماء الباهتة .

وسأل :

- هل سنصطاد هنا يا جدي ؟

ابتسم الجد :

- هنا ؟ ! سنذهبُ بعيداً . هناك حيث توجد ابنة الربان ، في البحار العميقة . هنا لن نجد سوى الوحل والأحجار .

دهشَ الصغير لأنهم سوف يذهبون لملاقاة امرأة في البحر . تصورها شابة جميلة تسكنُ قصراً وتوزع الهدايا على الصيادين . سوف تسرُ برؤياه وتدعوهُ إلى العيش معها ولن يتردد في تلبية دعوتها .

سوف تتألم أمهُ كثيراً . ولكنها دائماً مشغولة عنه ، تجتمعُ مع نساءٍ كثيرات يرتدين ملابس ذات ألوان كألوان الديك ويمضين الساعات في جدلٍ طويل . عندما تنتهي يكون رأسها قد بدأ يؤلمها . تقضي أياماً كثيرة وهي تشكو من كل شيءٍ ، وتؤنب الخادمة فيختفي عنها خائفاً . تغيبُ بضعة أيامٍ فيقال أنها في سفر ثم تظهر وهي تحملُ أوراقاً وملفاتٍ ملونة وتبدأ النساء بالتوافد والثرثرة . قليلة هي المرات التي رآها فيها مع أبيه . أحياناً نادرة يسمعهما يتحدثان معاً في غرفة الجلوس . يستغرب لأنهما يتكلمان كغريبين وكلٌ منهما ينظرُ إلى ساعته . 

حين يأتي أصدقاءُ أبيه يتوجهون إلى غرفة واسعة في الطابق العلوي ، ودائماً تصحبهم ضحكاتهم إلى الباب ، ولا يعرف متى يخرجون غير أنه ذات ليلة نهض فزعاً على صوتِ شجار ، فتصور أن أباه وأمه قد دخلا في عراك . لكنه سمع صوتَ رجلٍ آخر . تسللَ إلى الخارج فرأى رجلاً من أصدقاء أبيه الدائمين يهتزُ ويتأرجحُ ويترنحُ على الأرض وهو يشتمُ أباه ويبصقُ وراءه . سمع الساعة تدق الرابعة .

تألم وبكى وأحس أن الرجلَ كان يبصق فوق وجهه هو . ولم يستطع أن ينامَ أو يذهب إلى المدرسة أو يخرج إلى الشارع .

هتف به جدُهُ :

- أنظرْ !

شاهدَ سفينة عملاقة تقتربُ من بناءٍ حديدي عجيب ، انفتح لها بابٌ فدخلت . انتشرت سفنٌ صغيرة وكبيرة ، وظهرتْ أدواتٌ وأعمدة غائصة في اليم .

تغيرَ لونُ الماء وصار قاتماً . طفحتْ بقعٌ من الزيتِ وأخشابٌ وملابسٌ ممزقة .

قال :

- هل أصطاد السمكَ هنا يا جدي ؟

- كلا .

ليس هو البحر الذي يعرفهُ ، كان أزرق صافياً كمياه الينابيع ، وكانت الأسماكُ تتلألأ في لججهِ ، ويمكنك أن ترى قاعَهُ الأبيض الرملي أو الأخضر المتألق بضياءِ الشمس الخافت . تغيرتْ الجهاتُ واختفتْ جزرٌ صغيرة كانت هنا ، يتذكرُ الجزيرة ذات النخيل والبيت العتيق الذي كان ينزهُ أولادَهُ فيه . وثمة جزيرة أخرى ذات تلٍ صخري يسبحون إليه إذا علا المد . 

كان يقودُ القاربَ بقلقٍ ، لم ير القيعان وألوانَ الماء التي اعتاد عليها فظل كأنه تائهٌ في الصحراء ، وخافَ أن يصيب الصبي مكروهٌ وأن يزداد مرضهُ ، وتخيلَ نفسَهُ يحملُ نعشاً صغيراً بين أطلال القبور، وتعجب بأنه لم يعد يعرفُ أحداً في هذا العالم سوى هذا الصغير ، وأن الحب المنسي الذي حملهُ في قلبهِ له تفجر وتطاير ليملأ الآفاق . نسي دكانَهُ عندما سمع جملة الطبيب الملعونة ( لم أر طفلاً مثل هذا، إنه يشكو القلبَ ولا أمل له في الحياة ) ، صرخَ في وجهه ، واندفعَ إلى الصغير يحضنهُ ويقبلهُ ، وهو يسأل ( ماذا قال الدكتور ؟ ) .

فكر في نفسه بدهشة ( لماذا يجمعُ النقود ؟ ) ابتسم ساخراً وصب كوباً آخر من الشاي . عندما أحيلَ إلى المعاش منى النفس بحياةٍ مطمئنة هادئة يعلمُ فيها الأحفادَ حكايات البحر ويتنزهُ في الجزر البعيدة ويزورُ البلدان ويري زوجته التي طال حرمانُها بعضَ مسرات الدنيا ، فباع بيته وأعد نقوده ، ولكنه ما أن سكنَ عند أحد أولاده حتى بدأت المشاكل . الابن كان يسأله دوماً عن المال  وإنه يحتاجه لمشروع عظيم سوف يدرُ أرباحاً طائلة . وظلت زوجته تنقنق طوال كل يوم . وجلسا عند آخر لم تستطع زوجته أن تتحمل قذارتهما شهراً واحداً !

 فعاد واشترى بيتاً فوجد أن كل ما أدخرهُ يكادُ يذوبُ في حرارةِ صيفٍ واحد ، فأفتتح المتجر ودخل نفقاً طويلاً وصار يحلمُ بقطعِ النقود التي تتحولُ إلى طيور ، وراح يجرُ عمالاً ويجري وراء الزبائن والأوراق ، وذات مرة انتبه إلى زوجته وهي ميتة في الفراش ، وأنتبه إلى البيت الفارغ وأراد أن يأكل طبخته المعتادة فبصق بحدة عندما غادر المطعم . حلم بموتٍ في الصحراء وهو بلا زاد ولا ماء ..

بحثَ ببصرهِ عن طيورٍ في السماء فالفى الشمسَ تنثرُ الجمر ، وانتشر الرمادَ في المياه . .

- سوف أصطادُ هنا .

- . . . . . .

رمى الشصَ وهو يبتسم . مد يديه كلتيهما وصار يرقبُ حركة السمك . قال له :

- ضع القبعة على رأسك !

- سأختنق من الحر يا جدي !

- سوف نذهب بعيداً لنصطاد سمكة ابنة الربان .

حدقَ فيه بذهولٍ وشك :

- وهل هي سمكة 

- وماذا تكون غير ذلك ؟ إنها تعيشُ في المياه النقية ، قرب الينابيع التي تتفجر بالماء العذب . إنها ذات ألوان مزخرفة كالعروس . في أيام الغوص حين كان أحد البحارة يمرضُ بمرض صعب يبحثون له عن السمكة التي لا تخطئها عين . أما إذا مرضَ الربانُ فقد ينطلقون بالسفينة أو بقارب بحثاً عنها . اكتشفها أحدُ الحكماء عندما مرضَ ملكٌ عادل في الماضي السحيق . والآن لم يعد أحدٌ يراها .

فجأة اهتزَ الخيط في يد الصغير ، فسحبهُ بقوةٍ ثم ببطءٍ وتمكن من صيد سمكة . استغربَ الجدُ من خروج سمكةٍ بيضاء متألقةٍ من جوفِ المراد ، ضحك الحفيدُ بسعادةٍ وهي تضربُ بذيلها حافة القارب ، ضج الجدُ بجذل أكبر وهو يتساءل : كيف استطاع أن يرفعَ هذه السمكة الكبيرة !

القى الخيطَ مرة ثانية .

- سوف تشعلُ ابنة الربان قلبك يا حفيدي .

ارتخى الخيطُ في يدهِ ونظر بقلقٍ إلى جده . إنه يتكلمُ بألمٍ وخوف ، فلماذا لا يريحُ قلبَهُ التعب من عبءِ العمل طوال النهار وبعض ساعات الليل ؟ ظن طويلاً إنه يجمعُ النقودَ من أجل أن لا يكون فقيراً يوم القيامة . ولكن حين سأل الأستاذ ضحك عليه . أليس لديه بيت ، وحديقة لا يعتني بها؟ هو وحده الذي كرسَ وقته بعد عودتهِ من المدرسة من أجل حرثها وإزالة الحشائشَ الضارة ، وأخذ بذوراً من مزرعة المدرسة وزرعَ أزهاراً جميلة . ولكن الجد لم يكلف نفسه حتى عناء النظر إليها . وبعد أن ماتت جدتهُ أغلق البيت ولم يعطهِ المفاتيح 

إنه يحبهم كثيراً فلماذا يقولون له ذلك ؟ رفضتْ أمهُ أن تشتري له دراجة لأنها تتعبُ قلبه ، ورفض أبوه أن يسمح له بالاشتراك في رحلة مدرسية إلى الجبل خوفاً على قلبه . لماذا لا يريحُ أبوه نفسه من السهر ومن البقاء طوال ساعات الليل خلف طاولة يدخن ويشرب ويلعب الورق ؟

ذات ليلةٍ أحس بألمٍ في بطنهِ فدخل الغرفة الواسعة ورأى مجموعة كبيرة من الرجال متحلقين حول طاولة وقد امتلأت بالورق والنقود ، وكانت سحاباتٌ من دخان السجائر قد غطت الجميع . تأوه واقترب من أبيه الذي كان محتداً وهو يضربُ الطاولة وعندما رآه صرخ ( أخرج ، أخرج ! ) .

أحسَ بسمكةٍ أخرى تستكشف الطـُعم . إنها تجري وراءه وتتشمه وقد أحست بروعةِ مذاقهِ فعضت عليه بأسنانها كي لا يفلت وهنا تركهُ يغوصُ في جوفها ثم سحبَ الشصَ بقوة فانغرز في بطنها وربط الخيطَ بخشب القارب فثارت السمكة وتمزقت أحشاؤها وتأسفت لأنها وقعت بين يدي صياد ماهر .

سحبَ الجد السمكة التي اصطادها حفيده فكانت بطول قدمه . انتزع الشصَ من فمها الدامي وسلمه للصياد وهو فرحٌ متمنياً لو ينسى أن لديه متجراً وأن يبقى دائم التجوال في هذا البحر .

وتذكر ابنة الربان وأدرك أنها اختفت من المياه الملوثة ولكن كيف يمكن أن ينجو صغيرهُ من موتٍ محققٍ بدونها ؟ 

القى هو أيضاً خيطهُ في اليم قارئاً آية عزيزة على قلبه ، وانتظر طويلاً طويلاً وبدا أن السمك قد غادر المياه .

 اعتلت الشمسُ عرشَ السماءَ وغلتْ الماءَ وابادت النسمات الصغيرة وقيدت الموجَ فسكنَ وسخن كلُ شيءٍ ..

أحسَ الصبي بانسيابِ العرق من جبينه ففتحَ المظلة وتمدد وترك الخيطَ معلقاً بقطعة خشب . تناول علبة وفتحها ولكنه وجد الأكل فيها مقززاً فرمق السمكة بشهية . انتابهُ صداعٌ وألمٌ فرقد . طالعهُ جدهُ فخافَ وحدقَ في الآفاق ولكن لا شيء . ضاعتْ الدروبُ وتوحد الماءُ وذابَ لونُ السماء .

 طالعهُ جدهُ فخاف وحدق في الآفاق ولكن لا شيء . ضاعت الدروبُ وتوحدَ الماءُ والرمادُ وذابَ لونُ السماء .

لمس جبين الصبي فوجدَ حرارتَهُ مرتفعة فأطلقَ المحرك بكلِ طاقتهِ وحدقَ ببصرهِ الضعيف في انحاء البحر فما رأى إلا المياه .

خاف أن يموتَ بين يديه فماذا سقولُ أبوهُ وأمه ؟ ألم يرجواه أن ينسى هذه النزهة ؟ آه لو اعطاه المفاتيح وتركه يزرع الأرض !

وشاهد شيئاً يلمعُ من بعيدٍ كزجاج النوافذ ، وتذكر أن ثمة جزيرة كبيرة هناك في الجنوب . اندفع إلى الضوء وهو يسترجعُ الجزيرة ذات الصخور والينابيع البحرية وأسراب السمك .

اقتربت الجزيرة ووجد بيتاً كبيراً يتراءى خلال الأشجار ، وثمة نخيل كثيف يطلُ على الشاطئ .

نهض الحفيد مشرق الوجه وصاح :

- هل سنشوي السمك هنا يا جدي ؟

- نعم ونصطاد ابنة الربان .

وصل القارب غلى الشاطئ ، استقبلتهما صخورٌ كبيرة ورائعة . رأيا لافتة عملاق منتصبة على الشاطئ . قرآ ( ممنوع الاقتراب ، ملكٌ خاصٌ ) .

ترددَ الجدُ في النزول لكن حين رأى لهفة حفيده  وتعبه اقترب من زاويةٍ رملية ضيقة وأوقف القارب . نزل وجرهُ إلى الرمل .

احتضن صغيرَهُ وقبله وحملا اغراضهما ووضعاها تحت اقدام نخلة .

حين استراحا قليلاً سمعا ضجة سيارة تقتربُ . ترجل بضعة حراس وجاؤوا إليهما .

- ألم تر اللافتة أيها العجوز ؟

- نعم ولكن حفيدي مريضٌ جئتُ استريح هنا . أرجوكم !

- هيا أمضِ حالاً .

نهضَ فزعاً .

- كيف ؟ أأتركُ الصخورَ والينابيع وسمكة ابنة الربان لأرحل !

نظروا إليه متشككين ومبتسمين .

- أجل أيها السادة إن قلب حفيدي يحتاج إلى لحمها .

- واقترب منهم وقال كلمة لم يسمعها الصغير لكن الأخير شعر بالخجل والحزن والمرارة . فها هو جدهُ ييكررُ نفسَ الكلمات وها هو يبحثُ عن السمكة الملعونة لكي يطعمهُ إياها ثم يغرقُ في دكانهِ من جديد !

اقتربَ منهم وقال :

- أنا لستُ مريضاً !

.ثم قفز ومشى على يديه أمامهم بسرعة فضجَ الحراسُ بالضحك ، وبحلق جدهُ فيه مستغرباً ، وللمرة الأولى يشعرُ بالفرح العميق وثقل السنين على روحهِ .




ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 3 – يوم قائظ «قصص»، 1984.

«القصص: الدرب – أماه… أين أنت –الخروج – الجد – الجزيرة».




المقالات العامة

العناوين المميّزة

الدرب ـ قصةٌ قصـــــــيرةٌ: لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة

إلى أين يسيرُ هذا الطابورُ الدامي الأقدام ؟  لا أثر للقرية أو القصر أو البحر أو الحدائق أو النسمات الشمالية ، تلالٌ من الرملِ وحقلٌ من النخي...