الأحد، 31 أغسطس 2025

سهـرة ـ قصةٌ قصـــــــيرةٌ: لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة

أشربْ هذه الكأس المترعة بالزبد والضياء والألم . أشرب ولا تدفع ولا تجزع . واضحك حتى الصباح واحفر في ذاكرتك هذه الوجوه ، وهذه الأجساد الرائعة ، أحفرها بتقاطيعها الدقيقة ، وبنظراتها السكرى المفعمة بالنشوة والشهوة ، فلعلها تنسيك عذابَ الليالي القادمة ، لعلها تسليك في الفراشِ المهترئ والظلام . فبعد ساعات سيسألك ( البارمن ) :

- الفاتورة يا سيدي !

ستضحكُ بعمقٍ وتقولُ :

- إنني رجلٌ مفلس وعاطل . . أسأل المدينةَ كلها . أسألْ السماء ، البحر والمتشردين . أسألْ أقسام البوليس ، أسأل الأحذية المهترئة على الأرصفة ، أسأل الأرغفة الهاربة من الفم !

وسيقولُ بأدبٍ جم :

- ولكنني مضطرٌ يا سيدي لإخبار الشرطة . .

- تفضل . . أفضل مكانٍ يقضيه العاطلُ زنزانة سصغيرة محترمة تتحققُ فيها الشروط التالية : الأكل المنتظم ، الأصدقاء المرحون ، الشاي ، السجائر ، قطعة صغيرة من الشمس .

كان البارُ مزدحماً ، قطعة من الجنة المؤقتة . الأقدامُ تحكُ الأقدامَ ، والصدورُ النافرة تتحكمُ في العيون الشاردة ، والمؤخرات لا تتأخر عن الهزات الخفيفة والانحناءات الخاطفة ، والثرثرات تطولُ وتطولُ ولا تقول إلا تعال !

وفي كل لحظة تأتي موجة من الحسناوات . هذه الأجسادُ الرقيقة الرهيفة من فصلها ؟ هذه الوجوه البيضاءُ والوسيمة الناعمة من قبلها ؟

( لا تجعلوني أسكر وأموتُ هنا على هذه الطاولة الصغيرة المتوحدة . تعالوا إليَّ ، ستشربون على حسابي أو عذابي . ستضحكون من النكات الكثيرة التي أحفظها والتي لا تقال إلا همساً . أنتِ أبتها الشقراء ، يا من تشبهين فرساً خــُـلقت من الفضة والزهرة ، أقتربي مني وأعطيني ضحكةً أو كلمة أو صفعة ! ) .

النادلُ يعيطيه زجاجة بعد زجاجة ، مستغرباً من قدرته على الشرب السريع المكثف ، يقتربُ منه رجلٌ عجوزٌ ويستأذن في الجلوس قربه .

( هذا هو حظي دائماً . صديقٌ للعجائز . أمي العجوز في البيت لا تكفُ عن إزعاجي . هل أشتغلت ؟ هل ذهبت للشركة الورقية ؟ جارنا فلان اشتغل براتب كبير ، وعلانة صارت سكرتيرة للوزير ، وابن حمدان رراعي الحمير السابق بنى لنفسه عمارة . أما أبي فمن المسجد إلى الدكان ، ولأن الدكان شبه فارغ فهو دائماً نائم . وبين كلِ غفوةٍ وغفوة يسألني : هل اشتغلت ؟ هذا هو مصيري منادم للعجائز ، خاضعٌ لاستجواباتهم الطويلة والثقيلة ) .

لحسن الحظ اتضح إن العجوز ذو لغةٍ غريبةٍ خاصة ، لاتفهمها سوى قبعته الواسعة ، ورغم إنه انحنى واقترب وغمز بعينه فإنه لم يفهم منه شيئاً . ولكن بدت حركة عينيه غريبة مزعجة ولأول مرة يشعر بالانزعاج والغضب في هذا الجو المرح الزاعق الراقص . فلماذا يغمزُ بجلدهِ المتغضن الذي يشبه نسيج العنكبوت ؟

« لو أن صديقي الشاعر كان معي لاختلف الأمر . ذاك الشاب الكهلُ الساخرُ من كلِ شيءٍ ، أعجوبة هذه المدينة ، يقولُ : مدينتنا تفاحة البحر ، جدفنا نحوها ، وغصنا إليها فأعطتنا سمك القرش . يشربُ وثرثرُ ويناوشُ النساءَ في الحارة ، ويغرفُ منهن الشعر ، وتلمعُ عيناهُ  ابلسعادة وهو في غرفته الوحيدة بين أكداس الكتب والورق والثياب المعلقة كالرجال المشنوقين . يظهرُ في النهار ويختفي في الليل ، تجدهُ شهوراً طويلة ثم يحختفي سنين . غرفته محكمة الإغلاق أحياناً ، وأحياناً أخرى فارغة ليس فيها سوى وريقات ممزقة يلعبُ بها الصغارُ . وفي آخر مرة ظهر فيها لم يجد غرفة ووجد عمارةً كبيرة مكانها . أقولُ له : لماذا تهلك نفسك ألا ترى شعرك الأبيض أين أولادك وزوجتك وأسهمك وأحذيتك القوية وسيارتك الفارهة المكيفة وقمصانك النايلون ؟ أفي كل مرة تقول لي : قصيدة ، قصيدة ! أهي امرأتك ؟ هل تضاجعها ليلاً ؟ هل تتأوه من اللذة ؟ هل تقول : لم أشبع ، قبلني ، قبلني ؟ ويضحك باكياً . هنا تتشقق اللغةُ ، الحروفُ تغدو أطفالاً وأفراساً ، والكلمات جزراً ونخيلاً مقطوعاً ومسامير في اليد وعصافير في القفص !

لو كان هنا لسخرنا معاً من هذا العجوز الذي يتأهب للرحيل وبلا خليل !» .

نهضَ العجوزُ وتركهُ للفوضى الجميلة ، قمصانٌ بلون الفراشات ، فساتين هي حدائقٌ وحرائــقٌ متنقلة . البشرة ديناميتٌ لمن لا يذوق . ضحكاتُ الفتيات صهيلُ أفراسٍ مدربة على الوثب والقتل .

تطلع إلى المليونير الشاب يقودُ زهرتين من البار إلى سيارته  يداه على الخصور وعيناه توزعان الابتسامات بالعدل والقسطاس . وأنظر إلى وكيل الوزراة العجوز الأشيب يحصل على فاتنة هي برقٌ ورعدٌ ومياه .

هل سيكفي الليل ؟ ألن يتأخر عن الدوام وربما العمر ؟

ارفع الكأسَ وأشرب في صحة الأسرة السعيدة ! في صحة الأحزن الوطني . في صحة العاهرات القادمات من كلِ فجٍ عميق . في صحة القواد والقوادين . في صحة الأخوة العرب القادمين إلى الأخوات العربيات !

« أنظر ! يا إلهي ثلاث فتيات مثيرات للفوضى والهلع . حركاتهن رقص ودعوة مستعجلة للحب . تعالين، هنا الوحيد المحزون . ستشربن إلى الصباح . ولكن المشكلة بعدها أين سأذهب بكن ؟ ليس لدي يختٌ ولا قصرٌ ولافلل مفروشة وفارغة ولا مرسيدس بلون فستان الفتاة التي معيي . لدي غرفة وحيدة فيها فراشٌ وحيدٌ تعبٌ أضنته أحلامي وآلامي ، ولدي كرسيان مهزوزان ، حاولت مرة أن أن أنتحر على واحدٍ منهما فسقط بي وأفشل محاولتي ، وأحسست به يضحك عليّ ويقول : عشْ كما نعيش نحن في هذا البيت المقفر والحجرة الخربة !

لقد ذهبن إلى غيري . جلسن مع رجلين يلبسان الثياب العربية الرائعة ، وليدهما كرشان يصارعان الطاولة الفقيرة بضراوة . وعلى سطح الطاولة هناك مظاهرة حاشدة من زجاجات الغرب والشرق وأنواع المزة . هنيئاً لكما هذا الفوز ! » .

تطلع يمنة ويسرة لكي يتحدث مع أحد . فرأى الحشد الهائل مشغولاً بالثرثرة مع نفسه ، الأيدي الخشنة تتملسُ الجلود الناعمة ، والآذان البضاء تصغي للأفواه الواسعة السمراء ذات الأسنان الصفراء ، وثمة  كركرة وكأن ساحراً ما يدغدغُ الجمعَ فيضحك ويتأوه ويشرب ويمضغُ ويشير إلى الساعة وينتشي بالرغوة والموعد المنتظر ويعد النقود ويوقع الشيكات المفتوحة ويهتفُ في سبيل عينك أيها الغزال الأبيض !

« أذكرُ الشاعرَ الذي جاء إليَّ في تلك الظهيرة . دق البابَ بقوة ، قلتُ : ربما حدثت كارثة كالعادة . فتحتُ فإذا به يقول : هل لديك ورق أبيض ؟ قلت : تعرف إنني لا أحتفظ به حتى لا أُتهم بأي تهمة ، صرخ : لا تمزح ، أعطني ورقاً ، وإذا كان لديك شاي وسيجارة وسندويتش جبن فلا بأس ! . . أعطيته ورقاً وسرقتُ من مطبخنا الشاي والخبز .

في ذلك الوقت كان لديه غرفة ، والآن لا أحد يعرف . قبل فترةٍ وجيزةٍ كان ينتقلُ في بيوتِ الأصدقاء وعلى قوارب الصيادين النائمة على الشطآن . قلتُ دائماً : ستحولُ إلى مجنون . ولكن ظني خاب ، فها هو يبكي ويضحك ، ويقرأُ الأشعارَ ويتجرأ على حبِ امرأة . في الفترة الأخيرة اختفى . كانت أمي تكرهه وتقول : لم يخرك إلا هذا المعلون ! أويجد أحدٌ يقبلُ أن يكون متشرداً ؟ وحين اختفى راحت تسألُ الناسَ في الأزقة ، بل وذهبت إلى البحر تسأل الصيادين ، وحين لم تعثر على شيءٍ بكت في غرفتي وصاحت : ألا تبحثُ عن صديقط ؟ !» .

ها هي امرأة تتقدمُ إليك . ها هو حظك المعتق يتفتقُ ورداً ورقياً ذاوياً . ها هي العجوزُ تسحبُ المقعد بخجلِ العذراوات وتجلسُ وهي تروض فستانها عن إثارة القلاقل . تواضعٌ ، وهدوءٌ ، وثقة .

تشربُ شيئاً من الويسكي وتدخن سيجارة . إنها ليست عجوزاً تماماً . جلدها كأنه مدبوغ تواً . ثنياته وتعرجاته كتضاريس أرضٍ جبلية . الخواتم الذهبية تملأ يدها ، كمصابيح في مقبرة . وثمة عقد ماسي يتلألأ فوق صدرها .

نظراتها رغبة جامحة محمومة لم تروضها السنونُ ولا أشبعتها الأيام . لهفة على ماضٍ وخوف من القادم . رجاءٌ لهدنة بين الموت والحياة ، بين المقبرة والزهرة .

تتطلعُ بدعوةٍ محموة ، تهزُ رأسها نحو الخارج ، وتتشبث بالقلادة الماسية وتقول ، قمْ ، قمْ .

جاء حظك أخيراً . جاءك التابوت وأنت فتى تضجُ بالحياة . ولكن عليك أن تستجيب لدعوتها فلماذا تقبل الزنزانة الضيقة وأنفاس أصحاب الإبر والمساحيق والسطو ؟ لماذا الخبز الجاف في الصباح والعيش الأبيض اليابس في الظهر والشاي الأسود الحامض في المساء ؟ أتريد المرأة قبلة ؟ أعطها إياها . رقدة في الهزيع الأخير من الليل ؟ لا تبخل بها ، فأنت لن تدري أين أصابعك ولن تعرف حديد السرير من جلدها !

تبتسم لها . وأخيراً تنطقُ بكلمةٍ مع أحد . وتقول: ( نعم ، معك أيتها الطحالب والأسنان الصناعية . . ما دمتِ ستدفعين الفاتورة كلها ، معك إلى بوابة الفندق ربما ، أو بوابة بيتك ولكن فيما بعد لا سيدتي !).

تكلمتْ هي أيضاً . صوتها كصوت آلة تقطع جيداً ، شيءٌ يذكره بالسفن القديمة الخربة والماء يفتقها قليلاً قليلاً ، أو بالرحى وهي تطحنُ .

تقتربُ وتهمسُ في أذنها :

- أنا معجبٌ بكل هذه الأناقة والجمال !

تبتسم المرأة بالفخر . تتلطعُ أنت إلى الآخرين فترى غزلاناً جديدة تمرحُ . فتاة طويلة ناعمة ذات وجهٍ بريءٍ كاعتراف زهرة بحب ، تلتفتُ إليك وتبتسم . آه ، ها قد حصلتَ على الأعجاب أنت أيضاً ، ربما كان سخرية أو غزلاً . تغمزُ لها فتصدُ عنك باستياء . شــُنقت الفرحة !

قالت العجوز :

- أتحبُ أن تأكل ؟

- إنني لا أريد إلا أن آكلك أنتِ !

وأضفتَ بالعربية ( حتى أخلص العالم من شرك ! ) .

دفعت المرأةُ الحساب وهي مندهشة لعدد الزجاجات التي أفرغها في جوفه ثم قادته إلى الخارج ، واحتواهما المصعدُ لوحدهما . وكانت تنتظر قبلة حارقة مجنونة لكنه احترق من الرائحة وتمنى الهواءَ الطلق .

كان المطعم على سطح الفندق الضخم . تعريشةٌ من الضوء والخيام والطاولات الكثيرة الأنيقة المزدحمة بالأكل والأواني الغريبة والزجاجات والكؤوس البراقة . وكانت رائحة الشواء تسيلُ لعابَ النجوم الصغيرة المزروعة في مظلة السماء كالفقراء المحتشدين في الظلام ، كالأيدي الممدودة في السوق والحارات والزحام !

قدموا لهما قائمة الطعام فلم يفهمْ شيئاً ولكنه وضع أصبعه على خطٍ منها وهو يبتسم . التفت إلى المدينة فرأى لؤلؤاً منثوراً وأضواءَ ملونة . اشتعلت البنايات والوشارعُ وجاءت ضجةُ الليلِ خافتةً مفعمةً بالندى كقطةٍ ناعمة الملمس . المدينة والسماء والبحر تسبحُ في الضوء .

أسكرْ مع هذه الحلوة وتمتع بالطعام اللذيذ . العجوز تسألك : ما هي أعمالك ؟

« أسألي يا سيدتي البنطلون المرقع ، دكان أبي الفارغ ، سنوات التشرد الخمس ، بشرتك التي أشعلها النفطُ ، حارتنا المهجورة ، أمي المجنونة وأبي الذي هدهدته التعاويذ !

لا أعرف لمذا صلبوني في الظهيرة . هل لأنني صديق المغضوب عليه : شاعر الحارة المختفي ؟ ذلك الأبليس الذي لا يهدأ ، والذي ربما الآن يطفحُ على مياه الخليج مع الزيت والدم ؟

هيا أنهضي أيتها الحلوة لأمارس عملي الجديد . عاشق للخريف والصقيع . الحاضرون يتطلعون إلينا بدهشة . موتوا بغيظكم أيها السادة . هل رأيتم أجمل من هذا الوجه ؟

إنني أقبلها أمام الملأ ، أنا فارسها الجديد ، اضحكوا !» .

يحضنها بيدهِ ويهتزُ قرب المصعد ، ويرى المدينةَ تدورُ ، المصابيحُ تعانق النجومَ والغيوم تهبطُ فوق المطعم ، وكل شيءٍ غدا ناعماً وساماً .

ها أنت تمشي إلى السيارة وتترنح على المقعد وتندفعُ الشوارعُ في وجهك وتمسعُ المرأةَ تفحُ :

- هل أنت هنا يا حبيبي ؟

« أنا لستُ هنا ، ها أنتِ تقودينني إلى قصرك يا أميرة أحلامي ، يا كابوسي ، يأجوجٌ ومأجوجٌ أنتِ ، خذيني برفق ودعيني أرى قصرك الكبير . إنه يكفي لحارتنا كلها يا سيدتي . أعطونا جناحاً !» .

بركةٌ وأشجارٌ وممرٌ مفروشٌ ومغطى بالياسمين ، وهي تمسك بذراعك وكأنها خائفة أن تفر في آخر لحظة ثم تدخلك غرفة نومٍ واسعة فتجلسُ على السرير وأنت تمسكُ رأسَك . بك دوارٌ وغثيان .

«المرأةُ تتعرى . ها هو الهيكل العظمي يرقصُ . الأفضل أن تطفئ الأنوارَ ، لا ، لا أحبُ أن أرى عاري أمامي !» . لمسُ الجلدَ المتغضن ، والنهدَ الميت ويدخل ف ينفقٍ مظلم ، يرى أشباحاً تتطلعُ في وجهه ، ويسمعُ صديقه الشاعرَ يئنُ وكأنه يتلقى ضربة قوية في صدره ، يودُ أن يمزقَ جلدَ العجوز ، لكن النفق طويل ومتعب ، ومرة أخرى يتأوهُ الشاعرُ وهو يتلقى طعنة سكين في خاصرته ، الشعرُ والدمُ والتأوهاتُ تذوبُ معاً وتشكلُ ناراً يحسُ بلسعها في عينيه ، يودُ أن يصرخ في وجه المرأة لكنه يمضي ، يحسُ بنفسه يغوصُ في الوحلِ ويحسُ بمذاقهِ كما لو كان حذاءاً يعبرُ مستنقعاً .

العجوزُ فرحة وسعيدة ، عصارة الشرق تنتقلُ إلى جلدها المتيبس ، تتوهجُ قليلاً ، تعضُ صدره بأسنانها الصناعية ، تطلبُ المزيد والمزيد ، لكنه تجمد ، شعر بفداحةِ الثمن ، بصرخاتِ الشاعر وهو يحتضرُ والأحذية فوق وجههِ ، بصراخ الحارة وبكائها ، ولكنه لا بد أن يعطي عصارته للجسدِ المتجمدِ ، لا بد أن يكتمل الرحلة التي طالت ، وهو يحسُ إنه يقتاتُ بنشارة الخشب ويشربُ دموعه .

فتح عينيه وإذا بالضوءِ الساطعِ يملأ الغرفة ، وإذا عصافير قرب النافذة وهو عارٍ ومغطى بالدثار . أحس كأنه فتاة تفقد عذريتها مع كلب ، به رغبة شديدة في الهرب .

جلسَ فدهشت العصافيرُ ثم طارت خجلةً . الضوءُ يدلُ على تأخر الوقت . بحث عن ساعة فوجد أنها الثانية بعد الظهر . كم أمتصتهُ العجوزُ !

تــُروى في الحارة قصصٌ غريبةٌ عن الذين ينامون مع العجائز . أحدهم مات بعد أسبوع وآخر جن وثالث غرق في البحر ! يخيلُ إليه أن الشاعر لم يمتْ . موجودٌ في مكانٍ ما . مختفٍ عن الأنظار . يبعثُ قصائدهُ إلى محبيه . ذات مرةٍ اختفى ثلاث سنين كاملة ، وكانت تصل منه الرسائلُ والقصائد ، فيكتبها بخطٍ أنيق ويرسلها إلى الجرائد التي لا تنشرها . كانت أنفاسهُ تتجولُ في الأزقة . وتظهرُ صورتهُ هنا وهناك . وفي ليلةٍ قرأ لأمه قصيدة فحفظتها وبكت . يودُ أن يبكي . يحسُ بكآبةٍ خانقةٍ . لا فائدة من النور والعصافير والشوارع والزهور .

جاءت العجوزُ مبتسمة ، متألقة . سألها :

- ماذا يعملُ زوجك ؟

- إنه مهندسٌ . ها قد جاء الآن ويحسن بك أن تذهب وتأتي في الليل .

- هل يوجد بابٌ خلفي ؟

- لا ، أخرجْ من الباب الذي جئنا منه .

ثم وضعت في يدهِ ثلاثين ديناراً . اندفع بقوة ورأى وجهه ممزقاً في مياه البركة الزرقاء . ثلاثون ديناراً ؟ عندما كان الشاعرُ ينشرُ قصيدة كانوا يعطونه خمسة دنانير . لماذا لم يترك الشعرَ ويعمل مثله ؟

سمع صوتاً خلفه ، فوجد الرجلَ العجوزَ يناديه فأسرع إلى البوابة واندفع في الشارع ، كانت الشمس قد استولت على السماء ، أبعدت النسمات الصيفية الرقيقة وأوقدت الأرضُ فتصاعد وهجٌ وحشي من أسفلت الشارع ، أحاطت بهِ دوائرٌ من اللهب والعرق . سمع صوتاً خلفه أيضاً ، أبصر العجوزَ يطارده بسيارته ، راح يركضُ على الرصيف المشتعل ، يودُ أن ينتهي من هذا الألم ، من هذا الزحف على الرمل المحترق ، تساءل : هل سيطلقُ عليه الرجلُ رصاصة صامتة في ظهره ؟

«أودُ أن أموتَ حقاً ، ولكن على طريقتي الخاصة !» .

اقتربت منه السيارة . توقف له . رأى العجوزَ يبتسم ويغمز بعينيه أيضاً !

بصق عليه واندفع يجري إلى بيته . تناول حبلاً ودخل غرفته . تحسس الكرسي فوجده قوياً وعابساً . عمل مشنقة وسمعَ أمَهُ تناديه وتسألهُ : أين كانت البارحة ، وهل بات في أحد مراكز الشرطة ؟

أسرع بتعليق حبل المشنقة في المروحة . وجده قوياً وثابتاً ويصلح تماماً خاتمة لحياته . وضع المشنقة في رقبته ، وما عليه الآن إلا أن يدفع الكرسي ويتأرجح في الهواء . البارحة كان أقصى حلمه أن يدخل زنزانة . . !

اليست الحياة جميلة ؟ أليس غداء الوالدة لذيذاً ؟ يجب أن ينسى العجوز ودنانيرها . أحكم الحبلَ حول رقبتهِ وسمع خطوات أمه تقترب .

سمعها تقول :

    - أين أنت ؟ ألا يجب أن تذهب لتهنئة صديقك الملعون بسلامة الوصول ؟ !

ــــــــــــــــــــــ 4 – سهرة «قصص»، 1994.

«القصص: السفر – سهرة – قبضة تراب – الطوفان – الأضواء – ليلة رأس السنة – خميس – هذا الجسد لك – هذا الجسد لي – أنا وأمي – الرمل والحجر».















المقالات العامة

العناوين المميّزة

الدرب ـ قصةٌ قصـــــــيرةٌ: لـ عبـــــــدالله خلــــــــيفة

إلى أين يسيرُ هذا الطابورُ الدامي الأقدام ؟  لا أثر للقرية أو القصر أو البحر أو الحدائق أو النسمات الشمالية ، تلالٌ من الرملِ وحقلٌ من النخي...