الأحد، 31 أغسطس 2025

خميس ـ قصةٌ قصـــــــيرةٌ: لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة

منذُ عرفتُ هذا الرجلَ صارت أحوالي غريبة . كنتُ رباناً ذا سفينة صغيرة ، تصطفقُ ألواحها، وهي تدبُ على الموجِ المشاكس وتتوغلُ في مساحات اليم البعيدة ، ويتجمعُ بحارتها الضعاف ، ذوو الهياكل العظمية المنحنية ، ويتساقطون في المياه كأنهم لن يرجعوا أبداً ، ويعودون بمحارٍ مليءٍ بالتراب والأعشاب ، يفلقونه لنجد لحماً متغضناً . ونعودُ بسفينتنا بأغانٍ كئيبة شاحبة لنقبعَ في برد الشتاء والدثارات الثقيلة .

في أحد النهارات القائظة ، ونحن نستعدُ لرحلةٍ بائسة جديدة ، وقف فوقي عملاقٌ أسود حجب الشمس ، وأراد أن يــُضاف إلى البحارة .

منذ أن صعد إلى ظهر السفينة تغير كلُ شيءٍ . أين ذهب ذلك القيظ الساخن ولماذا اندفعتْ الكفوفُ والحناجرُ لتشعل الشراعَ وتلتهبُ صفحةُ الماء ؟ وكيف بدا ذلك العملاق كأنه هو الذي يدفعُ السفينة جاثماً في مقدمتها فاتحاً دغلَ المياه الفوارة ؟

غاص في اليم طويلاً ، وذعرنا ، وخشينا أن لا يخرج أبداً ، لكن الرجلَ طلعَ فجأة ، بعينين حمراوين ، وكدس تلاً من المحار الكبير الغريب ، وما هو إلا نفس ، حتى عاد كرة أخرى إلى الأدغال الخفية ، وسمعنا كأن صوتاً جهورياً رخيماً ينسابُ في الأعماق ، هل كان يغني ؟ وما هذه الكتل المتعاظمة من المحار ؟ هل كان نجدة من السماء لإنقاذي ؟

في الليل شعرتُ بالسفينة تهتز ، نهضتُ . كانت الظلمة تخفي ملامحَ الأشياء والرجال . اقتربتُ من الأجساد المنهكة النائمة ، فلم أجده بينها ، وثمة وشوشة وهمس في المياه !

ارتعدتُ وأنا أندسُ في فراشي . أيقنتُ أن الرجلَ عفريت وتذكرتُ كيف بدا جسده الضخم، وعضلاته القوية ، ونظرته الشقوفة الحنونة للمياه ، وكأنه سيذهبُ لمعانقة حبيبته ، وليس للانغمار في غبةٍ مليئةٍ بالضواري . وها هو الآن يثرثرُ مع أصحابهِ ، ويغني ، وربما غاصَ في الأعماق ، ونام في سريرهِ المائي بين قروش البحر وجنياته.

فتحنا محارَهُ فذهلنا لتدفق اللآلئ . كراتُ الضوء النارية تتفجر من بين اللحم الطري والرمل والأعشاب . تجمعتْ في يدي تلالٌ من الفضة المشتعلة ، ورأيتُ بيتي الصغير القزم المشوه يستحيلُ قصراً ، وأنا أغني في رحلةِ العودة ، والبحارة جسدٌ مشتركٌ من الفرح .

قربته مني ، أعطيته أغنى السمكات والأرز المضمخ بالزيت ، وضعته في صدارة مجلسي ، تحدثتُ كثيراً عنه ، وهو صامتٌ ، هادئ ، تتراقصُ الطيورُ قرب عينه ، ذاهلٌ في ملكوتٍ خفي ، ربما كان يحدث أحداً الآن ، ويلقي بخيوطه لملكات الجن الساحرات ، ويبحرُ بين قصورٍ من ذهب ونار .

يداه العميقتا الغوص ، ملأتا خزانتي بالدرر ، لم تعد لي كوكبة من الهياكل العظمية الشائخة، بل جيوشٌ من الفتيان الضاجين بالصياح ، المندفعين إلى الأعماق ، وكتل من السفن العملاقة التي يرتجفُ البحرُ تحت خشبها الجبار .

ذهبُ معه إلى الهند . أردتُ أن أفرحه بطعم النساء والمدن الغريبة . لكن الرجلَ كان يتركني ليتسرب إلى الأزقة ، ويصادق الحواة والسحرة والمهرجين . راح يخرجُ من جيوبه طيوراً وبيضاً ، ويمشي على نثار الزجاج ، والمسامير ، وهو يضحك . رأيتهُ مرة يطيرُ من نافذة الفندق . خفتُ . ارتعبتُ . هذا الرجلُ سيهلكني ويستولي على قصري وبناتي .

كانت الغرفة مغلقة ، وضوء المصباح الشاحب يرسمُ مارداً على الجدار . كان يراسلُ أجساماً لا مرئية ، وبدت بشرتهُ السوداء الصلدة كمنجمٍ ، أو غارٍ عميقٍ في الأرض .

ما الذي جعلني أثق به وأنام معه في غرفة واحدة ؟ عرقي غزير وهو لا يزال جاثماً على الكرسي ، يرفضُ أن ينام .

جاء الصباح المنقذ ، وذهبنا للميناء ، كان الجو صحواً ، بارداً ، وثمة هدوءٌ عميق ساحرٌ في الكون . قبل أن أركب السفينة أمسكني من يدي ، وهتف:

ـــــ لا ، لا يا عمي ، لن نذهب في هذا اليوم !

صرختُ به:

ـــــ ماذا بك ، هل جننت ؟

يدي كانت تحتجُ ، وفمي يضجُ بالشتائم ، إلا أنني كنتُ مرفوعاً على كتف هذا العملاق ، وحقيبتي الكبيرة بيده الأخرى .

حبسني معه في الغرفة . كنتُ ساخطاً لذهاب اليوم الجميل بدون البحر الأزرق الشفاف ، والمقعد في قبة السماء . غصتُ في الفراش اليابس المجعد وأحتسيت زجاجة كاملة .

كان الرجلُ كعادتهِ جامداً في مقعدهِ ، راحلاً في عوالمهِ الغريبة ، يتراسلُ مع فراشات نارية ، ويجذف في مياهٍ بعيدة .

فجأة ارتعش المبنى ، اهتزت النافذة . تغير الكونُ كله ، رعودٌ وزاوبعٌ ومياهٌ عنيفة تضربُ الجدران وتقلقل الأشياءَ . اختفى البحرُ وغاصت السفنُ في اللجج المجنونة .

نظرتُ إليه وصحتُ:

ـــــ من أنت ؟ من أنت ؟

نظر إليّ بدهشةٍ وقال:

ـــــ أنا عبدك خميس !

خميس ، هذه الأسماء الغريبة ، بزغت من مجاهل الغابات ورقصت في ساحاتنا بتعاويذها وصلواتها وحركاتها ، وضوعت بخورها في مسامنا الداخلية ، فرقصنا ودرنا وانتشينا ، وغبنا ورحلنا في الأجساد الغضة ، وانهار الحليب والليمون والمسك ، أسيادنا وعبيدنا ، أشباحنا وكوابيسنا ، يواقيتنا وقمامتنا ، أواه . . متى تنتهي هذه العاصفة ؟

عدنا إلى البحر ومدينتنا . لا زال النضار الأبيض يتجمعُ في يدي ، صار الرجلُ هو الذي يمضي للبحر ، ويحصدُ بمنجلهِ الحاد اللؤلؤ ، ويلقيه في صناديقي . أضحك ، وأشعل أولادي، واملأ البحر بالخشب والسواعد . .

وذات يومٍ لم يعد لهذا الذهب من قيمة ، صار تراباً . . غاصت السفنُ في القيعان ، وانطفأت السواعدُ وشحبَ البحرُ ، وفرغت الخزائن من الخبز والأرز . سرتُ في الطرق نادباً ، بيتي الشاهق لم يعد لي ، وعبيدي الذين يملأون الغرف هربوا ، ليس لدي سوى قروشٍ قليلة وعكاز قوي هو خميس أتوكأ عليه لنشر مراثيي .

سار بي هذا الجسد الصلدُ تحت مظلة الشمس ، وفي برارٍ بكرٍ ، وأنا مذهول لخطواته الحادة ، والأعشاب التي يحيلها إلى ماء ، والرملُ الذي يصيرُ ذهباً .

كانت جوقة كبيرة من الأجساد ، وحشدٌ هائلٌ من الأعمدة والقضبان والأكواخ والصيحات . ثمة أغرابٌ بيض يوزعون الأدوار ويبحثون في الأرض عن أشياء عجيبة.

انضم خميس إلى الجوقة ، وجثمتُ في كوخ أسجل الأنفار . كان يقودُ الجميعَ ويدورُ حول البئر ، ويغني صادحاً بأغنيات البحر ، يتحدُ الجميعُ وينهالُ المثقابُ في بطنِ الأرضِ ، ولا يظهر سوى ماءٍ وطين .

يحتار الأغرابُ في خرائطهم . خميس يسمعُ نبضَ الأرض ، يتذوقُ الأعشابَ والحصى ، ينصتُ إلى أصواتٍ عميقة ، ويدندن ، ويقودُ الجمعَ إلى بقعةٍ نائية . يحفرون . يتكتل البحر الأسمر الفاحم ، وتغتسلُ الأعمدة بالعرق والدم ، ويتفجرُ ماءٌ ثقيل أسود ، يرفع الأغراب قبعاتهم وزجاجاتهم ويشعلون الليل بالأنوار وأقواس اللهب .

يحيونني ، ويعطونني طاولة ودفاتر ورجالاً . خميس ينزفُ إلينا رجالاً من المصائد والأطلال، وأنا أقودُ شاحنة مليئة بهم ، أقذفها تحت الآبار والآلات ، لتستحيل بيتاً كبيراً وسيارة سوداء كأنها ساحر ملموس .

الآن أتمدد في الظل مستريحاً ، أرقبُ طوابير الرجال وهي تقتحمُ الصخورَ ، أشرب الزجاجات الباردة ، أدخن غليوني بلذةٍ وأبهةٍ .

وذهلتُ ذات يوم ! كان ثمة ثلة من الرجال يحملون جسداً ممزقاً . لم يخطر ببالي أبداً أن يكون هذا المقطَّع هو خميس ذاته . خميس بلا ساق . ودم كالنافورة يشخبُ من ينابيعه الداخلية الفوارة . تجمدتُ . ماتت الكلماتُ داخلي . انطفأت المشاعر والأفكار.

من هذا الصائح النائح ، كتلة اللحم المهروسة ؟ أيعقل أن يصير خميس طعاماً لأسنان الآلة ؟ أيغيبُ هذا النجمُ عن سمائي وأعودُ للرمل ؟

قدتهُ بالشاحنة إلى المستشفى . لن يعد قادراً على شيء . ربطوا ساقه ، وأقفوا النزيف الذي أحاله إلى ليمونة يابسة . اشتريتُ له فواكه وخضروات وخبزاً . دفعتُ له حقوقه المالية وأنا أرتجفُ من الحسرة . .

منذ ذلك اليوم انقطعت صلتي بخميس . بدا أن تعاويذه الجميلة انزرعت في أيامي . ازهرت منزلاً كبيراً . سافرتُ كثيراً . امتلأت خزائنُ شركاتي  ومتاجري بالمال . وفي رفةِ كلِ زمنٍ كنتُ أتذكرهُ ، وأتحسرُ على غيابه ، وأحنُ إلى وجوده الفائض بالنعم .

لكنني لم أذهب ولا مرة واحدة إلى منزله ، وحين تذكرتُ ذلك وأنا أدهس الأزقة الضيقة القذرة بسيارتي الكاديلاك العملاقة ، تشوقتُ إلى رؤيته .

قادتني الأيدي العصي للصبية إلى كوخٍ حقير مهترئٍ ، دهشتُ . سمعتُ بكاءً .

ثم رأيتُ خميساً على ناصية الشارع ، وهو يقودُ عربة بيع . كان ثوبه يستر جسده المقطوع ، وذهلت عندما رأيته يجمعُ الصبية والناس ليرقص ويغني ويقدم ألعابه السحرية بكلِ خفةٍ ومرح !

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 4 – سهرة «قصص»، 1994.

«القصص: السفر – سهرة – قبضة تراب – الطوفان – الأضواء – ليلة رأس السنة – خميس – هذا الجسد لك – هذا الجسد لي – أنا وأمي – الرمل والحجر».









المقالات العامة













العناوين المميّزة

الدرب ـ قصةٌ قصـــــــيرةٌ: لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة

إلى أين يسيرُ هذا الطابورُ الدامي الأقدام ؟  لا أثر للقرية أو القصر أو البحر أو الحدائق أو النسمات الشمالية ، تلالٌ من الرملِ وحقلٌ من النخي...